سعيد العريبي (حكايات وذكريات - سيرة قلم)
تجارب

أُحِـبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُـمْ

حكايات وذكريات: سيرة قلم 24

أُحِـبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُـمْ:

التحقت بالدراسة الجامعية.. وفي النفس شيء من الدكتور/ رجب بودبوس.. كنت يومها والحق يقال.. أكرهه لعدة أسباب منها: أنه كان بوقا من أبواق النظام.. وأنه كان يدرس مادة يكرهها غالبية الطلاب.. وأنه قد قال في الله تعالى كلاما.. لا يليق بمسلم كما سيمر بنا.

نعم التحقت بقسم اللغة العربية.. محملا بكل ما قيل لي عنه.. فقد سمعت أنه وحينما كان طالبا جامعيا.. قال كلاما لم يعجب أحد الطلبة الدارسين معه.. فرد عليه قائلا: “يا بو دبوس.. كنت أعتقد أنك أعور العين فقط.. والآن أدركت أنك أعور العين والفكر”.

كان الدكتور بودبوس وقتها رئيسا لقسم التفسير.. وكانت مادة “النظرية” التي يدرسها.. من المواد المشتركة التي يتوجب على طلاب كلية الآداب دراستها.

استقبلني أحد الطلاب قبيل أول محاضرة له وقال لي: أتعرف ماذا قال الدكتور بودبوس لطلبة السنة الماضية عندما طلبوا منه أن يؤجل لهم الامتحان؟

فقلت له وماذا قال لهم؟

قال – والعياذ بالله –: “لو جا ربكم.. ايدف في برويطا فيها محمد.. ما أجلت لكم الامتحان”.. استغفر الله العظيم.. وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

منذ ذلك الوقت المبكر.. كرهت هذا الأستاذ كما قلت لكم.. وازددت لمادته كرها على كره.. كنت وقتها طالبا مبتدئا أحب الإسلام بالفطرة وأحب المسلمين بالفطرة.. وأكره العصاة والمذنبين والفاسقين بالفطرة أيضا.. لم أكن ملتزما بالإسلام كما يجب أن يكون الالتزام به.. كنت وكما يقول الإمام الشافعي: أُحِـبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُـمْ… لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِـمْ شَفَاعَـهْ… وَأَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُم مَعَاصِي… وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَهْ.

حديثه عن الملكية:

تحدث في تلك المحاضرة المقررة التي حضرتها عن “الملكية”.. وكان لكلامه علاقة واضحة جدا.. بحرب النظام المعلنة على التجار ورؤوس الأموال.. وكانت أفكاره في مجملها تسويقا من جانبه لملكية الدولة.. ودعوة مبطنة للاشتراكية الشيوعية.

ولكي ينفي وجود الملكية إطلاقا.. نفى الملكية حتى عن الله تعالى.

وفي محاولة منه لترسيخ هذا الفكر المعوج في عقول الطلاب قال لنا ولا زلت أذكر ذلك جيدا: “نزعة الملكية هذه لا تحدث إلا في حالة وجود شخص آخر.. ولتقريب المعنى إلى أذهانكم.. لنأخذ لكم من القسم الداخلي مثلا.. فطالب القسم الداخلي الذي يعيش في حجرة لوحده.. لا يمكن له عقلا أن يقول: هذا سريري.. وهذا دولابي.. وهذه مرآتي”.

وتابع بعد ذلك هذا العبقري كلامه.. ليقول لنا: “من هنا فإن الله لا يملك.. وأنا أتحدى أي طالب يأتي بآية من القرآن تثبت أن الله يملك”.

واقسم بالله العظيم.. أنني وفي تلك اللحظة بالذات تذكرت آية عظيمة وجليلة.. تنسف وجهة نظره من أساسها.. فرفعت يدي متحديا.. وقلت: أنا يا أستاذ.

فنظر إلي بلا اكتراث.. كأنه لا يريد سماع ما أود قوله.. وقال موجها كلامه للجميع.. سأترك لكم في نهاية المحاضرة بعضا من الوقت للنقاش.

كنت أود أن أقرأ عليه قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾.. كنت أريد أن أقول له.. إن الله العظيم لا ينسب لنفسه إلا كنزا من الخيرات عظيم.. والإنسان الجاهلي بطبيعة الحال لم يكن يعلم يوم نزول هذه الآية أن ما تحت ثرى الأرض أعظم مما فوقها.

