دراسة تحليلية نقدية
إعداد/ أمينة خليفة هدريز
المشرف/ أ.د. تانكو | كلية الدراسات الإسلامية – الجامعة الوطنية الماليزية 2013 – بانغي
ملخص البحث
تناولت هذه الدراسة بالتحليل والنقد دراسة أدب السجناء من خلال ديوان مرافعة السيوف للشاعر الليبي إدريس ابن الطيب، فقد كتبت قصائد هذا الديوان في أربعة سجون سياسية ليبية، إذ سلطت هذه الدراسة الضوء على مضامين قصيدة السجن وأهم الموضوعات التي تناولتها وكيفية صياغة الشاعر لهذه المضامين وتشكيله الجمالي في بناء قصيدته، ومن أهداف هذه الدراسة البحث في القصائد التي كتبت داخل الزنازين وإغفال القصائد التي كان موضوعها السجن ولم تكتب داخل الزنازين ومن أهداف الدراسة أيضا إبراز أهم الموضوعات التي تناولها هذا الديوان وطريقة الشاعر في كتابة شعره، وقد اتخذت هذه الدراسة أداتها المنهجية من المنهج التحليلي الفني والمنهج التاريخي، وتوصلت لعدة نتائج منها: إن ديوان مرافعة السيوف يغلب عليه طابع الحسّ النضالي في مواضيعه ولغته، فهو يعبر عن مرحلة زمنية عاشها الشاعر داخل السجون السياسية الليبية بكل تداعياتها المختلفة، فعبرت هذه القصائد عن زمنها ولحظتها التاريخية والنفسية وارتبطت بقضايا وهموم ذاتية وقومية وإنسانية ورصدت أحداثا ووقائع داخل تلك الزنازين المرعبة، وثّقها الشاعر بشكل شعري كان أساسه لغة فنية محمّلة بالمجاز والصور الشعرية التي عكست حالة ابداعية فنية عاشها الشاعر.
المقدمة:
الحركة الأدبية الليبيبة كغيرها من التجارب الأدبية العربية والعالمية مرّت بتجربة أدب السجون، هذه التجربة رغم مرارتها شكّت أدبا منبثقا من رحم المعاناة في قلب السجون وعذاباته وآلامه.
أدب السجون السياسي هو الأدب النضالي الذي ولد من عتمة وظلام الأقبية والزنازين ومن خلف القضبان الحديدية، وخرج من رحم الوجع اليومي والمعاناة النفسية والقهر الذاتي المعبر عن مرارة التعذيب والألم والتنكيل وحلم السجين وتوقه لنور الحرية.
الزنازين الضيقة والخانقة بهوائها الراكد الرطب وظلامها الدامس ووحشتها تطبق على صدر السجين وتخنق أنفاسه، ولكن رغم ذلك فإن أفقه الإبداعي يتسع وتتفتح قريحته ليمتشق قلمه ويعبر عن واقعه، وحياته، ومعاناته اليومية في الأسر ويسطر ملامح القوة والصمود والتحدي والبطولة في نصوص صادقة وتجربة مريرة، كل ذلك بعيدا عن أعين الحراس وبعيدا عن سطوتهم وسياطهم، فالجسد مسجون والروح طليقة، “فإيمان الشاعر السجين برسالة الكلمة وبالوطن وبالحرية وكرامة الإنسان يجعله يحتمل ذلك المصير المظلم المجهول، تحت وطأة التعذيب، بل يهبه القدرة على الصمود والتحدي والصبر ومواصلة النضال بالحرف والكلمة وينحت بكتاباته قصائد تجسد معاناة ليالي مظلمة وأيام مرعبة “( قدور سكينة 2007 الحبسيات في الشعر العربي 134 )
تلك القصائد التي كتبت في ظل ظروف خاصة ارتبطت بتجربة شديدة الخصوصية هي تجربة الحبس بما تحمله من دلالات المنع والقهر والقمع والحصار والتقييد والتعذيب الجسدي والنفسي، فكل ما كتب داخل الزنازين من قصائد كان صاحبها حريصا على تمريرها من وراء القضبان أو الاحتفاظ بها في أماكن سرية داخل زنزانته، هي موضوع هذه الدراسة التي تجسّد واقع السجن وترصد لنا ما يحدث خلف الأسوار، وتصور لنا واقع الحياة داخل الزنازين، فتصف لنا أنواع التعذيب والتنكيل التي تمارس ضد السجناء، والإيقاع اليومي لحياة السجين وحالته الجسدية والنفسية، وتواصله مع أهله وأحبته واهتمامه بما يحدث خارج السجن من قضايا.
