سعيد العريبي (حكايات وذكريات - سيرة قلم)
تجارب

هو كده ما تحاولشِ

حكايات وذكريات: سيرة قلم 26

خلاف أم إختلاف..؟

كان خلافي مع الدكتور عبد المحسن سلام أثناء السنوات الأولى بالجامعة.. مجرد خلاف عادي في وجهات النظر.. ولا أنكر أنني – رغم هذا الخلاف – قد استفدت منه فائدة كبيرة.. خاصة شرحه القيم لمادة الأدب الأندلسي.. الذي كان في غاية الروعة والجمال.. وكان من ثمار ذلك الشرح أن قدمت له في نهاية العام الدراسي بحثا بعنوان: ” غزل مليح الأندلس صاحب العقد الفريد ” نشرته فيما بعد بمجلة الثقافة العربية.. وضمنته فيما بعد لكتابي الأول: “أبعاد نقدية: في اللغة والأدب والتاريخ”.

تتلمذ هذا الأستاذ – كما قال لنا – على يد طه حسين.. وكان والحق يقال غزير المعرفة واسع الاطلاع وعلى دراية كاملة بشعراء وأدباء العربية على مختلف العصور.. يختزن في ذاكرته الكثير من قصصهم وحكاياتهم الطريفة التي كان يرددها دائما في محاضراته وحكاياته.. وكان الطيب المتنبي أكثر الشعراء قربا من نفسه.. شديد الإعجاب به.. يردد دائما أشعاره بإعجاب شديد.. ولشدة إعجابه بالمتنبي وشعره، قال إنه قد حفظ ديوان شعره عن ظهر قلب.

لكنه وبالمقابل كان أستاذا مشبوها حاقدا على الإسلام والمسلمين.. يحمل في قلبه حقدا دفينا وعداءً متأصلا لكل ما يمت لنا ولتاريخنا بصلة تذكر.. استشعرت كل ذلك من خلال ما كان يردده على مسامعنا من أفكار مسمومة وحكايات مختلقة مستوردة.. مما كان يكتبه ويردده أغلب المستشرقين الحاقدين.

يحب من الطلبة من كان مستمعا جيدا وناقلا أمينا لما يقول.. ويكره منهم من كان ذا وجهة نظر تخالف ما يقول به.. ويرفض أن ينقل عنه ما لا يتفق وقناعاته وأفكاره الخاصة.

وكنت والحمد لله من هذا الصنف الأخير.. الذي يعارضه فيما لا يتفق وأفكاره.. ويرفض أن يكون بوقا يردد ما يقول دونما تدبر أو فهم.

خلال السنوات الأولى كنا نختلف.. وكنت أقول برأيي ووجهة نظري الخاصة فيما يعرضه علينا من أشعار وحكايات.. لكن هذا الاختلاف تطور وكبر.. ولم يعد مجرد اختلاف في وجهات النظر.. بل أصبح عداءً مستحكما.. عندما صار ما يعرضه علينا يمس عقيدتنا وديننا ويشكك في أصولنا وتاريخنا.

(هو كده ما تحاولشِ):

هذه هي عبارته العامية التي كان يرددها هذا الأستاذ.. ويصرخ بها في وجه كل من يعارضه في أمر ما.. وقد قالها لي مرارا وتكرارا.. أعني في كل مرة قلت فيها بوجهة نظري الخاصة.

وأذكر أنه وعندما قرأ علينا بيت المتنبي الذي يقول فيه: (إذا كانَ بَعضُ النّاسِ سَيفاً لدَوْلَةٍ ….. فَفي النّاسِ بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ).

قال مفسرا: من الأخطاء التي سجلها النقاد على المتنبي في هذا البيت.. جمعه لكلمة بوق على بوقات.

فقلت له يا دكتور.. أنا لي وجهة نظر أخرى.. فقال ما هي.. ؟

فقلت: المتنبي كما نعرف جميعا من أفصح شعراء العربية.. وقد عاش صغيرا في البادية كي يتقن العربية.. ومن هنا فهو يعرف أكثر مني ومنك أن كلمة بوق تجمع على أبواق.. وجمعه لها في هذا البيت على (بوقات) كانت في محلها.. ولحكمة أرادها هو.

فقال: وما هي هذه الحكمة.. يا سيد العارفين.. ؟ 

فقلت: يتحدث المتنبي في الشطر الأول من هذا البيت عن الرجال.. ويتحدث في الشطر الثاني عن أشباه الرجال.. بل عن أشباه النساء من المزمرين والمطبلين الذين لا يستحقون أن يجمعوا على جمع المذكر.. حتى ولو كان جمع تكسير وهو (أبواق).. لذلك جمعهم بدلا منها على (بوقات) جمع مؤنث سالم.

فنظر إلى باستهزاء وازدراء وقال جملته المثبطة المعهودة: (هو كده ما تحاولش).

وفي موقف آخر.. وحينما قرأ علينا قول الشاعر: (حتى إذا جنَّ الظلامُ واختلطَ …. جاءُوا بمَذْقٍ هلْ رأيْتَ الذّئبَ قطَّ).

لم تكن له وجهة نظر خاصة في شرحه لهذا البيت.. بل ردد على مسامعنا ما كان يردده النقاد من قبل فقال: المذق هو اللبن المخلوط بالماء.. ومعنى البيت هو: حتى إذا اختلط الظلام جاءوا بلبن مقول فيه هل رأيت الذئب قط.

فقلت له يا أستاذ: أنا أرى أن الشطر الثاني من البيت أقرب إلى التشبيه.. منه إلى مقول القول.. والمعني هو: حتى إذا خيم الظلام وانتشر.. جاءوا بلبن يشبه في لونه لون الذئب.. أي أن الشاعر يقول لنا ولهم في وصفه لذلك اللبن: هل رأيتم الذئب هو مثل الذئب تماما.

فصرخ في وجهي بجملته الشهيرة المعروفة قائلا: “اجلس.. هو كده ما تحاولش”.

موقف آخر لم يعجبن من هذا الأستاذ:

لم يكن الحجاب في تلك الفترة منتشرا بين الفتيات.. وكانت أغلب الفتيات لا يرتين الحجاب.. ذات يوم وأثناء المحاضرة.. نظر هذا الأستاذ إلى الطالبة الوحيدة تقريبا التي كانت ترتدي الحجاب.. وقال لها أمام الجميع وباللهجة المصرية:  “ما تتمتعي بشبابك.. إنت لسه تؤمني بالخرافات دي”.

كانت الطالبة مؤدبة وخجولة جدا.. فسكتت ولم تقل شيئا.. لكن ذلك الموقف أثر في نفسي وكرهت لأجله هذا الأستاذ.. وقد كان هذا الكره ينمو ويتطور شيئا فشيئا كما سنرى في الأجزاء القادمة بإذن الله تعالى.

مقالات ذات علاقة

ما وراء النقد الجائر

حسن أبوقباعة المجبري

منذ خمسين يناير وروعة ✈

عائشة الأصفر

التعكيسة … !!!

عطية الأوجلي

اترك تعليق