بحثتُ عن هذا الكتاب منذ فترةٍ طويلة، رغبة في قراءته، وذلك منذ أن قرأت عنه في مقال جميل للكاتب والشاعر والناقد فاروق شوشة (1936- 2016م) في عموده الشهري (جمال العربية) بمجلة العربي.
مؤلف الكِتاب هو الأديب والشاعر المصري طاهر أبوفاشا (1908- 1989م)، ومن محاسن الصدف أنِّي كنت أتابع صفحة أحد الكتبيين المصريين على الفضاء الأزرق فوجدته يَعْرِض الكتاب للبيع، فاقتنيته منه مباشرة مع مجموعة أخرى من الكتب، ووصلني في طرابلس بعد أسابيع.
الكتاب طُبع لأول مرة في عام 1981م عن دار الشروق بالقاهرة، وهي الطبعة التي بين يديّ، ويقع في 191 صفحة من الحجم الصغير، وما جذب انتباهي في هذا الكتاب هو الموضوع المهم الذي يعالجه المؤلِّف، وقد حاول الإجابة عن تساؤلاتٍ تدور في رأس العديد من الأدباء والكُتّاب والمثقفين، مثل، لماذا معظم الأدباء لا حظ لهم في الدنيا؟؛ حيث يعانون الفاقة والحرمان، ويغالبون الظروف القاهرة ليعيشوا حياة الكفاف، ويقول المؤلِّف في هذا الإطار (فجعلتُ أستعرض الشعراء والأدباء على مرّ العصور لأقف على مدى اطّراد هذه القاعدة، فتجمّع لديّ من الأمثلة والنماذج ما أخشى أن تكون هذه الظاهرة قانوناً).
ويقول أبوفاشا أن الحديث عن حياة الحرمان التي يعيشها الأدباء والشعراء ليس جديداً في الأدب العربي، فهي قضية قديمة متجددة، تعرّض لها الكُتّاب، وصوروها في مؤلفاتهم وقصائدهم، وشَرَح الكاتب معنى مصطلح حُرفة الأدب فيقول: أن ضبط الكلمة هو حُرْفة بضم الحاء، وليس حِرْفة بكسرها، لأن الأخيرة تعني الصناعة أو المهنة التي يحترفها الإنسان ويتكسّبُ منها، ولا معنى لها هنا، أما الحُرْفة بالضم فهي الحرمان وسوء الحظ.
ويسأل المؤلف سؤال آخر في السياق نفسه، ويجيب عنه، فيقول: هل صحيح أن الأدباء تدركهم الحُرفة بالضرورة فَيُكْدُون ويتعرضون للحرمان والعوز وسوء الحال؟ ثم يردف بسؤال آخر، فحواه ما العلاقة بين الأدب والعوز والحرمان؟ ويجيب حسب وجهة نظره فيقول بأن هذه العلاقة قد لا تظهر إذا كان الأديب لا يتخذ الأدب مَطيّة إلى المال، فقد يكون ميسور الحال، مما يغنيه عن التكسب بأدبه، ويقدِّم تفسيراً آخر للسؤال منطلقاً من أن الأدب والفكر موقف ورأي يَخرج من بوتقة الصياغة الفنية، ولذلك فإن أصحاب الأفكار والآراء بعامةٍ مستهدفون، لا سيما إن كانت أفكارهم وآرائهم تعارض السلطة، وأن الأمر لا يرتبط بالأدب من حيث هو أدب، وإنما لموقف الأديب.
ويؤكد أبوفاشا أن اهتمام الأدباء والعلماء العرب بهذا الموضوع قديم كما أسلفنا، فهذا كتاب للشهاب الدَّلجي المصري (ت 1435م) عنوانه (الفلاكة والمفلوكون)، وكلمة (الفلاكة) كلمة من أصل أعجمي تعني الفقر، والمفلوكون هم الفقراء، فالكتاب من عنوانه جَمَع فيه مؤلفه أخبار المفاليك من العلماء والأدباء، ويقول الدَّلجي (نقلاً عن أبو فاشا طبعاً) أن السبب في فقر العديد من أهل الأدب أنهم لا يصلحون للإمارة، ولا التجارة، ويترفعون عن الحِرَف الأخرى، ولا يوافق طاهر أبوفاشا على كل هذه الأسباب، بل يضيف عليها عاملاً آخر نقلاً عن عبّاس العقاد، ويقول بأن السبب الرئيس هو أن الأدباء يستنفدهم الأدب ويستفرغ كل طاقتهم، فلا يبقى منهم شيء لتدبير معاشهم.
وساق المؤلف العديد من الأمثلة لشعراء وأدباء ممن كابدوا شظف العيش، وعايشوا الحرمان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، منهم الشاعر محمد إمام العبد (1862- 1911م)، ومحمد مصطفى حمام (1906- 1964م)، وشاعر البؤس عبدالحميد الديب (1898- 1943م)، والشاعر محمود أبو الوفا (1902- 1979م)، وأفاض في شرح ظروف حياتهم المتعبة، وصوّر معاناتهم وما تحملوه من قسوة الحياة من فقر ومرض وتجاهل، وما انتهت إليه حيواتهم بكل أسف -رحمهم الله.
بيد أن المؤلف لا يقتنع بأن الأدب والعلم يكمنان وراء تعاسة وفقر العديد ممن اختار هذا الطريق، بل يلخِّص وجهة نظره ويقول بأن: (الأدب من -حيث هو أدب- لا يمكن أن يكون لعنة تَنْصَبُّ على رؤوس الأدباء، وأن الذين حُورفوا من الأدباء تجد لحرافهم أسباباً مختلفة ليس الأدب واحداً منها).