في دراستنا هذه سيتم البحث في ديوان مرافعة السيوف للشاعر إدريس بن الطيب الذي كتب قصائده في السجون الليبية في الفترة بين 1979 وإلى الفترة 1987، والتي ستكون على النحو التالي:
- أولا: أهم الموضوعات التي تناولها الديوان.
- ثانيا: البحث في جمالية وفنية القصائد وأساليب الشاعر في صياغة مضامينه.
أولاً: المواضيع التي انشغل بها الديوان
تمهيد
إدريس بن الطيب شاعر ليبي معاصر، ولد بمدينة المرج الليبية سنة 1952 م درس بالمعاهد الدينية في كل من بنغازي والجغبوب، وحفظ القرآن الكريم في سن الثانية عشر وتحصل على دبلوم الدراسات الدينية من معهد أحمد باشا الديني في طرابلس سنة 1968 م، عمل صحافيا منذ 1971، وكتب الكثير من المقالات المختلفة والقصائد الشعرية والقصص القصيرة في الصحف الليبية والعربية، منها: المرأة الجديدة، الفجر الجديد، والأسبوع الثقافي، والناقد، والعرب، والقدس.
صدر له دواوين شعرية:
- تخطيطات على رأس الشاعر 1976.
- العناق على مرمى الدم 1990.
- ملك متعب 2000
- عناد الذخيرة 2003
- مرافعة السيوف 2009
- كوة للتنفس 1997
- وكتاب فكري بعنوان تفكير 2002
ترجمت قصائده وقصصه القصيرة إلى الإنجليزية، والإيطالية، والفرنسية، والهندية.
اعتقل عام 1978 بتهمة تأسيس وعضوية وتنظيم حزب سياسي محظور كمتهم أول، وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد ثم أطلق سراحه عام 1988 م
عمل مستشارا ثقافيا في روما من سنة 1993 إلى سنة 2000، تم مستشارا ثقافيا في الهند من سنة 2000 إلى 2005.
وقد توزعت سنوات سجنه العشر بين سجون ليبيا: مديرية الأمن، مركز الشرطة بنغازي، الكويفية بنغازي، الجديدة طرابلس، الحصان الأسود ( بورتابينيتو ) طرابلس، أبو سليم، طرابلس. (مليطان عبد الله، 2000، 241 ).
أهم الموضوعات التي اشتغل عليها الشاعرإدريس ابن الطيب، أو انشغل بها ديوان مرافعة السيوف.
الجدير بالملاحظة إن ديوان مرافعة السيوف احتوى على قصائد توزعت كتابتها بين مجموعة من السجون، فنجد على سبيل المثال، قصيدة ( أشرق حتى تاتي ) سجن الكويفية 1979، وقصيدة ( لحظة أن ينفلت القيد ) سجن الجديدة الإنفرادي 1979، و(عن أحزان الغابات وليلى ) سجن الحصان الأسود بورتابينيتو 1981، وقصيدة ( مرافعة السيوف ) سجن أبو سليم 1986.
ففي كل قصيدة من قصائد هذا الديوان ثمة موضوع ما أو قضية اشتغل عليها الشاعر تركزت جلها على صمود وصبر هؤلاء المساجين وصراعهم الدائم من أجل ” أن لا يتآكل العمر في عفن ووحشة الزنازين ” ( بو كليب، جمعة 2008، 17) والإبقاء على شعلة أرواحهم متقدة دون أن تطفئها عفونة ورطوبة السجون، ففي قصيدة( لحظة أن ينفلت القيد ) يخلق الشاعر عالما أخر تنفلت فيه قيود الروح التي لا حرّاس عليها لتحلّق عاليا حرة طليقة، أنه نوع من العراك اليومي الذي يعيشه السجين في محاربة الانكسار، فإحساسه بأهمية حرية قلبه وروحه رغم القيود والأسوار العالية والعزل خلف القضبان الحديدية لجسده هي معركته التي يخوضها كل يوم، إذ يقول في هذه الأبيات:
ينفرد التوق في ساحة السجن بالأضلع المُستسِرّة
أوجاعها
تم يكتظ منسرحا في تجاويف يقرعها بالتوجس
يضطرم الوجد
ينزف في الصمت في قلب شوك التوحد
يزرع خلف سياج الزنازين كل آمانيه
رفرفات الفؤاد السجين تصفق أجنحة للتواصل
في لحظة الحلم ينعتق الصدر
والقلب طير يغافل حراس هذا القفص
وثبة وثبة
يتوامض وجهك مبتسما بالحضور الشديد
يضج الحنين إليك سيولا من الدمع
ترتجّ في الصدر
استعصت على الانبثاق وحجّرها عنوان المرارة
منهكة كل يوم وجوه الرفاق
ولا نعرف في السجن لون المرايا
ولكنني منهك مثل كل الوجوه.
