كثيرة هي الأغاني التي أدتها فيروز باللهجة اليومية المحكية إلى الحد الذي يصعب معه حصرها وتعدادها، أيضاً غنت فيروز العديد من قصائد الفصحى، وفي كلتا الحالتين أبدعت وقدمت الأستثنائي والمميز، ذلك أن صوت فيروز وحده قادر على إسباغ هالة من القدسية والسحر على أية كلمات سواء كانت فصحى أو عامية، فكل ما يلمسه صوت فيروز من كلمات يصير ذهباً ولا أهمية للكلمات والجُمل في حد ذاتها ولا للصور اللغوية إذا ما تغمدها الرنيم الفيروزي بجماله وعلوه، بل ان بعض القطع الموسيقية مثل مقطوعة “وقمح” التي لحنها زياد رحباني تكتسب أهميتها من تلك الدندنة التي تصاحب نغماتها والتي تطلقها فيروز بين الفينة والأخرى، وعندما نقول لا تهم الكلمات ولا الصور الشعرية ولا الجُمل المُغناة لا نعني أن فيروز ومن وراءها الرحابنة قدموا أغاني بكلمات فجة وليست في المستوى بل على العكس لأن الرحابنة مثقفين كبار إلى جانب أنهم شعراء متميزون على مستوى العامية والفصحى لا سيما منصور، ولم يكونوا ليسمحوا بأن تغني فيروز كلمات متدنية المستوى الفني بالإضافة إلى أن فيروز ذاتها تملك من الثقافة والرهافة والشاعرية ما يؤهلها لان لا تقع في اختيار قصائد متواضعة من الناحية الفنية، صحيح أن فيروز غنت قصائد تتناسب وذوق كل المستمعين كبارهم وصغارهم مُثقفيهم وذوو المستويات الثقافية المتواضعة، إلا أن هذه البساطة تنطوي على عمق وشاعرية وإيحاء قل أن نعثر عليهما في أي مشروع غنائي آخر وهي الأشياء التي لا يتعذر ملاحظتها في الكثير من الاغاني.
بذات السلاسة التي أدت بها فيروز الأغاني العامية أدَّت قصائد الفصحى لناحية النطق السليم للكلمات وإعطاء الأحرف حقها من الأهتمام والعناية والوضوح عند التلفظ بها متلبسة بالإيقاع واللحن، وعند الحديث عن أغاني فيروز بالفصحى لابد أن تقفز إلى الذهن أغنيات ك “زهرة المدائ ” التي كتب كلماتها الرحابنة وقاموا بتلحينها و”أعطني الناي وغني” المنتقاة من قصيدة المواكب لجبران خليل جبران ولحنها الملحن نجيب حنكش وأغنية “سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المُنى” من كلمات الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد وألحان الرحابنة وأغنية ” سكن الليل ” من اشعار جبران كذلك وتلحين محمد عبدالوهاب وأغنية “أهواك بلا أملِ” من ألحان وكلمات زكي ناصيف التي استمعت إليها مباشرة من فيروز ذات حفل فني أحيته في تونس العام 1998م.
و” يا عاقد الحاجبين” لبشارة الخوري – الأخطل الصغير – وألحان سليم الحلو و”بغداد والشعراء والصور” للرحابنة كلمات وألحان وكذلك أغنية “من قلبي سلام لبيروت” لجوزيف حرب ككلمات والرحابنة كألحان و”غنيت مكة” لسعيد عقل وألحان الرحابنة.
وفي كل ما غنت فيروز من قصائد فصحى لم تقع ومعها الرحابنة العظام في مطب الأدلجة والمناسباتية التي تنتهي الأغنية بانتهاءها ولم تغني لأشخاص ولم تؤله حاكم أو طاغية ونأت عن هذه المزالق وانحازت للبسطاء وغنت لكل العرب أينما وجدوا بل لا نبالغ ولا نشطط إن ذهبنا إلى أن فيروز غنت أغاني تُسجل اليوم ضمن التراث الإنساني والإبداع العالمي ولا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها في نطاقها المحلي أو العربي وفيروز اليوم ملكا للإنسانية جمعاء – بالمعنى الرمزي – وليس للعرب فحسب، وتفعل خيرا اليونيسكو وعلى غرار رعايتها للمعالم المادية لو ضمت أغاني فيروز إلى قائمة التراث الإنساني المشمول بالحماية والرعاية – نقول هذا من باب المزاح ليس إلا – لأن الأغاني حية وحاضرة ومحفوظة طالما هنالك من يستمع لها وينصت بدهشة وبشغف ويترقبها بتوق.
