كتبه: المكِّي أحمد المستجير
وُوري الثرى عصر اليوم الخميس (10 أكتوبر 2024م)، بمقبرة «سيدي سليم» بطريق المطار بالمحروسة طرابلس؛ شيخُنا، وشيخُ مشايخنا، المثقَّفُ الفاعل، والمُسنِد المُسدَّدُ، شيخُ صحيح البُخاري؛ أبو البركات حافظُ الدين: سيِّدي «بلقاسم عبد الرحمن بلقاسم» الغدامسيّ (1948-2024م) المالكيُّ مذهبا، الأشعريُّ اعتقادا، المدنيُّ سلوكا؛ عن 76 عاما، قضاها وجيها، بمبادئ تنوء بحملها الجبال الرَّواسي.
من مفاخر غدامس: السند العتيق لصحيح البخاري
اُشتُهِر شيخنا «بلقاسم عبد الرحمن بلقاسم» بحمله الأسانيدَ الغدامسيَّة العتيقة، المتواترة المتصلة؛ بقراءة صحيح البُخاريِّ والشفا للقاضي عياض، سماعا كاملا، دون انقطاع ولا شُذوذ ولا عِلَّة، برواية طبقة عن طبقة. إذ كان من عادة العديد من الحواضر الليبيَّة إلى وقت قريب -أهمُّها وآخرُها غدامس- قراءة صحيح البخاريِّ من غُرَّةِ شهر رجب الحرام، وختمه في ليلة 27 من شهر رمضان المبارك. ويُسمَّى من يولد في هذه الشهور بـ«البخاري» ولذلك يكثر هذا الاسم بغدامس.
ومن عُمدة مشايخه -رحمه الله- في سماع صحيح البخاريِّ، وهو الذي كتب له بالإجازة؛ الشيخ عبد الرحمن بن البشير بن عبد الرحمن ضوي الغدامسي (ت: 1977م) الذي يتَّصل بسندٍ عائلي، إلى الشيخ عبد الرحمن بن محمَّد بن ضوي الغدامسي (كان حيًّا عام 1202هـ) تلميذ العلَّامة الإمام مُرتضى الزَّبيدي (ت: 1205هـ) صاحب تاج العروس، والغنيِّ عن التعريف.
ويرجعُ الفضلُ -بتوفيق الله- في إحياء هذا السند الغدامسيِّ العتيق، قبل اندثاره، ووصله وإعلاء مناره، وشهرته في الآفاق؛ إلى شيخنا العلَّامة الأستاذ أحمد القطعاني (1956-2018م) حتى صار السندُ اليوم، معلوما للجميع، يتسابق أهل الرواية إليه، جزاهما الله عن الأمَّة الليبيَّة والإسلاميَّة خير الجزاء.
ويُعدُّ الشيخ بلقاسم من مشايخ شيخنا القطعانيِّ ودَبِيجِهِ، وقد ذكره في ثبته الكبير؛ وله منه مسموعات جزئيَّة، وإجازة عامَّة. وحين عزم شيخنا الأستاذ القطعانيُّ على عقد مجلس سماع صحيح البخاريِّ (أواخر عام 2016م) وهو أوَّل مجلس سماع لصحيح البخاري بالسند الغدامسي العتيق، خارج غدامس؛ اعتذر الشيخ بلقاسم عن ذلك، لطارئ صِحِّيٍّ، وقدَّم تلميذَه، وارث لِواء الرواية بغدامس وحامِل راية الإسناد بها: أ. الحبيب البخاري قاسم يِدِّر، أطال الله عمره.
وصفَ شيخنا القطعانيُّ قراءة الشيخ بلقاسم للبُخاريِّ، بقوله: «آيةُ إتقان تلاوة الصحيح بلا مزيد عليه، بل لم أسمع قطُّ حتى الآن أجود منه». ووصفه بقوله: «إمامُ قُرَّاءِ البُخاريِّ، ومُتعهِّدُه، ومُتخصِّصُه، صاحبُ التلاوة الملائكيَّة للصحيح» ونبَّه على نفاسة السند الغدامسيَّ لصحيح البخاري، بقوله: «لم يعُد في كلِّ بلاد العرب من سندٍ مُسلسلٍ بالسماع الكامل، بكلِّ الصحيح، إلا عند الأهادلة في اليمن، وعندنا في [غدامس] ليبيا» ا.هـ
وقد وفَّق الله شيخنا الحبيب النَّجيب أ. د. حافظ القليب، عام 2022م؛ إلى عقد مجلس كبير، في مصراتة، لسماع جُملة من كتب الحديث الشريف، على رأسها صحيح البُخاريِّ، وكان شيخنا «بلقاسم عبد الرحمن بلقاسم» صدر المجلس، وعُمدته، واتَّصل -بفضل ذلك المجلس- خلقٌ كثير، بأسانيد البخاريِّ الليبيَّة. والحمد لله ربِّ العالمين.
المُثقّف الفاعل: الجوانب المغيَّبة من مشايخنا الأعلام
ثمَّة جانبٌ مهمٌّ في حياة مشايخنا الأعلام، يغفُل عنه كثيرٌ من دارسي تاريخنا الصوفيِّ الثري؛ وهو الجانب الثقافيُّ الفاعل في مسيرتهم. جانبٌ ما فتِئتُ أنبِّه إليه في كلِّ شخصيَّة أكتب عنها، إذ ثمَّة تحت الجوانب المُبرِّزة لكل عَلَم وعالم، جوانبُ أخرى، جديرة بالذكر والتحليل، فهي تكشف شخصيَّته، وتجلي مرآة تكوينه ودائرة اهتماماته؛ لتعلم أنَّ علماءنا لم يكونوا معزولين عن عالَمهم، أو مُنطوين عن بيئتهم.