قد يثير البعض هذا التساؤل، ما شكل الحياة داخل الزنزانة؟ وماذا يفعل السجناء طوال الوقت؟
إن ساعات طوال تمتد لأيام وليالي وشهور وسنوات داخل الزنازين تمضي مثقلة بالهموم والأوجاع، ولكنها حياة تحمل في داخلها الحبّ والأمل، فالزنزانة هي عالم السجين رغم ضيق مساحتها ولكنها تتسع لأحلامه الكبيرة وعلاقته الودّية برفاق المحنة، فقد حاول الشعراء نسيان أو تجاهل رتابة الحبس وضيقه وتضييقه بصناعة عوالم أخرى تجاوزوا بها الجدران والحواجز والحراس والقيود؛ منها تواصلهم مع بعضهم وصناعتهم مع الرفاق حياة جديدة داخل السجن وتحولهم لنادٍ أدبي وفني، ففي قصيدة (معزوفة الودّ والمرافقة) المهداة إلى صديق الشاعر ورفيقه في الزنزانة الشاعر محمد الفقيه صالح، يقول الشاعر:
علّمنا السجن أن تستحيل المعية فيه محادثة
وكتيبة شِعر
وجيشا من الأغنيات
تاجا على جبهات الزمان، عروسا تهدهد أحلامهم
ويفيض بصوتك مشتعلا بابتهال وعرس
معزوفة الوجد ترفع ألحانها للسماء
جميل بلقياك هذا المساء
وقلبك مزدحم بالمودّة مثل ازدحام الزنازين بالأمنيات (سجن الجديدة 1979 )
يتمرد الشاعر السجين على حالات الخمود والكآبة والفتور التي تصنعها حياة السجن، فلم تفلح الجدران الخرساء والحواجز والحراس والقيود، وكل ما أعد داخل السجون في شّل رغبة السجين وقدرته على التواصل مع السجناء في الداخل والآخرين في الخارج. يقول الشاعر في قصيدة معزوفة الودّ والمرافقة:
عند الظهيرة تفتقد الشمس
تأتي إلّي
أغضب منها
أحاورها خلف قضبان نافذتي
وأحاول إقناعها بالذهاب إليك
تجيئك قبل المغيب
فتهديك قبلتها بارتعاش التعجل والخوف
تذهب
إنّ المواجع تشتد حيت تغيب
فيمسح شايُ المساء الكآبة
نغرق بين الأحاديث
ينبث عبر الممرات شِعر
فيربط شوق زنازيننا للتسامر ( سجن الجديدة طرابلس 1979 )
لأنّ الحبس يقوم أساسا على الحرمان من الحرية ” ولأن حرمان أي جانب من جوانب الحياة وحاجاتها الأساسية يدفع بصاحبه بالضرورة إلى تعويض محتوم ” ( كازونوف، جان، سيكلوجية أسير الحرب 1983، 37 (، فنجدهم يمتطون أحلامهم كنوع آخر من التعويض ينعمون فيها للحظات بقرب محبيهم، لأن الحلم لايقدم للسجين مشاهد من عالمه الحاضر ولكنه يقدم له غالبا ” رؤى تحمله إلى ما بين أسرته، وإلى بلده بالقرب من أصدقائه ومعارفه فهو يجد نفسه حاضرا في كل ذلك الماضي ” )كازونون جان، 1983، 48(.
حضور الشمس في قصائد الشاعر وإيقاع تكرارها لها معادل رمزي وحقيقي في الوقت نفسه، فهي ترمز للحرية التي ينشدها كل سجين، وهي فعلا حزمة النور والضياء التي تفتقدها الزنازين، لذا فهي الزائر العزيز الذي لا يستطيع الحرّاس منعه من التسلل إلى النوافذ الضيقة والعالية أو الكوّات الصغيرة المعلقة في ركن من أركان الزنزانة المظلمة، فقد عبّر الشاعر عن زيارة الشمس السريعة والخاطفة لتكون المنفذ لرؤية حلما يلتقي فيه بحبيبته التي تسللت إليه عبر هذا الحلم لتكون رفيقته في الزنزانة الانفرادية، في قصيدة ( نافورة الشمس ) بقوله:
تنسّل نافورة الشمس في السّر
تاركة جسدي يتلمظ نشوته
تشهر زنزانتي في مواجهة الحلم جدرانها
وحضورك في الذات جذر المسّرة
لايرهَبْ السجن
يصبح مركبتي للوصول إليك
فأجري إلى (شاطئ الحلم ) أسأل عنك
يكتم ضحكته البحر حين يراك تسللت سّرا
لتغلق كفاك عيني
أعلم أنك شمس تجيئين دون مغيب
وأن السجين بزنزانة الانفراد سجينان رغم الحراسة. ( سجن الجديدة الانفرادي 1979).