وبنفس القدر الذي كانت فيه الأغاني تُسمع وقت أنتاجها الذي يعود إلى سنوات وعقود خلت لا زالت تُسمع ذات الأغاني بنفس الشغف وتُذاع يوميا وتلقى آذاناً صاغية ووجدانات منتبهة وذوائق عطِشة، وبالرغم من عدم وجود احصائيات رسمية ودقيقة إلا أنني أكاد أُجزم بأن ساعات بث أغاني فيروز في كل الإذاعات المسموعة والمرئية العربية وغير العربية في العالم أجمع هي الأولى، ولا أُبالغ إن ذهبت إلى أن ساعات البث تفوق الأربع وعشرون ساعة في اليوم إذا ما قمنا بتجميع زمن بث الأغاني المذاعة.
ولمعرفة سمو وعلو صوت فيروز يكفي فقط الإنصات إلى أغنياتها بأصوات فنانين آخرين والمقارنة بين الأصل والنسخة المقلدة، فمهما أجاد الآخرون فيما يخص أدائهم لأغانيها في تقديري فإنهم لن يصلوا إلى مضاهاة الأصل، وهذا سر من أسرار جاذبية فيروز وتفوقها، ويستطيع أياً كان أن يؤدي أغنيات فيروز سوى أنها ستظل بلا روح لأن الفيصل في هذا الأمر هو الصوت وصوت فيروز غير قابل للتكرار ولا للأستنساخ.
وفيروز التي تقف اليوم على قمة هرم الغناء على المستوى العربي – على الأقل من وجهة نظري – أسهمت وبشكل كبير من داخل المنظومة الرحبانية في ذيوع هذا النوع من الغناء وترسيخه وهيأت بهذا اللون للانزياح عن الخط العام للغناء العربي الذي سار عليه طويلا، ونعني به الغناء باللهجات العامية ، مع ثلة من المغنين والمغنيات العرب في شرق الوطن العربي وغربه، وهي مع الاخوين رحباني اللذين استثمرا الصوت الفيروزي جيدا بعد أن وقفا على إمكانياته واكتشفا مساحاته ودرسا طبقاته بهذا الأختراق والتجريب الشجاع والواثق منحوا للغناء العربي نفسا جديدا وفتحا أمامه براحا كان في حاجة إليه حتى لا يصطدم بحائط الأجترار والمحدودية، وأسهم التنوع الهائل الذي قدمه الرحابنة صحبة فيروز والزخم الكبير في ترسيخ هذه التجربة وبناء قاعدة صلبة تقف عليها حتى اليوم بكل ثقة، فالمعرف أن فيروز غنت بالفصحى أكثر من أي مغني أو مغنية أخرى بحسب تقديري.
وفي كل ما غنت طغى صوت فيروز على كل ما عداه حتى أننا كمستمعين لا نكاد نلتفت إلى صاحب الكلمات وواضع الألحان أو أننا نفترض أنها – أي الألحان – للأخوين رحباني ونرتكن لهذا الأعتقاد تكاسلا مع أن فيروز غنت للعديد من الملحنين أمثال محمد عبدالوهاب ومحمد محسن وفيلمون وهبي وزكي ناصف والياس رحباني وزياد وغنت ألحانا تراثية كالموشحات، أي أن فيروز على ارتباطها الوثيق بالظاهرة الرحبانية التي قامت على ثلاثة أضلع قبل أن تنفرط بموت عاصم وكانت هي أحد أضلاع هذا المثلث، لم تكن حكرا عليهم ولم يبخل عاصي ومنصور بصوت فيروز لمن قدَّروا أنه يستحقه ولهذا قبلوا الألحان الأخرى التي لم يضعوها عندما التمسوا فيها تميزا واستأنسوا فيها تجديدا وإبداعاً. ومن كلمات الأخوين رحباني وألحانهما الشجية ودائما في إطار الفصحى غنت فيروز وأنشدت:
يا حبيبي كلما هبَ الهواء
وشذى البلبل نجوى حبه
لفني الوجد وأضناني الهوى
كفراشٍ ليس يدري ما به ِ