ولم تكن هناك فسحة للنقاش كما قال.. خرج من الباب بمجرد أن أنهي محاضرته.. ولم يلتفت لأحد منا.. ولذا فقد تعمدت فيما بعد ألا احضر له محاضرة أخرى.. من محاضرات القسم.. ووطنت النفس على الغياب.. وعقدت العزم على ذلك مهما تكن النتائج.. ولم تكن النتائج مرضية بطبيعة الحال.. كانت نتيجة نهاية العام الأول بقسم اللغة العربية: (ناجح في جميع المواد عدا النظرية).

إحدى محاضرات المدرج الأخضر:

كان الدكتور بودبوس من أهم أساتذة المدرج الأخضر.. وكنت بطبيعتي لا أحب محاضرات الفكر الثوري.. إلا أن أحد الأصدقاء لفت نظري إلى ضرورة الحضور لو جود ملص يحمل اسمي وفي مكان مخصص لي.. فكان أن حضرت.. وبالفعل وجدت الملصق الذي يحمل اسمي.. وفي المكان الذي أشار إليه.. وعرفت أن ذلك من باب المتابعة والمراقبة.. وليس من باب الأهمية أو التقدير والاحترام.

تحدث في تلك المحاضرة عن قيمة الإنسان.. وقال في ذلك كلاما كثيرا لم أعد أتذكره جيدا.. سوى أنه كان بخلاف ما كنت أراه واعتقده.. وفتح باب النقاش وطلبت الكلمة.. وعرضت وجهة نظري عن قيمة الإنسان.

وقلت فيما قلت: قيمة الإنسان بعلمه وفكره.. واستشهدت بقوله تعالي: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ).. واستشهدت أيضا بهذين البيتين الشهيرين:

إذا ما اعتز ذو جهل بمـال… وعظـم في نفوس الجاهلينا

فأهل العلم أعلى الناس قدرا… وأعظم عند رب العالمينا

وبعد أيام أخبرني أحد الأصدقاء ممن أثق في كلامه.. بأن تلك المحاضرة أذيعت كاملة بمداخلاتها.. عبر أثير إذاعة صوت الوطن العربي.. وحذفت منها مداخلتي.

المهم أنني ووسط ذلك الخضم.. أدركت أنني مراقب ومتابع.. ربما بحكم كتاباتي في الصحف وفي المجلات.. وتأكدت من ذلك عندما أدرج اسمي بقائمة: (رابطة الأدباء الشباب بالجامعة).. لا زلت أحتفظ بنسخة منها.. وقائمة أخرى بأسماء أسرة تحرير صحيفة قاريونس.

بودبوس والقياس الخاطئ:

في نهاية ذلك العام وحينما كان الطلبة يتجهزون للامتحانات.. قابلت بالقسم الداخلي أحد الطلبة المنتسبين ممن كانوا يجمعون كل شيء ويصورون كل شيء تقريبا.. وقد ضاق أحد الأصدقاء بهم ذرعا فقال لنا مازحا ومتندرا: شاهدت اليوم أحد الطلبة المنتسبين يجرجر طالبا نظاميا من ثيابه.. فسألته عن السبب فقال: أريد أن أصوره.

الشاهد أنني وجدت مع ذلك الطالب “غير النظامي” كتابا للدكتور بودبوس – لا أتذكر اسم الكتاب الآن – فأخذته منه وقرأت فيه قليلا.. وقد هالني ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه.. وهو في معرض مقارنة أجراها بين أصحاب الكهف والمعارضة الليبية.

وإلى يومنا هذا.. لا زلت أذكر جيدا ما قرأته في كتابه ذاك.. وقد جانبه الصواب في ذلك.. فقط طالعوا معي ما قال.. لتدركوا سذاجته وغباءه وتفاهته أيضا.

قال وهو في معرض تشبيهه لأفراد المعارضة الليبية بأصحاب الكهف: “سيستيقظ الذين يعارضون الثورة من نومهم ذات يوم.. ليجدوا ــ كما وجد أصحاب الكهف ــ أن عملتهم قد تغيرت”.

وهنا قلت لصاحبي.. هذا تشبيه خاطئ وفي غير محله.. فأصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى.. هذا أولا… أما ثانيا: ألا يعلم أنهم عندما وجدوا أن عملتهم قد تغيرت.. فرحوا بذلك أشد الفرح.. لأنهم اكتشفوا أن النظام الذي كان يطاردهم.. كان هو الآخر قد تغير.

بسم الله الرحمن الرحيم: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (*) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)… صدق الله العظيم.

مقالات ذات علاقة

علاقة ود قديم

سعيد العريبي

منذ خمسين يناير وروعة ✈

عائشة الأصفر

درس السنوسي الاول

منصور أبوشناف

اترك تعليق