الخوف والوحشة هما العدوان اللّدودان للسجين السياسي ففي ديوان مرافعة السيوف تصدمنا مشاهد التعذيب ومصادرة الأجساد، ومحاولات التدجين التي كان يستخدمها الحراس لكسر إرادة السجين فتدخلنا قصيدة (غناء مع سبق الإصرار ) إلى متاهات ودهاليز السجن لتكشف لنا في صورة فنية تكثف اللحظة وتصف لنا رحلة التعذيب التي كانت تمارس ضد السجناء وأساليب تعذيبهم، يقابله صبرهم وصمودهم وإصرارهم على التحمل وعدم الانكسار. إذ يقول الشاعر:
لا أرى ما يتردّى في وهاد الموت
ولكني أرى ما يتخلقّ
وإذا كان شعاع الشمس لم يخترق الجدران حتى الآن
فالقلب نهار يتألق
شطُّ من الوعد
لا يصعد الراكبون إلى الفلك إلا إذا دمدمت
مُهرة الريح فيهم
وهذا الصهيل دمّ فاغر جرحه
وهنا كتلة من جدار بليد يصارع أسمنتهُ
نزق الشِعر فينا
يسّمون جرح المدينة دُمّلة السوط هذه:
معتقل ( الهضبهْ )
يا ترى لمن الغلبهْ؟
للظلام المجدّف نحو النهاية؟
أم للعيون المشّع تمردها في الوجوه المروعة المتعبه؟
لحم هذي البلاد هنا يتعفن. ( سجن أبو سليم 1986 )
وفي السياق ذاته تظهر الأبيات الشعرية أساليب التعذيب ووسائله كالسوط و(الفلقة )، وهي الجلد بالعصا أو السوط أو أي شيء مشابه على القدمين المرفوعتين للأعلى ( قباصة عبد العظيم 2013، قساوة القيد صلابة الروح 150. ) في مفارقة تثير الدهشة وهي مقاومة التعذيب بعدم الصراخ أو الاستجداء وهو ما يزيد السجّان حنقا وغضبا ليضاعف له العذاب في حفلة التعذيب تلك كما كانوا يسمونها، وهذا ما وصفه أحد السجناء ” واستمر الضرب وهم يتناوبون على ذلك حتى لا تضيع المتعة على أي منهم، استمر جريان الدماء على ساقيّ، وقد كان مع كل جلدة ينثني ذلك السوط النحاسي ليلتفّ على قدميّ من الجانبين، وفي كل مرة كان ينغرز في الجلد ومع كل رفعة كان يعاد تمزيق اللحم، وقد تمكنت من الإصرار على عدم الصراخ طوال تلك الحفلة الدموية، وكان ذلك يضايقهم كثيرا، إذ في الوقت الذي ينتظرون فيه من الضحية الصراخ وطلب الرحمة والترجّي والاستعطاف وهم مستمتعون ومتلذذون بسماع التأوه والاستنجاد، ويرون أن عدم فعل ذلك لا يعني إلا التحدي والكبرياء التي يجب كسرها ” ( قباصة عبد العظيم 2013، 155 ). وقد رصد الشاعر في صورة شعرية تراجيدية تحمل هذه المعاني في قوله:
لا تخافوا من الحرس
انتزعوه (وفلقته) من تخوم احتفالاتكم
ثم غنوا مع الطبل أو مع طرقعة السوط
لا فرق
إيقاعنا يتخلّق خارج هذا المكان
ونبض المدينة يمنحنا ذروة المهرجان ( سجن أبو سليم 1984).