وللرحابنة ومن ألحانهم غنت صاحبة الصوت الذي لا يشيخ “يا كروما لنا” و”مُرَ بي” و”رجعت في المساء” و”بيتنا في الجزيرة / على ضفاف النيل” على سبيل المثال، ونحن نستعرض هذه الأغنيات والروائع التي لن تتكرر لا نستطيع إلا أن نتمثلها مُغناة ونستحضرها في أذهاننا، هذا فقط لأننا مررنا عليها سريعا، لا نستطيع أن لا نفعل ذلك ولا نمتلك إلا أن نتصورها عند تذكرها ونستمتع بها كما لو أننا نسمعها فعلا لأنها تسكن وجداننا وتستوطن ذوائقنا. ونحن بصدد الحديث عن الغناء الفصيح لفيروز لا بد لنا من الإشارة إلى قصيدة لملمت ذكرى لقاء الأمسِ بالهدب:
ورحتُ أحضنها في الخافق التعبِ
أيدٌ تلوِّح من غيب وتغمرني
بالدفء بالضوء بالأقمار بالشُهبِ
حيرى أنا يا أنا والعين شاردة
أبكي وأضحك في سري بلا سبب
أهواه !! من قال إني ما ابتسمت لهُ
دنا فعانقني شوقٌ إلى الهرب
نسيت من يده أن أسترد يدي
طال السلام وطالت رفة الهذُبِ.
وقصيدة:
أنا يا عصفورة الشجنِ
مثل عينيك بلا وطن
بي كما بالطفل تسرقه
أول الليل يد الوسن
واغتراب بي وبي فرحٌ
كارتحال البحر بالسفن
راجعٌ من صوب أغنية
يا زمانا ضاع في الزمنِ
أنا يا عصفورة الشجن
أنا عيناك هما سكني.
من أجمل ما غنت فيروز وقد كتب هذه الكلمات العذبة الشاعر علي محمد جواد بدر الدين، الشاعر الذي اغتيل مبكرا إذ لم يبلغ الأربعون حين طالته يد الغدر لأسباب سياسية لسنا في بابها الآن، ولهذه القصائد قصة تقول أن الشاعر الذي ينتمي إلى الطائفة أو الفرقة الشيعية في جنوب لبنان كان يقرض الشعر منذ مطلع شبابه إلا أنه لم يشتهر إلا بالشعر الديني والوعظي والوطني الذي قرأهُ وألقاه في عديد المناسبات، بينما كان يخفي غزلياته وأشعاره الرقيقة مثل القصيدة السابقة التي استعار فيها لسان امرأة وتقمص شخصيتها وهي في حالة عشق وصبابة، ولا يفصح عن هذه القصائد إلا لخاصتهِ كونه رجل دين في الأساس وينتمي إلى وسط محافظ وينحدر من أسرة ملتزمة دينيا وكان يخشى على مكانته الدينية من التخلخل والأنتقاص فيما لو أنهُ نشر غزلياته وشعره الوجداني واطَّلع عليها الخاصة والعامة، وحين أُتيحت لهُ فرصة عبر وسيط مطَّلع على أشعاره لتقديم هذه القصائد لمن يلحنها وافق بشرط ألا يُشار إليه لو لُحنت وتم أدائها من قِبل أحد المطربين، ويصادف أن تُقدم هذه القصائد لعاصي الرحباني الذي أعجبته فاشترى القصيدة الواحدة بمبلغ ثلاثون ليرة لبنانية وليقوم بعد ذلك بتلحينها وتؤديها فيروز بصوتها المخملي لتحصد النجاح ليس وقت صدورها فقط بل إلى حد الآن، وكما هو متفقٌ عليه لم يُشار إلى أسم كاتب القصائد، هذا بحسب بعض الروايات المتداولة التي اطَّلعنا على عينات منها، في حين ينسب البعض الآخر من أحباء الصوت الفيروزي كلمات هذه الأغاني إلى الأخوين رحباني اللذان كانا يوقعان قصائدهما بأسم الأخوين رحباني سواء كتبها عاصي أو منصور، ولم يُعطي الرحابنة تفاصيل عن هذه القصائد ولمن تعود الكلمات حتى وفاتهما، ونحن هنا نشير إلى الرأيين ونترك للتاريخ وللباحثين تحديد صاحب الكلمات الحقيقي، وسواء عرفنا من كتب أم لم نعرف فذلك لا يغير شيئا في الموضوع ولا يهم كثيرا، غير أن الذي عرفناه ويهمنا أن الكلمات أكثر من رائعة، وجميلة إلى حد بعيد وأن اللحن والأداء زاداها جمالا إلى جمالها وغير هذا اليقين قد لا نؤمن بيقين آخر.
