الذكرى الـ74 لرحيل الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى عمر
عيسى الناعوري | الأردن
في زيارتي لليبيا ذهبت إلى مدينة درنة – لؤلؤة البحر المتوسط، كما كان يدعوها الايطاليون – وقبل أن نصل إلى المدينة قال لي مرافقي الأخ علي الساسي، المذيع في إذاعة بنغازي -وهو من أبناء درنة- (انظر هناك على الشاطئ، هذا نصب تذكاري للشاعر إبراهيم الأسطى عمر، ابن درنة. لقد جاء هنا يوما في حفلة أقامها له بعض رفاقه، ثم خطر له أن ينزل إلى الماء للسباحة، ولكنه ما لبث أن أصيب بنوبة قلبية وهو يداعب الأمواج، فغرق. وقد أقام له أصدقاؤه هذا النصب المتواضع في المكان الذي غرق بقربه).
ولم يكن في النصب نفسه ما يلفت النظر، فهو بسيط جدا، ولكنه مجرد دليل على المكان الذي مات عنده الشاعر. ولقد أثار مشاعري موت الرجل بهذه الطريقة، ولكنني لم أكن أعرف إبراهيم الأسطى عمر، ولم أطلع قط على شيء من شعره. غير أن الأخ الساسي قال لي إن إبراهيم كان من أعظم شعراء ليبيا الحديثة، وأن له شعرا كثيرا يتغنى به الليبيون عامة، والدرناويون خاصة.
على أنني سرعان ما نسيت إبراهيم الأسطى في غمرة زيارتي لدرنة، ثم للبيضاء من بعدها. حتى دعاني الأخ الأستاذ شريف ليّاس، مساعد وكيل وزارة الاعلام والثقافة في البيضاء، لتناول القهوة في منزله. واستلفتت نظري هناك رفوف في زاوية غرفة الاستقبال تحمل كتبا متراصة. فرحت أقلب تلك الكتب، فوقع في يدي كتاب عنوانه (شاعر من ليبيا: إبراهيم الأسطى عمر) للصديق الأديب علي مصطفى المصراتي. فجلست أقلب الكتاب بسرعة، فكأنما كان اهتمامي به تحية خاصة إلى صاحب المنزل نفسه، الأستاذ شريف لياس، فهو أيضا درناوي، وككل درناوي يعتز بهذا الشاعر الدرناوي، ابن بلده ومفخرتها في الشعر والوطنية والدعوة إلى الوحدة الليبية.
وصار إبراهيم الأسطى عمر مدار حديث الجلسة كلها، وقرأنا قصائده المنشورة في الكتاب. فأحببت أن أعرف المزيد عن هذا الشاعر. وحين عدت إلى طرابلس تفضل الأخ الأستاذ علي المصراتي فأهدى الي نسخة من هذا الكتاب، مع مجموعة أخرى من مؤلفاته.
وما كان لي، لولا فضل الأخ المصراتي، أن أطلع على شيء من شعر هذا الشاعر الليبي، الذي يقف مع زميله الشاعر رفيق المهدوي – رحمة الله عليهما – في الطليعة الأولى من شعراء النهضة الحديثة في ليبيا، ولا كان لي أن أعرف شيئا عن سيرة هذا الشاعر العصامي الذي أرتفع بنفسه وبنضاله الشاق من (صبي حطاب) في درنة، إلى نائب في أول برلمان ليبي بعد الاستقلال، ومن (أمي) لم يتح له الفقر واليتم أن يذهب مع الأطفال إلى المدرسة، إلى شاعر يملأ أسماع الليبيين بأسرهم بشعره الوطني الداعي إلى الوحدة الليبية والمليء بالتأمل، والحكمة، وألوان الشعر الوجداني الاخرى.
صبي يتيم يجمع أكوام الحطب من جبال درنة، ويبيعه ليحمل ثمنه الزهيد إلى أمه التي يعولها، رغم الطفولة البريئة، ويعول معها ثلاث أخوات. ثم يترك بيع الحطب ليعمل فراشا في الجمرك، ثم في المحكمة. حرمته الحياة من المدرسة فأبى أن يظل أميا جاهلاً مدى العمر، وطمحت نفسه إلى تلقي العلم رغم العوز وقسوة الحياة المناضلة لأجل الرغيف. وها هو يسعى من شيخ إلى شيخ ليتزود بسلاح المعرفة، حتى يحنو عليه الشيخ عبد الكريم عزوز، قاضي المحكمة التي يعمل فيها إبراهيم فراشا وساعيا. ويلقنه الشيخ عزوز دروس اللغة والفقه.