والشعر يجهد نفسه لتحويل الواقع إلى علاقة ذات معنى ” لأنّ الشعر لا يقبض على معنى الكلمات، وإنما على معنى الأشياء الموجودة في الواقع ” ( العسري محمد، 2008 الشعر العربي المعاصر 53) نحت الشاعر بكلماته وصوره الفنية إيقاعا نضاليا تحدّثت فصوله المشرقة عن النضال الصامت للسجين في مقاومة جلاده في صورة جدلية شاهدة على وقائعها جدران الزنازين الخرساء لجلاد يمتلك كل آلات التعذيب وأنواعه، ويمتلك القانون الذي يستصدر من أحكامه ما شاء لممارسة المزيد من القمع،في مقابل سجين أعزل لا يمتلك إلا جسده وروحه التي يسعى لأن تبقى متقدة لا تنطفئ جذوتها مما يتعرض له من أذى جسدي ونفسي، ويدعو رفاقه إلى الصبر والتحمل بالوقوف في وجه جلاده شامخا متحديا ولو بابتلاع الألم والصمت كأدنى رد فعل أو كعقاب.
لا تقتصر قصائد ديوان مرافعة السيوف على وصف حياة السجن ورسم تفاصيل أيام وليالي داخل الأقبية، ولكن نجد أن الشاعر تفاعل من داخل زنزانته مع أحداث ووقائع خارجية، تمثلت في اعتداء أمريكا بغارة جوية على مدينتي طرابلس وبنغازي عام 1986 م، تعلو نبرة صوت الشاعر الفجائعي من أحداث الاعتداء التي وقعت لطرابلس أثناء الغارة الجوية، مناديا طرابلس المكلومة الواقعة تحت وطأة عدوين ؛ وحشية النظام البوليسي وأسرها، والقصف المعادي عليها، وعجز السجناء عن الدفاع عنها في تلك الظروف القاهرة، الشاعر هنا محارب سلاحه الكلمة التي يشهرها في وجه بشاعة ما يحدث، جبهات القتال عنده كثيرة ومتنوعة فانشغاله بمعاركة مع سجنه وسجانه لم يثنه عن قضايا وطنه التي ظلت حاضرة في شعره، إذ يقول:
يا طرابلس التي شهرت أحبتها بوجه الريح
والزيف الذي يعلو على الخلق العصيّ
ووحشة البوليس
والقصف المعادي
أنّا سيوفك يابلادي
هاهنا نختال في أغلالنا
والليل يجبرنا على غمد من الجدران
حتى لا تطال السيف
أعداء تخفّوا عند بابك
فاذكريهم
واذكري إنّا هنا طرنا إليك
جناحنا غضب ( سجن أبو سليم 1986 )
قصيدة السجن في ديوان مرافعة السيوف مثقلة بالهموم فهي ترصد واقعا أليما وترسم مشاهد مؤلمة لرحلة عذاب السجناء وتحديهم للتجويع والتعذيب والمرض الذي فتك بهم، تعلن قصيدة السجن عصيانها لواقع مرير وعنفوانها في تحدّيه وتعريـتة وكشف ما حدث هناك بصورة تراجيدية وملحمية تحكي قصة سجين وقع بين براثن المرض نتيجة الظروف السيئة التي عاشها داخل زنازين أدت به للموت بعد أحد عشر عاما قضاها في المعتقل السياسي، إذ يرثي الشاعر رفيقه عبد العزيز الغرابلي الذي قضى نحبه في السجن، بقصيدة (المواويل تشعل جرحها )، يقول:
كان على العاشق الفذّ أن يتخير وصلا على حدّ سيفه
يحفّ به لهب العصر كي تصطفيه الرماح ليبزغ عن
الزفاف
ونحن لنا أبجديتنا
الرقص في ساعة الرزء
والزغردات، الدموع
العناد النشيد العنيف هويتنا
فليعلن، الآن بدء المراسيم:
في عام أربعة وثمانين
في ليبيا
في طرابلس
في سجنها المركزي
بقسم المؤبد
في الغرفة السادسة
نتفتح اليوم عرسا لعبد العزيز
فغنوا إلى أن يفيض النهار ( السجن المركزي 1984)
ثانيا: جمالية بناء القصيدة وطريقة الشاعر في صياغة مضامينه.
الملاحظ أن ديوان (مرافعة السيوف ) كان يتقصد تأسيس رؤية الشاعر المبنية على إظهار موقف السجناء تجاه ما يحدث لهم داخل ذلك المكان. تفاعل الشاعر مع الأحداث حقق دينامية الحركة في القصيدة التي التقطت اللحظات أو المواقف وجمعتها لتكّون مشهدا دراميا كان السجناء أبطاله بصبرهم وصمودهم، قصائد رسمت تضاريس المكان ودينامية القصيدة التي تحمل في دلالتها صراعا بين قوتين ؛ قوة الجلاد بجبروته وقسوته، وقوة السجين بإرادته التي حارب بها الخوف والرعب.