هذه فيروز التي لا تمل الأُذن من الأستماع إلى أغنياتها مهما تكررت وبعكس أغاني المطربين الأخرين الذين سرعان ما نمل ونسأم منها عند تكرار الأستماع لها – مع بعض الأستثناءات القليلة – بالنسبة لبعض الأغاني التي يؤديها المطربين الآخرين، ولكن فيما يتعلق بفيروز فأعتقد – وأنا هنا أتحدث عن نفسي – ما من أغنية تصبح مملة وباعثة على الضجر مهما تكررت، فيروز التي نجد أنه من الإجحاف أن نطلق عليها اسم مطربة لأنها أكبر من هذا اللقب المحدود وأكبر من كل تسمية وأكبر من كونها مجرد مؤدية للأغاني، فيروز هي الكائن الذي لا تحتمل روعته وجماله، فيروز وكما قال أحد هؤلاء الذين تكاد ترديهم رهافتها وخفتها قال، أنها ملاك ضلَ طريقه نحو الأرض، فيروز غمامة تظللنا بالسلام والطمأنينة، فيروز وطن من لا وطن له وعاصم من القبح والبشاعة المتنامية في هذا العالم الطارئ والوجود الهش، فيروز ترياق لدحض الفجاجة المتفشية، فيروز قيثارة الحياة وأيقونة العذوبة ويُخطئ من يعتقد أن فيروز مجرد مطربة كغيرها من المطربين، ولا بد من وجود خلل جيني أو نفسي في تكوين من لا يعتقد بالصوت الفيروزي ولا تشده خيوطه الحريرية. ومن أشعار سعيد عقل الشاعر المعتد بشعره وبذاته والذي قيل أنه ارتبط بعلاقة حب شخصية مع السيدة فيروز بعد وفاة زوجها عاصي، هذا عدا عن عشقه لفنها ومساهمته في التأسيس لهذه الأسطورة، من أشعار سعيد عقل غنت:
مُرَ بي يا واعدا وعدا مثل النسمة من بردى
تحمل العمر تبدده، آه ما أطيبه من بددا.
إلى آخر القصيدة الجميلة التي جادت بها قريحة سعيد عقل، ولا أعتقد أن أحداً من المهتمين لا يعرف مكانة عقل في الشعر العربي الحديث، وكما كتب سعيد عقل لفيروز بالفصحى كتب لها بالعامية وأغنية يارا الـ جدايلها شقر فيهن بيتمرجح عمر، من كلمات هذا العبقري.
وغنت فيروز صاحبة الصوت الذي يلائم الكثير من الألوان والمقامات الغنائية قديمها وحديثها، الشعبي والتراثي الفلكلوري والجاز والعتابا والميجانا والدبكة والحوارات المغناة واللوحات الطربية ذات الإيقاع السريع واللون السيمفوني والترتيل والإنشاد الكنسي وغيرها، غنت للعديد من الشعراء العرب المشهورين مثل الياس أبوشبكة وإيليا أبو ماضي وبدوي الجبل والشاعر السوري عمر ابو ريشة و رشيد معلوف والد الروائي العالمي امين معلوف والأخطل الصغير الذي غنت له أجمل قصائده التي تقول بعض أبياتها:
يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا
كعاشق خط سطرا في الهوى ومحى.
وصولا إلى الشاعر اللبناني الأشهر، جبران خليل جبران الذي أدت من كلماته المنتقاة من قصيدته المواكب أغنية:
أعطني الناي وغني
فالغناء سر الوجود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود.
ولكن هذه المرة من ألحان الملحن اللبناني نجيب حنكش، وأيضا من ألحان محمد عبد الوهاب وكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي غنت:
يا جارة الوادي طربتُ وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك.
