المقالة

هل قرأنا علي عبداللطيف حميدة؟ (2-2)

كتاب (الإبادة الجماعية في ليبيا) للدكتور علي عبداللطيف حميده
كتاب (الإبادة الجماعية في ليبيا) للدكتور علي عبداللطيف حميده

من المفارقة أن النجاح الإعلامي الذي حققه حميدة مؤخرًا، كان هو الكاشف عن أن أعماله التي لم تُقرأ بجدية وبالأخص في بلده الأم ليبيا. والمتابع لكيفية تقديمه من قبل القائمين على الندوات والمؤتمرات التي حل فيها ضيفًا، يجد فيها احتفاءً كبيرًا بشخصيته ونجاحه المهني، إلا أن النقاشات ونوعية الأسئلة – مع بعض الاستثناءات القليلة جدًا – التي رافقت مداخلاته عكست في مجملها استسهالًا وجهلًا بالأطروحات الأساسية التي قدّمها في ثلاثيته، أي «المجتمع والدولة» و«الأصوات المهمشة»، «وليبيا التي لا نعرفها» التي بُنيَ عليها كتاب الإبادة الذي طالما ما استُضيف حميدة للحديث عنه.

لم تخرج معظم الأسئلة التي طُرحت على حميدة عن إطار البحث عن المعلومة، كما عكس بعضها توجهات أيديولوجية ضيّقة الأفق وذات طبيعة جهوية وقبلية من قبيل: هل حدثت الإبادة في ليبيا أم في برقة؟ ما أسماء القبائل التي تعرّضت للإبادة؟ وعلى الرغم من أنني لست ممن يؤيدون احتكار حق إبداء الأسئلة لصالح فئة دون أخرى، إلا أن ما لفت انتباهي هو غياب النقاش حول مناهج البحث والمفاهيم والافتراضات المستخدمة في كتاب الإبادة أو غيره من المنتج المعرفي لحميدة.

لم تكن تجربتي في قراءة كُتب ودراسات، حميدة، بالأمر السهل، لكنها أثارت اهتمامي بشكل كبير لدرجة أنني نشرت حولها مراجعتين في مجلة «الصالون» التي تصدر عن الشبكة العربية للعلوم السياسية ضمن عدديها الرابع، والسابع. بالإضافة إلى اعتمادي عليها كمراجع رئيسية في دراستين مُحكَّمتين نشرتُ أولاهما في مجلة المستقبل العربي، عدد 540 بعنوان «الجذور التاريخية لفشل الدولة الليبية» والأخرى بعنوان «خيارات النخب السياسية الحاكمة وأزمة دولة ما بعد الاستعمار في ليبيا 1951-2011» والمنشورة ضمن العدد التاسع في المجلة العربية للعلوم السياسية.

وعلى الرغم من بساطة لغتها وابتعادها عن التقعّر الأكاديمي، فإن أعمال حميدة تقدّم نظرة جديدة غير مألوفة للتاريخ الاجتماعي الليبي ما يتطلب الصبر واليقظة أثناء قراءتها لفهم نتائجها والتفاعل معها نقديًا. هذه النظرة الجديدة كما أرى تعود إلى ثلاث نقاط منهجية أعتقد أنها لم تكتشف بشكل عميق بعد:

أولًا، اعتماده مقاربة عابرة للتخصصات تجمع بين التاريخ الاجتماعي، والاقتصاد السياسي، والنظرية السياسية وعدم الاكتفاء بالتخصص الدقيق فقط.

ثانيًا، قلبه للجدل السائد في الأكاديميات الغربية، والعربية، من اتخاذه لما يدور في القاع مفتاحًا لفهم ما يدور في القمة، أي فهم الدولة من خلال المجتمع بكل طبقاته، وتنوعاته، ومؤسساته الثقافية والاجتماعية مؤكدًا على أصالتها العربية – الإسلامية، غير مكتفٍ بالتركيز على النخب و«الزعامات» فقط كما في كتاب «المجتمع والدولة».

ثالثًا، توظيفه للأدبيات النقدية بطريقة تفاعلية تجعل من استخدامه لبعض المفاهيم استخدامًا ديناميًا يخضعها للتحليل التاريخي؛ كأن يتخذ قصدًا من مفهوم «نزع التحضّر» بديلًا عن مفهوم «البدونة»، و«إعادة البناء القبلي» بدلًا من «القبلية» في إشارة منه لأهمية التمييز بين طبيعة تلك المفاهيم ونشأتها وبين توظيفها سياسيًا وأيديولوجيًا.

مكّنت تلك المطلقات الثلاثة المنهجية، حميدة، من طرح أسئلة جديدة والتوصّل إلى نتائج مختلفة كليًّا عما هو سائد في الدراسات التاريخية عن ليبيا، فمن خلالها استطاع حميدة رصد التكوينات الطبقية الأولى للمجتمع الليبي في فصل من «القبيلة إلى الطبقة» في كتاب الأصوات المهمّشة، تلك الدراسة المُهمَلة بشكل يثير الاستغراب، كما مكّنته من دراسة البنية التحتية لحركات المقاومة والتواطؤ مع الاستعمار الإيطالي كاشفًا عن محرّكاتها المادية والأيديولوجية بعيدًا عن اختزالها في الدوافع الأخلاقية والمثالية، وأخيرًا سمحت له بدراسة موضوع الإبادة من خلال ضحاياها وليس عبر السرديات التي نسجتها النخب الوطنية والاستعمارية عنها.

ختامًا، ألم يحن الوقت بعد ليقرأ الليبيون علي حميدة بشكل جاد؟ والسؤال الأكثر أهمية هو لماذا لم ولا تدرّس كتبه في الجامعات الليبية؟ وهل يمكننا فهم حاضرنا دون فهم تاريخنا والتفاعل معه نقديًا؟ هذا ما آمل في العثور على إجابة له من خلال العنوان الذي اتخذته لهذا المقال.


بوابة الوسط | 1 أكتوبر 2024م

مقالات ذات علاقة

صورة‭ ‬تذكارية‭ ‬مع‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬الغرب

جمعة بوكليب

أين ليبيا التي عرفت؟ (8)

المشرف العام

رضوان بوشويشة موثّق الأرواح الليبية المرحة

منصور أبوشناف

اترك تعليق