قاموس الشاعر اللغوي استمد حقوله الدلالية من لغة تتسم بالقوة والعنفوان والصبر والصمود، الحلم بالحرية، لغة تختلف في حدّتها تبعا للسياق النفسي والانفعالي للشاعر، مفرادات معبرة وموحية شكّلت معجم الشاعر اللغوي منها: الشمس، الأجنحة، الانعتاق، الحلم، العنفوان، الوحشة، الجدران، المغلول، الخوف، الجبل، الصبر، الغناء، الشِعر، انكساراته. يمتد حضور هذه المعاني في جسد القصيدة وتنفتح على دوال أخرى عبرت عن رؤية الشاعر الرافضة للخضوع، كما تغلب لغة الطبيعة على مفردات الديوان وهيمنة الذات الغنائية على جلّ قصائده الذي أوضح أن تأثير الرومانسية بدا واضحا من خلال لغته المتأثرة بالطبيعة، مثل: الشمس الظلام، الرياح، الخيل، البحر، الصهيل، الحزن، الضفاف، المياه، المغيب، الشعاع، الضياء، الحنين الأجنحة، وغيرها.
ثمة أساليب تشعيرية يستخدمها الشاعر لصياغة رؤيته من خلال البنية الدلالية للنص، حيت ينفتح النص على بنيات دلالية شكلت إيقاع الصمود في قصيدة السجن، فنجد أن بنية التساؤل تفرض حضورها في جسد القصيدة، هذه البنية شكلت حالة الصراع بين جسد مغلول وروح طليقة، وبين قوتين ؛ قوة السجّان المادية، وقوة السجين الروحية، وما بينهما تصنع القصيدة إيقاعها المعبّر عن ذات ترفض الانكسا، وذات تفرض الانكسار، ففي قصيدة (غناء مع سبق الاصرار ) يتساءل الشاعر لمن الغلبة؟ في إطار تهكمي ساخر من منظومة السجن وهو موقن من الإجابة، في قوله:
يا ترى لمن الغلبهْ؟
للظلام المجدّف نحو النهاية !
أم للعيون المشّع تمردها في الوجوه المروعهْ المتعبهْ؟
ويتم الالتفات إلى بنية النداء التي رصدت حالة الشاعر النفسية وحاجته للتواصل مع الأخر من خلال قوله:
أيتها المغلولة في سجن آخر
ما طعم القيد؟
وهل أزهر شباكك شعرا هذا اليوم؟
وقوله:
يا طرابس التي شهرت أحبتها بوجه الريح.
تنتاب الشاعر حالة شهوة الحلم في القبض على خيط من النور ليضئ عتمة زنزانة نهارها كليلها، في قوله:
أيتها الشمس حيث يغمس وجهك دورته في مياه الضفاف
البعيدة
ينغمس القلب في بحر أحزانه
فاذكري أن تجيئ غدا
ونظرا لطبيعة المحنة التي يعانيها السجين فهو في شوق للمرأة وراغب في لقائها، لم يكن أمامه إلا الأحلام ليتذكر طيف حبيبته التي هو في شوق للقائها( راجع الصمد واضح 1995:240 )، إذ يقول في قصيدة نافورة الشمس:
أغرق وجهي بهذا الشعاع وأغمض عيني
يسكنني الضوء إجهاشة بالحنين إليك كما تسكنين
مشاويره
ابطئ السير أيتها الشمس
فهذا الشعاع سيعرج بي للسماء
لاقهر طول المسافة بيني وبين ذراعيك في طرفة
العين.
جدلية المفارقة بين سكون السجون ووحشة جدران الزنازين الباردة الخرساء وبين قصيدة ضاجّة بالحركة والحياة، فقد انفلتت الكلمة من أسرها لتولّد رؤية مسكونة بهاجس الصمود والحرية، فإن حالة العنفوان التي عاشها الشاعر انتقلت إلى قصيدته التي اتسمت بالحركة التي صنعها الحدث المتمثل في الأفعال الحاضرة ؛ مثل: تكتظ، ينزف، يزرع، تصفق، ينعتق، يغافل، يتوامض، يضجّ، ترتجّ، تستحيل، يفيض، تشتد، ينظر وغيرها.