وأدت لنزار قباني من ألحان الرحابنة بعد تحوير بضعة كلمات لتتناسب واللحن أجمل قصائده التي يقول مطلعها:
لا تسألوني ما اسمه حبيبي
أخشى عليكم ضوعة الطيوب.
ولنلاحظ دوما دقة الأختيار وجماليته وقوة التعبير وأصالة الصور الشعرية لأنه وكما أسلفنا وراء هذه الأختيارات الجميلة يقف عباقرة ومثقفين جمعوا ما بين موهبة قرض الشعر وتذوقه وما بين الموسيقى وإمكانياتها التعبيرية اللامحدودة.
هذا عن شعراء العصر الحديث ومن قصائد الشعر العربي القديم الذين عشقه الرحابنة وعثروا بداخله على كنز حقيقي أغنى التجربة ورفد الظاهرة الغنائية بالدرر واللآلئ، اختاروا قصائد عنترة العبسي التي تقول:
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركمُ
ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا
لكنه راغبا فيمن يعذبه
وليس يقبل لا لوما ولا عذلا.
وكذلك أبياته الشهيرة.
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف
لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ.
وغنت فيروز للشاعر الأموي جرير أشهر أبياته التي تقول:
إن العيون التي في طرفها حورٌ
قتللنا ثم لم يحيينا قتلانا
يصرعن ذي اللب حتى لا حراك بهِ
وهن أضعف خلق الله إنسانا.
وضمن ألبوم “مش كاين هيك تكون” غنت فيروز للمتنبي شيخ الشعراء وإمامهم بعض الأبيات التي تجمع ما بين الحكمة والغزل:
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
وعذِلتُ أهل العشقِ حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق
والمعروف عن المتنبي أنه قليل التغزل بالمرأة مقابل غزارة انتاجه في المدح والأغراض الشعرية الأخرى كالرثاء والفخر والحكمة. أيضا ضمن الألبوم المذكور صدحت السيدة الأيقونة بشعر الشاعر العباسي أبو العتاهية:
ولي فؤاد إذا طال العذاب به
هام اشتياقا إلى لقيا معذبه.
ودائما ومن ألحان الملحن السوري محمد محسن غنَّت:
لو تعلمين بما أُجنُ من الهوى
لعذرت أو لظلمت إن لم تعذري
لا تحسبي أني هجرتُكِ طائعاً
حدثٌ لعمركِ رائِعا أن تُهجري؟
ما أنت والوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم تمطرِ.
وهي الأبيات العائدة لجميل بثينة:
جاءت معذبتي في غيهب الغسقِ
كأنها الكوكب الذري في الأفقِ.
شعر لسان الدين ابن الخطيب
و…
كنت يا قلب قد وعدتني أني
إذا ما تبت عن ليلى تتوب
فها أنا تائبُ عن حب ليلى
فمالك كل ما ذُكِرت تذوب.
لقيس ابن الملوح.
ضمن هذا الألبوم وهي الأبيات المتنوعة والمتفرقة لناحية الشعراء والمجتمعة والمتحدة لناحية موضوعاتها التي تتغزل بالمرأة وتستجلي عذابات الحب ومرارات الشوق واللوعة التي جاءت بهيئة لوحات غنائية في ألبوم “مش كاين هيك تكون” الذي غلبت عليه وطغت الجملة اللحنية العائدة للمتمرد زياد الرحباني مع اغنيات مثل “سلملي عليه” و”ضاق خلقي” و”أشتقتلك” و”مش كاين هيك تكون” و”ومقطوعة وقمح الموسيقية”، وبالتالي عملت – أي الجملة اللحنية – من حيث لا تدري على إقصاء هذا اللون التراثي الرصين وتغييبه، ومع أن الألبوم حاول الجمع ما بين القديم والحديث في إطار وقالب واحد إلا أن اجتماعهما طرح عدة استفهامات بخصوص انسياق الصوت الفيروزي وراء جنوح زياد وتجريبيته وميله الشديد للمغامرة ومحاولة تجاوز السائد والمهيمن والقفز فوق المتداول والمُتاح واجتراح فن مختلف يخضع لرؤيته الفنية ويوافق تربيته الموسيقية وميوله التي لم يتدخل فيها أبويه عندما كان غراً. وقد أستنكر البعض تورط فيروز في هذه التجربة سواء من ناحية الألحان التي رأوا أنها لا تناسبها كونها أيضا تميل للإيقاعات الشبابية الراقصة أو من ناحية الكلمات الجريئة الي يرى البعض أنها لا تليق بفيروز ولا تتماشى حتى مع عمرها الذي غنتها فيه، غير أن أحداً لا يستطيع إنكار اللمسة التجديدية الجميلة التي وضعها زياد بإعادة توزيعه لبعض أغاني فيروز القديمة التي أحياها من جديد وأسبغ عليها من روح العصر والإيقاعات الحديثة. كذلك غنت فيروز من قصائد الشاعر العربي القديم، الصمة القشيري وألحان الرحابنة في الحنين إلى الديار:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي خشية أن يتصدعا.
