قصة

انـثيــال


انثالت حبال الصمت تلف ذاته المتعبة المرهقة، من طول الرحلة، ووعثاء السفر القصي ومعاناته، تمتلئ الذاكرة باغتيالات شتى، لحلم الطفولة والفحولة والرجولة أيضا، ذاكرة أرهقت الإرهاق، وصلت إلى حد الترسب والطفو، لم تعد قوانين الطبيعة ولا الميتافيزيقا بقادرة على فك رموز المعادلة بعد أن غيب طرفاها في طرف واحد، أحادية الفرض والافتراض، ووحدانية المعالجة والمفاقمة، وضبابية السير والمسير، لم يكن من المصدقين أن الحلم يغتال، وأن الأماني وإن كانت سرابا تصادر، وأن يحاسب عما تخفيه الصدور، وأن تختلط الرؤية والرؤيا.

يسير في دروب القرية وأزقتها، كأنه يسيح منذ ألف عام أو يزيد، زاده الأماني وركابه شراع الحلم، تبدو للرائي أن الشوارع أكثر فخامة وتنظيما بل تنسيقا، بدت رحبة كأن لم تهجر بالأمس وتهمل، عيناه ترقص بهجة من روعة المشهد، عربات النار ودراجاته تلوي أعناقها في ترقب وانتظار، ظلها الباهت ينعكس على أديم الأرض العطشى لرخات المطر المنسية، قبعات زرق وخضر، وشيء من ألوان أخرى أفرزتها معامل الغرب وحواسيبه أغلبها قادر على سد منافذ الماء والرشح، تلوح الكابات وتُـلوِح خلف الطوابي، أشباح تتوالى وتتراكم وتتكرر، لم يعد يميز، يسير محاذيا محاذرا، محاذيا الرصيف محاذرا عيون العسس، قاده الحذر إلى أماكن الحذر إلى دائرة الفردوس الجحيمي، صاحت حناجر الرجال العتاة الجناة الزناة، بقسوة جلية واضحة، وبلغة آمرة ناهية، مرفوقة بحركة يعرف صريرها جيدا ويشم رائحتها، من خلل الذاكرة التي ذكرته بليل طويل دليل، شعر معه أن أحذيتهم الطويلة الغليظة العالية القاسية، قد استطالت وامتد سلطانها حتى لامست منه العقبين، استشعر الغربة المفرطة، وفي لحظة انشداه بدأ يحس أنه غريب، وسط غابة قصية، وأن أصوات الذئاب والكلاب والخنازير البرية، وزمزمتها تقترب إلى حد الملامسة والتعانق المفضي إلى دهاليز الردى، أراد الانفلات، بدأ السير يتحول خببا مفجوعا موجوعا، استفز هذا المراقب الراصد، وضاعف الشكوك والريب، وتبدأ سلسلة الأوامر من.. إلى.. اقتراب، تسليط.. حِول… تبدل الخبب إلى ركض مضطرب، أحس بعقب البنادق يلامس قدميه، صور شيخ القبيلة، تتفرس وتحملق ببلاهة، انقلبت فجأة إلى سخرية بطعم القلق، ونكهة الاضطراب، الرايات الصغيرة والأعلام المثلثة الشكل الزاهية بلون قرون الفلفل، مع هبوب نسائم الصبا تخفق الرايات استجابة لخفقات قلبه، تلفت يمنة ويسرة عله يجد نفقا يهبط به الأرض، أو سلما يرقى به السماء، كانت صورة البُوم المحنطة على جانبي الطريق تحرك أجنحتها، وتلوي أعناقها، وتترسم خطاه، الصور لبوم واحد بأشكال وأنماط مختلفة، تارة بلباس الاسكيمو وبياض الثلج، وأخرى بلباس الزولو والإنكا، وسواد الأغربة، وثالثة يتعرى إلا من منقاره الرهيب، بعينيه الدائرتين عبر الفلك والمحيط، تشبه حركتهما عيني ميدوزا والموناليزا، في رصدهما للمنشدهين إليهما ببلاهة وغباء.