ومن هناك ينطلق إبراهيم يدرس المعري والمتنبي، ويطالع الصحف والكتب التي تقع في يده مما يحمله بريد المشرق العربي سرًا إلى ليبيا الخاضعة للاحتلال الايطالي.
ويتشرد إبراهيم عن الوطن، فيتنقل فقيرًا محروما مدة ثلاث سنوات في سوريا والعراق، والأردن، ثم في مصر حيث ينخرط في الجيش السنوسي الذي تألف هناك لحرب التحرير، ولطرد الإيطاليين من الأرض الليبية. وفي ديار الغربة، ثم في الجندية وخنادق الحرب، ينظم إبراهيم الشعر في الحنين إلى ليبيا، وفي وصف المعارك الحربية، وفي الدعوة إلى تحرير الوطن ووحدته.
وبعد الحرب يعمل إبراهيم مديرًا لمكتب الاستعلامات، ثم قاضيا في المحكمة. ويجيء استقلال برقة عام 1948 فيتألم الشاعر البرقاوي، المنادي بوحدة الوطن الليبي برمته، ويمضي في دعوته إلى الوحدة الوطنية. حتى إذا نالت ليبيا كلها استقلالها عام 1949 بقرار من هيئة الأمم المتحدة، ودخلت ولاياتها الثلاث في (المملكة الليبية المتحدة) في ظل عرش الملك إدريس السنوسي، رشح إبراهيم نفسه للبرلمان البرقاوي عن مدينة درنة ففاز بالتزكية.
ولكنه كان مع الأقدار على ميعاد، فلم يتح له العمر أن يشترك في جلسات البرلمان بأكثر من حفلة الافتتاح. ثم اشترك مع بعض الأصدقاء في حفلة على شاطئ درنة. وأراد الاستحمام في البحر، فدخله نشيطا قويا، ولكنه لم يعد منه إلا إلى القبر.
أربعة وأربعون عاما: تلك كانت المرحلة التي قطعها إبراهيم الأسطى عمر ما بين المهد واللحد. ولد في درنة عام 1905، قبل أن يبسط الاحتلال الايطالي ظله الثقيل على ليبيا بستة أعوام، ومات على شاطئ درنة عام 1949، بعد أن تقلص ظل الاحتلال الإيطالي عنها بنحو ستة أعوام. لقد ولد ليشهد مأساة الاحتلال، وعاش حتى رأى ذلك الاحتلال يندحر عن أرضه.
ولكن الشاعر الذي كرس قلمه لدعوة شعبه إلى الوحدة الكاملة لبلده، لم يعش حتى يرى الولايات الثلاث ذوات الاستقلال الداخلي ضمن الاتحاد الليبي، تصبح مملكة واحدة حرة تعيش في بحبوحة ورخاء في الدولة الواحدة، والعلم الواحد، والعرش الواحد، والمركز الواحد للحكم، بل قدر له أن يقضي قبل تحقيق هذا الحلم بأعوام، حين كان ما يزال في ليبيا ثلاث ولايات، وثلاث حكومات، وثلاثة برلمانات، ضمن حكومة مركزية واحدة تتنقل بين طرابلس وبنغازي لتقيم هنا فترة معينة من الزمن وهناك فترة اخرى مثلها.
كذلك كانت حياة إبراهيم الأسطى عمر القصيرة، فكيف كان شعره ؟
يجب أن نعترف، قبل أن نقدم النماذج من شعره، بأن روحه النضالية، وقوة عقيدته الوطنية، والمعاني التي تنثال على خاطره، كانت أقوى كثيرا من صياغته. فليس في عبارته الشعرية زهوة الشعر وقوة آسره، بل تغلب عليه (النثرية) و(النظم). ولكن القوة الحقيقية في شعره هي قوة الروح، والحس الوطني، والنضال الحر، والدعوة المؤمنة بحق الشعب الليبي في الحرية والوحدة الوطنية.
والنماذج التي نقدمها في ما يلي اخترناها من أجود شعر إبراهيم عمر الذي بين يدينا، وتغاضينا عن الضعيف من شعره.