أصف شيخنا الفقيد دون تردُّد بالمثقف الفاعل، لاشتباكه مع الحياة الثقافيَّة في غدامس، بشكل مستمر؛ على الرغم من هيمنة دوره الإسنادي في الحديث الشريف، على أدواره الأخرى.
كان الشيخ بلقاسم رئيسا لنادي غدامس (الرياضي الثقافي الاجتماعي) منذ عام 1970م، تقدَّم بجدارة فلم يُنافسه أحد. وكان مشرفا مباشرا على نشاطاته الثقافيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة، بل ولاعبا، ومقدِّما، وكاتبا، ومشرفا. وعاصر -إبَّان رئاسته للنادي- تغيير اسم النادي من غدامس إلى الصمود، في قصَّة طريفة، ليس هنا مقام ذكرها.
وأحمدُ الله أن قيَّض لأعلام المدينة وعلمائها «جمعية غدامس للتراث والمخطوطات» التي حرصت منذ تأسيسها على توثيق مسيرة الروَّاد والتسجيل معهم، باستفاضة، وجودة تقنيَّة عالية. وعندهم تسجيلات مطوَّلة مع الشيخ بلقاسم عبد الرحمن بلقاسم، يسَّر الله تحريرها ونشرها.
البِرُّ الأبويُّ والثقافيُّ: زيارتي له قبل 4 أشهر
في زيارتي لمدينة غدامس، مطلع يونيو 2024م، حرصتُ على زيارة شيخنا الفقيد، بتنسيقٍ من السيِّد الحبيب، الباحث أ. عبد الجبَّار الصغيِّر، ورفقة أ. قاسم بشير يوشع. دخلنا عليه، فوجدناهُ في استقبالنا، ببسمة دافئة، وكلام قليل. وقام للترحيب بالفقير، على الرغم من صعوبة قيامه وحركته، وفهمتها إكراما لوالدي الجليل.
باسطناه الحديثَ، وقصُّوا عليه طُرَفا من نادي الصمود، ثمَّ ذكرتُ له طَرَفا من علاقته بوالدي الحبيب، وأحاديث أخرى، وكان الشيخ الفقيد سعيدا بالزيارة، باسما، لا يُمسِك ضِحكته إن أُحسنِت الطُّرفة، ولا يتوقف عن الإشارة إلينا لنأكل ونشربَ من القِرى.
جرَّنا الحديث بعد ذلك للكلام عن الحال الراهن للمدينة؛ فأظهر استياءه وتوجُّعَه؛ لتوقُّف مجالس سماع صحيح البخاريِّ بمساجد غدامس العتيقة، والتضييق عليهم، ومحاربتهم، بعد قرون من عقدها متصلة.
وذلك بسبب الجماعة المتطرِّفة المعلومة، التي استبدَّت بالشأن الدينيِّ في ليبيا، وعاثت بتاريخنا فسادا، وهُويَّتنا إفسادا، وننزِّه المنشور عن ذكرهم. أخبرنا الأحباب أنَّ الفقيد من يوم أُجبر على التوقف عن عقد مجالس البخاريِّ – في قصَّة تطول- وصحته في تدنٍ مستمر.
بعد القِرى، طلبتُ من فضيلته أن أقرأ عليه أوَّل صحيح البخاريِّ، تبرُّكا به، وتجديدا للوصل، وطمعا في الاتصال. فشرعتُ في (بدء الوحي) ولم أطل، خشية إرهاقه، فأشار إليَّ بيده أن أكمل، ففعلتُ وأتممتُ ما تيسَّر، وهو يشير بيده أن استأنف، والدمع يجري من عينه، دون نشيج. وقد استجزتُه في الباقي، فأجازني، ثمَّ ثنَّى بالإجازة العامة في كل ما يصح له روايته وتنفع درايته؛ والحمدُ لله على توفيقه.
وفاته: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن
توفي رحمه الله، بطرابلس، صباح الخميس، السابع من شهر ربيع الثاني لعام 1446هـ، الموافق: 10 من أكتوبر 2024م، بعد معاناة مع المرض، وتفاوت في الصحَّة والقُوَّة. وبعد سويعات معدودات لرجوعه من تونس. ودُفن -كما مرَّ بك- بمقبرة «سيدي سليم» بطريق المطار، طرابلس، وصلَّى عليه إمام المسجد المجاور للمقبرة، وليت النابتة تركت ولده يُصلِّي عليه.
ومن عجيبِ الموافقات أنَّه توفي في التاريخ الهجري نفسِه (الأيام الأُوَل من شهر ربيع الثاني) الذي عَقَد فيه شيخنا الأستاذ القطعاني عام 2016/2017 مجالس سماع صحيح البخاري، بالأسانيد الغدامسيَّة الكريمة. وكم في الموافقات من إشارات. سُبحان الله وبحمده؛ سُبحان الله العظيم.
ليلة الثامن من شهر ربيع ثانٍ لعام 1446هـ