يتابع الشاعر رسم خط رؤاه من خلال الاستعانة بأفعال الطلب التي تخلق حالة من التحاور المفترض وحالة من التواصل المنشود في لغة ترفض كل أشكال التسلط والقهر والإذعان. يتجسد هذا المعنى في (قصيدة انثيالاتها عند الضفاف) الأخرى:
يا فرسا لاتدين بغير الصهيل الطريّ
ولايسع الألق الممتد فيها سوى هيبةً
في أنشداه البحيرات
اركضي فوق صدر الفجاجة
وانتبهي للتفاصيل
لاتغفلي عن تماوج رقص المياه إذا زفر البحر موجاته كالتنهد
صبّي تألقك البربري على خلوات المحبين
انظري في عيوني العنيدة بالانهمار الذي اعتدت
جوسي خلال جوانبها بانفجار يمزق أستارها باللغات التي لا تقال.
ويحلم الشاعر بلقاء طال انتظاره في قوله:
لا أحد يؤنسني غير تمتمي بالتيقن من وعدها بالبزوغ
في المساء أحادث قبرة أخبرتني بوحدتها في انتظار ربيع العصافير.
الشاعر يحيل تداعيات رؤاه للصورة الشعرية التي تخلق عالما فنيا خياليا من خلال الاستعانة بالحدث الذي يحقق دينامية الحركة في القصيدة، وذلك بالاتكاء على قدرته الفنية لخلق لغة شعرية تنساب منها الصورة بتداعياها المختلفة ؛ تشبيهية، استعارية فهي ليست لغة تداولية، بل لغة محمّلة بالمجاز، والعالم الذي تؤسسه عالم استعاري، هيمنت فيه الغنائية على جل قصائده، قصائد رسمت تضاريس المكان وتجليات عالم الصمود والصبر بكل حمولاته الدلالية ؛ الحلم، الأمل، الصبر، الصمود، والصلابة، والقوة، كل هذه الدلالات حاضرة بقوة في النصوص عبرت عنها ذات رافضة للانكسار.
ينبني الخطاب الشعري في قصائد ابن الطيب على منظومة من التراكيب اللغوية غير المألوفة تحولت فيه اللغة إلى حقل للتأمل عن طريق صياغتها وإعادة تشكيلها في صور فنية ينحت مفرداتها باشتقاقات وصيغ جديدة تلائم حالته الشعورية والنفسية في صور نابضة بالحياة والحركة ” لأن الاختيار اللغوي محكوم بمؤثر نفسي ينبع من الوعي واللاوعي ” (المصري عباس 2009:29 ). يرسم الشاعر صوره الفنية من كسر المألوف بين علاقات اللغة وإقامة علاقات جديدة تقوم على المشابهة البعيدة ؛ كتشبيه الحسّي بالمجرد. والجمع بين الأشياء المتباعدة في التشكيل الاستعاري، التشخيص والتجسيد في المعنويات، والتماثلات بين أطراف الاستعارة ( هدريز أمينة 2010:115 ). مثل قوله:
ينبت عبر الممرات شِعر / وجه المدن / تجاعيد القرية / الشمس طفلة / تنسل نافورة الشمس / تشهر زنزانتي في مواجهة الحلم جدرانها / هذا الصهيل دمّ فاغر جرحه لحم هذي البلاد هنا يتعفن / في غابة السجن يزدهر العمر / وتبعث أيامه حياة من رماد الرماد / كتيبة شِعر / جيشا من الأغنيات.
ومثل قوله:
وهنا كتلة من جدار بليد يصارع أسمنته
الصورة الاستعارية هنا تضعنا في مواجهة صراع كسر الإردات ومحاربة الخوف، بين سجّان كالجدار البليد وبين سجين كأسمنت الجدار فلا يمكن أن يقتلع الجدار أسمنته إلا بسقوطه هو.
وصورة القهر الذي هو وسيلة من وسائل التعذيب التي يعاني منها السجين، عبّر عنه بصورة استعارية مشحونة بالألم والقهر وتصوير ما يعتري السجناء من وطأة نهار شديد الحرارة في زنازين مكتظة بالسجناء حيت لا هواء يدخلها في قوله:
إذا يغمد القهر منتصف اليوم في الصدر يشتد
بالسجناء اكتظاظ النهار المكابر.
وقوله:
تشهر زنزانتي في مواجهة الحلم جدرانها
اعتمد الشاعر في رسم صورته هذه على الانزياح من مدخل علاقة المشابهة بين الزنزانة والعدو ولكل منهما سلاحه، وسلاح الزنزانة جدرانها التي أغتالت بها حلم السجين ليفيق على جدران موحشة صماء.
الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه ديوان مرافعة السيوف يغلب عليه الطابع النضالي وهو نضال يرتكز على مستويين ؛ المستوى الأول تحدي ظروف السجن القاسية من جوع ومرض وقهر وتعذيب وتحدي منظومة بوليسية تسعي لتركيعه، والمستوى الثاني هو محاربة الخوف وخلق عالم إنساني بين رفاق المحنة بالتواصل والتساند والتماسك ومدّ يد المساعدة للأخر ونكران الذات في ظروف قاهرة تكتشف فيها معادن الرجال، فهذا الديوان يعبّر عن مرحلة زمنية عاشها الشاعر داخل الزنازين بتداعياتها المختلفة، فكانت تلك القصائد معراج الشاعر خارج زنازين أربعة سجون، فقد عبّرت هذه القصائد عن زمنها ولحظتها التاريخية والنفسية، وارتبطت بقضايا وهموم ذاتية وقومية وإنسانية، ورصدت أحداثا ووقائع داخل تلك الزنازين المرعبة، حمل الشاعر على عاتقه تصوير إيقاعها النضالي بصورة متاثرة بالحسّ الرومانسي في بنيته اللغوية التي عكست روحا قتالية ونضالية أشهرت في وجه الخوف والرعب صبرا وصمودا قارع بهما جبروت سجّنانين موتورين.
النتائج:
- ديوان مرافعة السيوف كتبت قصائده في أربعة سجون ؛ منها سجن الكويفية، سجن الجديدة، سجن الحصان الأسود، سجن أبو سليم.
- قصائد تصور الحياة وراء القضبان وصراع السجين في محاربة الخوف والانكسار بالصبر والصمود.
- صناعة عوالم أخرى وحياة وديّة داخل الزنزانة يتواصل فيها السجناء مع بعضهم البعض.
- حضور الشمس في قصائد الشاعر معادل رمزي وحقيقي في الوقت نفسه فهي رمز للحرية وهي حزمة النور التي يفتقدها السجين داخل زنزانته.
- وصف أساليب التعذيب ومحاربتها والاصرار على الصمود وعدم الانكسار.
- تصف الأوضاع غير الإنسانية للسجناء وتعرضهم للمرض والموت داخل الزنازين
- قاموس الشاعر اللغوي استمد حقوله الدلالية من لغة العنفوان والصبر والتحمل والتجلد.
- قصائد الديوان رافضة للخضوع والإذعان ولا نجد لغة الاستجداء والاستعطاف.
- يبدو تأثير الرومانسية واضحا من خلال لغته المتأثرة بالطبيعة.
- تشكل قصائد الديوان صراعا بين الجلاد بقوته وجبروته وبين السجين بصبره واحتماله.
- القصيدة نابضة بالحياة من خلال استخدام الأفعال الحاضرة رغم سكونية الزنزانة.
- خلق حالة من التواصل عن طريق استخدام أفعال الطلب ( الأمر ).
- التشكيل الجمالي لبناء القصيدة يتخلق من الصورة المجازية التشبيهية والاستعارية.
المصادر والمراجع:
- ابن الطيب إدريس، 2010ديوان مرافعة السيوف،الطبعة الأولى، طرابلس المجلس الأعلى للثقافة.
- بوكليب جمعة،2008 حكايات من البرّ الإنجليزي، الطبعة الأولى، القاهرة، ليبيا للنشر.
- العسري عمر، الشعر العربي المعاصر قراءة في تجربة الشاعر محمد بنطلحة، مجلة نماذج العدد 1 لسنة 2008 لندن امتداد للنشر والإعلام المحدودة.
- الصمد، واضح 1995، أدب السجون وأثرها في الآداب العربية من العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي الطبعة الأولى بيروت المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
- كازونوف جان 1983 سيكلوجية أسير الحرب، ترجمة عدنان سبعي وخليل شطا، الطبعة الأولى،سوريا دار دمشق للطباعة والنشر.
- المصري عباس، 2009 التشكيل اللغوي في شعر السجن عند أبي فراس الحمداني مجلة الأقصى العدد الأول يناير سنة 2009.
- قباصة عبد العظيم، 2013، قساوة القيد وصلابة الروح، الطبعة الأولى , طرابلس دار الفرجاني.
- قدور سكينة 2007 الحبسيات في الشعر العربي رسالة دكتوراه، قسطنتية جامعة منتوري.
- هدريز أمينة 2010 الصورة الشعرية عند محمد الشلطامي الطبعة الأولى طرابلس الموسسة العامة للثقافة.