المنعطفات والتواءات الطرق تعج وتمتلئ بأنماط محنطة وعيون راصدة، بعضها استسلم للكسل والتواكل، فاستند عليه الجدار بينما بدت في الجانب الآخر من طرف العالم أقدام تتدلى من العربة المشرعة الأبواب، وانهمك آخر في تلميع عنيف متوال لزجاج العربة ومرآتها العاكسة الراصدة، تقدم قليلا كدودة زاحفة تحاذر المناقير والعيون الكثيرة، لم يستطع تبين حقيقة ما يجري، والخطب الذي استدعى قلب المعتاد، كانت دماغه معطلة ـ دائما ـ بفعل أدوات القمع، التي أفقدته حواس كثيرة، وبدأ يعمد ويتعمد ويعتمد الغريزة المكتسبة ـ منهجا وطريقا ورفيقا، وأنيسا وأنسا، يجبر به ما تشتت من بقايا العقل وحطام الجماجم المنسلخة قرابين العسف وإتاوة البهتان، وإسهامات الرعية في تثبيت سيوف القهر والظلم ـ والتي جرب جدواها في مواطن عديدة ومتنوعة، اعتقد جازما أن المواقف متشابهة، ألم يفلت من شبح الحافلة التي سدت الطريق؟ وهبط منها أولو البأس الشديد، وساقوا القوم زمرا إلى مقالي القهر والتسلط، مراجل الوأد، حيث توسم الأنفس بوسم الانكسار، تذكر تحوله العجيب إلى برص متشبث بمواسير العادم، اختلطت أنفاسه الحرى بريح الزيت والمازوت، وتسلل مع جنح الظلام متوشحا بالخوف والإصرار، زحف حينا تسلق أخرى في معادلة الاتحاد والتوحد والتمثل والتفرد، لم يُمح من الذاكرة يوم الخيالة العظيم، والمشهد الدرامي عندما سدت الفرج، وتحول العرض السينمائي إلى الواقعية، وانقلب إلى مصيدة للفئران، لكن غريزته المفرطة التي حيرت المخبرين والبصاصين، كانت المخلص والمرشد، احتمل رائحة البول والقمامة، واستسلم لنداء الصراصير داخل ذاته مستدعيا قدراته التحولية العجيبة، واستطاع النفاذ بجلده عبر دهاليز الصرف الصحي ومواسيره وممراته، مستطيبا روت البشر، على أن تنكسر نفسه، مرت به سريعا تلك المفاصل الحيوية في حياة المواطن السعيد الجديد، ساقته الغريزة هذه المرة كفراشة نحو اللهب، اختلط الواقع بالحلم الكابوسي، بدأ يسمع أصواتا، اعتقد أنها لمكبرات الصوت المخنوقة، تخفت حينا وترتفع أخرى، الشيخ بعمائمه الكبيرة، وتمائمه المتنوعة، يحرق بخوره ويخرق طبلة أذنه ودنياه، لتستقر داخل لفافات دماغه المرهق، انتابه قلق وفوضى إلى حد الارتباك، بدأت الصور المحنطة والمعلقة، تخرج ألسنتها في سخرية بائنة، توالت الأصوات تداخلت، أحس بدوار وغثاء، حاول التركيز وإبعاد ناظريه عن حصار المناقير والمخالب، خبأ ذاته داخل ذاته، طرقات الأحذية، وصرير السحب للأقسام، و السيارات الصادحة النائحة، كلها تدور داخل جمجمته، تلبد سماؤه وغيمت مآقيه، وأمطرت مقلتاه كدرا وملحا أجاجا، تذوق طعمه القابض، عندما اختلط بريقه المتيبس على الشفتين، تناقصت المسافة الفاصلة بين المُرتاب ودائرة الحدث، السرادق الكبير، وأصوات المكبرات، والبراميل المرصوفة المرصوصة بالخرسانة المسلحة، بدأت الراجمات والمرجومين في تآلف وتواد، أحس بأجساد تلاصق جسده، اشتم فيها ريح العرق والتعرق، سار داخل نفق طويل، صنعته أجساد الموتى المنسلين عبر شوارع القرية وأزقتها، بدا السرادق أكبر مما رسمته المخيلة، سار مع الجموع، أصوات الأمر والنهي تتراكم تتوالى، اشتم منها رائحة القهر والعربدة، تشمم فيها رائحة السلطان والسلطة، انتابه شك في قدراته الغريزية التي طالما فاخر بها، وكما يسميها دائما الحاسة السادسة، التي نجته من مطبات العسس والحرس، ومكائد السلطان، تمنى أنه لم يغادر البيت ولا الدار، بتلقائية استمر في التقدم والهبوط مع جموع الهابطين، توغل في وهم المجموع، والسير في مطبات اليومي والمعتاد، سارت الجموع نحو دائرة الرقيب العتيد، يرى العصي الالكترونية تمرر على جسد المجموع المفرد، حينا تتأوه وأخرى ينبعث منها ضوء بأشكال عديدة، استطاع تمييز الأخضر والأحمر، طائفة من اللذين مروا يقذف بهم إلى دائرة الهدف، وثلة أخرى تنبذ ويلقى بها في العراء نحو الممر الضيق الطويل، سمع صوتا فضا غليظا، مصحوبا بالدفع الموجع (تحرك يا خرا) لم يكن يدري أنه قذر إلى هذه الدرجة، لكنه تيقن أنه المقصود، نبهه لذلك استجابة الجسد للفعل، مرت اليد الفاحصة بسائر جسده، وتوقفت عند جيوب جسده وهضابه، فسره بأنه فعل مقصود متعمد معتمد، اختلطت ألوان العصا، واهتزت وربت، وأنبتت فعلا مغايرا، ولم تعد للهش والنش، بل صارت مآرب أخرى لها، اكفهر الوجهان، التقت نظراتهما، الأول بحجم الخوف الساكن فيه ليل نهار، والثاني بمسلماته المتيقنة من سوء الكل، أدخل الرقيب يده في جيب الضحية، لتخرج سوداء مصحوبة بالسوء وصاح الأداة! الأداة!،.

تمدد اليوم، وتوالى الليل البهيم، تقرحت الأقدام، وتورمت الشفاه، تكررت الأصوات والمصوتين، تعددت الألقاب والمسميات، تكسرت العصي، توالى المحققون المزيفون والحقيقيون، ذبحت الصحائف والاعترافات، كانت الأداة قلاَم أظافر، والجريمة اغتيال صوت شيخ الحارة، المنبعث عبر الشموس والأقمار والدارات في محاولة فجة ومأجورة لقطع شرايين الاتصال والتواصل بين الشيخ ودراويشه.

في:8/4/2007

مقالات ذات علاقة

من خطف العيد.. من جعل العودة مستحيلة؟

سالم الكبتي

قصص قصيرة جداً

جمعة الفاخري

بسمة مغتالة

سعاد الورفلي

اترك تعليق