يقول إبراهيم في قصيدة يخاطب بها المستر (ادريان بلت)، مندوب هيئة الأمم في ليبيا:
إلى المندوب – وهو أجل قدرا / من التذكير – وجهت الكلاما
مقالة ناصح حر صريح / يقول الحق لو لقي الحماما
فهذا الشعب كافح ثلث قرن / فلم يذعن ولا ألقى الحساما
يريد الشعب وحدته، ففيها / كرامته، ولا يرضى انقساما
يريد الشعب تمثيلا صحيحا / يصون حقوقه من أن تضاما
ستسمع بعضنا يدعو إلى ما / دعا المحتل… لا تبد اهتماما
فللمستعمرين دعاة سوء/ يعدون السموم لنا طعاما
لقد باعوا الضمائر واستعاضوا / بها الألقاب والرتب الضخاما
فلا تسمع مقالتهم، ودعهم / لما خلقوا… فقد خلقوا لناما
وفي قصيدة أخرى يخاطب الشاعر الملك إدريس السنوسي، عند عودته إلى ليبيا على رأس جيش التحرير الذي حارب لأجل حريتها:
أن الأوان فما التأجيل ينفعنا / لنعلن الحق إقرارا وتنبيها
وحقنا وحدة القطرين تتبعها / حرية أنت معناها وراعيها
غير أن (فقهية) العبارة تتجلى في أغلب قصائد إبراهيم الأسطى عمر، سواء في شعره الوطني أم في شعره الوصفي والتأملي وغيره. نسمعه يخاطب (الطائر السجين) في شعر أشبه لكلام الفقهاء، فيقول له:
عد بدعواك إلى المولى الرقيب / من إذا شاء فما شاء يكون
ثم يمضي في القصيدة عينها فيخاطب الإنسان قائلا:
أيها الانسان، ما ذنب الطيور / نودع الاقفاص؟ هل كانت جناة ؟
رأم تمادت في ظلال وفجور / مثلنا؟ ما الحكم ؟ اين البينات ؟
ليس في المنقول والمعقول نص / يدعيه المرء في صيد الهزار
ومثل هذه التعابير الفقهية غير قليل في شعره، فهو لم ينس كونه (قاضيا» في محكمة حتى في شعره الوجداني، وفي شعره الوطني. والقضاء يملي عليه العدل وفقا لأحكام الفقه والشريعة، وإبراهيم يعيش (القضاء) حياة وشعرا معا.
على أن أجمل قصائده عندي هي التي عنوانها (جواب) والتي وفق فيها الشاعر مبنى ومعنى وفيها يقول:
قيل (صمتا) فقلت: لست بميت / إنما الصمت ميزة للجماد
إن معنى الحياة: قول، وفعل / وهي رمز مقدس للجهاد
إنما البلبل المغرد يشدو / أينما كان: في الربى والوهاد
ما أظن الأقفاص مهما تمادت / تمنح الطير لذ الانشاد
وهناك قصيدة أخرى مبنية على السخرية اللاذعة، وقد قالها الشاعر يخاطب أحد رؤساء الوزارة في برقة قبل الاستقلال، بمناسبة استقالته من الوزارة. وفيها يقول الشاعر ساخرا:
وداعا سيدي الباشا وداعا / فبعدك ألهب النفس التياعا
وتركك للوزارة (تحت ضغط) / يعز على الجماعة أن يشاعا
وتلك (خسارة) لا شك فيها / وركن (للمصائب) قد تداعى
ستذكرك البلاد بكل فخر / متى انتزعت سيادتها انتزاعا
ستذكر انك الداعي لحلف / مع المحتل، وهو اشد باعا
ستذكر انك المهتم حقا / بهدم بناء وحدتنا اقتناعا
فتلك من (المآثر) – وهي كثر – / ولو ذكرت لاعجز اليراعا
فراقك قد يعز على أناس / رأوا فيك المدبر والشجاعا
ودكتاتور برقة مستبدا / يكافئ بالوظائف من اطاعا
يهدد من يقول الحق جهرا / ويضرب بالخناجر ما استطاعا
وحقك قد حزنت عليك فعلا / كحزن الطفل إذ حرم الرضاعا
لأنك مصدر للشعر، أخشى / إذا ما غبت يمتنع امتناعا
فمثلك نادر في من عرفنا / من الحكام كبرا وانخداعا
تنفس بعدك الصعداء شعب / صريح لا يبادلك الخداعا
لقد استطاع إبراهيم الأسطى عمر في هذه القصيدة أن ينفس عن غضبته الوطنية على الرئيس المستقيل الذي كان يدا للاحتلال الأجنبي على الشعب الليبي، وكان تنفيسه هذا سخرية لاذعة لطيفة، هي أقسى من كل هجوم مقذع، ومن كل سباب وشتم مما اعتاده شعراء السياسة عندنا.
وأنا افف عند هذا الحد، وحسبي أنني استطعت أن أنوه بشاعر ليبي يستحق التنويه. وشكرا لأخي الأستاذ علي مصطفى المصراتي على كتابه الذي عرفني بهذا الشاعر وشعره.
عمان
_________________
الأديب | رقم العدد: 11، 1 نوفمبر 1966م، ص: 16 – 18.