وللشاعر المتمرد الذي دعا مبكرا وعبر شعره إلى التخلص من نبرة التباكي والشكوى والأنين والوقوف على الاطلال في الشعر وكتب شعرا يتخذ من الواقع واليومي مادة له، ومن يكون هذا الذي وصفناه غير أبو نواس الذي اختار له الرحابنة أبياتا تتسم بالخفة والطلاقة لتغنيها فيروز وتتغمدها بصوتها الرخيم:
حامل الهوى تعب يستخفه الطرب
إن ذكر حب لهُ ليس ما به لعب
تضحكين لاهيةً والمُحبُ ينتحب
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
كلما انقضى سببا منك عادني سببٌ.
مع تحوير بعض المفردات لتلائم اللحن والأداء.
واهتم الرحابنة بفن الموشحات إلى جانب اهتمامهم بالشعر العربي القديم لـأنهم كانوا على صلة وثيقة بالتراث فقدموا نماذج أصيلة منه بصوت فيروز بعد أن وجدا فيه ما يعبر عن توجهاتهم الفنية ويتشابه وميول الأغنية لديهم لناحية تجسيد الروح الرومانسية المتمثلة في وصف الطبيعة والتغزل بالمرأة، ولأنهم التمسوا فيه بعض ما يحبذونه من مظاهر فرجوية وإمكانيات مسرحية فقاموا من ثم بتطويره بلمسات حديثة على صعيد التوزيع الموسيقي واللحن والرقص التعبيري والإضاءة والأزياء، وهي مؤثرات بصرية انتبه لها الرحابنة واهتموا بها كثيرا وما كانت لتفوتهم فرصة استثمارها لأنهم مسرحيين كبار ولا أعتقد أن هذه الخصائص الفنية الإضافية كانت ستغيب عن أذهانهم عند الأشتغال على الموشحات الأندلسية التي أخرجوها في ألبوم أندلسيات.
أدت فيروز أبيات الحصري القيرواني الشهيرة:
يا ليل الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
رقد السمار وأرقه
أسف للبين يردده.
أما أول ما غنت فيروز من فن الموشحات فهو موشح:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلسِ.
العام 1960 في دمشق.
لما بدا يتثنى قضى الصبا والدلال
حبي جماله فتنا هل من وصال
أومأ بلحظه أسرنا بالروض ما بين التلال.
هو الموشح الذي وضعه الشيخ محمد عبدالرحيم في مصر وقدمته فيروز عام 1960 في معرض دمشق الدولي بعد أن تم مزجه بموشح لسان الدين ابن الخطيب ” جادك الغيث “. ولسيد درويش قدم الرحابنة موشح “يا شادي الألحان آه اسمعنا رنة العيدان” وغنت فيروز كذلك موشح أبي خليل القباني الفنان السوري الذي يقول فيه:
يا غصن نقاء مكللاً بالذهبِ
أفديك من الردى بأمي وأبي
إن كنت أسأت في هواكم أدبي
فالعصمة لا تكون إلا لنبي.
ومن موشح لسان الدين ابن الخطيب الشاعر الأندلسي الكبير “جادك الغيث” الذي كتبه في أثنين وخمسون بيتا اختار الرحابنة عشرة أبيات يقول بعضها:
في ليال كتمت سر الهوى
بالدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها وهوى
مستقيم السير سعد الأثر
حين لذ النوم شيئا أو كما
هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما
أثرت فينا عيون النرجس.
وقد بلغ اهتمام الرحابنة بفن الموشحات إلى حد كتابة الموشح وتقديمه، فموشح:
بلغهُ يا قمر إذ يُنشر الخبر
أني غداة غدٍ يغتالني السهرُ
يا ليت يجمعنا للشوق موعدنا
فالشوق يزرعنا والبعد يحصدنا
البيدُ تعرفه والليل والقمرُ.
هذا الموشح من تأليف الرحابنة أنفسهم.
هذا غيض من فيض مما غنت فيروز من قصائد عمودية بالفصحى والموشحات ولا أتذكر إني استمعت لفيروز وهي تغني قصيدة نثرية هذا إذا ما استثنينا الشذرات النثرية المختارة من كتابات جبران خليل جبران التي لا تلتزم تماما بالبناء التقليدي للقصيدة العربية والتي تقول كلماتها: في ظلامِ الليل.. أناديكمْ.. هل تسمعونْ؟ مـاتَ أهـلـي.. وعيونهم محدِّقةٌ في سوادِ السماءْ.. في ظلامِ الليل.. أناديكمْ.. هل تسمعونْ؟ مـاتَ أهـلـي.. وغمرت.. تلالَ بلادي الدموعُ والدماءْ.. في ظلامِ الليل.. أناديكمْ.. هل تسمعونْ ؟ مـاتَ أهـلـي.. مـاتَ أهـلـي.. والويلُ لأمةٍ.. كثُرَتْ فيها طوائفُها.. وقلَّ فيها الدينْ.. والويلُ لأمةٍ.. تلبسُ مما لا تنسجْ.. وتشربُ مما لا تعصِرْ.. والويل لأمةٍ.. مقسّمةٍ وكلٌّ ينادي أنا أمة.. الـويـلُ لـهـا.. يا بني أمي.. الحقَّ الحقَّ أقولُ لكمْ.. وطني.. يأبى السلاسلْ.. وطني.. أرضُ السنابلْ.. وطني الفلاحونْ.. وطني الكرّامونْ.. وطني البناؤون.. والغار والزيتونْ.. وطني هو الإنسانْ.. وطني لبنانْ.
وبالتأكيد نحن لسنا بصدد تقصي كل ما غنت فيروز بالفصحى وتتبع خارطتها الشعرية لأنها أوسع من أن نحيط بها أو تحتويها هذه المقالة المحدودة، ولكننا فقط ابتغينا من وراء هذا الجهد أن نبرز هذا الملمح ونضعه في إطاره الفني وهدفنا إلى الإحاطة بالتنوع الذي قامت عليه الظاهرة ككل وتناولنا فقط جانبا من جوانبها المتعددة.
أختم هذه المقالة التي أعتبرها ردأ لبعض الجميل الذي جادت علينا به فيروز التي كانت قبل أن نولد وستظل إلى أن يقضي الله أمرا كان مقدراً ونحن نحتفل بعيد ميلادها الواحد والثمانون، وآمل ألا أكون قد أطلت عليكم فيها، أختم بهذا الموقف الطفيف.
كنت ذات صباح أٌوصل ابني إلى المدرسة فقمت بتشغيل مذياع السيارة الذي كان وعبر إحدى القنوات المسموعة يبث اغنية جايبلي سلام عصفور الجناين التي تبدأ بموال شجي تقول فيه السيدة أوف.. أوف.. أوف وحين انهت هذه الأحرف صفَّقَ لها الجمهور لأن الأغنية كما يبدو كانت مسجلة من حفل حي، وحين سمِعَ ابني التصفيق علَّقَ قائلاً – وهو على فكرة من الأجيال الجديدة التي لا تستهويها إلا كرة القدم والألعاب الإلكترونية وأفلام الكرتون المليئة بمشاهد العنف ولا علاقة لها بالموروث الفني -، علَّقَ قائلا بتعجب، فقط لأنها قالت أوف.. أوف.. أوف.. يصفق لها الجمهور ! فضحكت وقلت له، إن أي صوت يصدر عن حنجرة فيروز ينبغي أن يُقابل بعاصفة من التصفيق وليست هذه الأوف فقط، هو يقول هذا لأنه لا يعرف فيروز ولا تمثل له شيئاً وأنا أرد عليه بهذا الرد لأنني أعرف فيروز حق المعرفة.
1/12/2016
تعليق واحد
[…] الرحابنة أيضاً بفن الموشحات إلى جانب اهتمامهم بالشعر العربي القديم لأنهم كانوا على […]