الطيوب | استطلاع: رامز رمضان النويصري
مازال للقصيدة العربية حضورها الثقافي على المستويين المعرفي والجماهيري، فهي مازالت قادرة على إطراب المتلقي وإقناعه بانها الصورة الحقيقية للشعر، وأن ما عداها يظل يراوح في مناطق الظل!
هذا الحضور، يؤكده الشعراء من خلال التزامهم بقواعد القصيدة العربية التقليدية، بالحفاظ على الطريق التي طرقها الشعراء العرب الأوائل، وضبطها الفراهيدي، إذا مازالت هذه البحور ضاجة وزاخرة!
هؤلاء الشعراء، يجددون عهد هذا النص العربي، جيلاً بعد جيل، من خلال استلامهم للراية التي رفعها امرؤ القيس، محافظة على جِدّتها ورفرفتها، وإشعاعها!
في استطلاعنا هذا، توجهنا بسؤالنا إلى مجموعة من الشعراء الليبيين، ممن يواصلون الكتابة على البحور الشعرية، ويبدعون قصائد تؤكد حضورها القوي، في المشهد الشعري الليبي، فكان سؤالنا:
كيف تفسر استمرار تجربة القصيدة العربية التقليدية (العمودية)، في عصر الذكاء الاصطناعي، وما بعد بعد الحداثة؟
ومحاولة لفهم:
لماذا هناك شعراء مازالوا يمارسون كتابة القصيدة العربية؟ بالرغم من انتشار الشعر الحديث، مع انتشار منصات التواصل! هل مرد التأثير أيديولوجي أم ثقافي؟
وهل هناك جمهور لهذه القصيدة؟
هل هناك تغيرات نالت من القصيدة العربية؟ على مستوى: الأغراض، الشكل، البناء الداخلي.
في الجزء الثاني من استطلاعنا، نواصل الرحلة، التي نوقف فيها بداية من الشاعر “محمد المزوغي”، الذي يقول:
اللغة العربية أحد أهم أسباب بقاء النص الخليلي
إطلاق مصطلح القصيدة العربية على القصيدة التي ترتكز على نظام الخليل الإيقاعي وتنوعاته التي تصل إلى نحو 64 إيقاعا أو نوتة موسيقية أظنه يكتنز جزءً من الإجابة، فاللغة العربية أحد أهم أسباب بقاء النص الخليلي، ذلك إنها لغة غنائية بالدرجة الأولى، ولعل هذه الغنائية التي تنطوي عليها اللغة مع اتساعها وتعدد مترادفاتها، هي التي أوجدت الإيقاع العمودي الذي بدأ سجعاً ثم رجزاً ثم قصيداً في مرحلة موغلة في القدم، قبل امريء القيس وقبل عنترة، فكلاهما أشار إلى شعراء أقدم، فامرؤ القيس يذكر شاعرا اسمه ابن حذام اشتهر ببكاء الديار، ولم يعرف أحدٌ من هو ابن حذام، وعنترة يقرر أن الشعراء الذين قبله لم يتركوا معنى إلا طرقوه.
قِدمُ النصّ العمودي وامتداده عبر القرون، هو أيضًا أحد أسباب بقاء النص العمودي ويحدث أن يتجه الأندلسيون إلى الموشحات، فيولع بها الناس فترة، ثم تنتفض القصيدة العمودية فتعلن حضورها مجدداً، الأمر نفسه وقع بعد ما يسمى بعصور الانحطاط شاع الدوبيت والكان كان والقوما، ثم انتفضت القصيدة العمودية واستعادت حضورها على أيدي شعراء النهضة، وظهر التجديد في شعر المهجر على هيأة رباعيات ومقاطع قصيرة، وعادت القصيدة العمودية بعدها، وحتى بعد ظهور قصيدة التفعيلة على يد السياب ونازك وما أنتجته من شعراء كبار كصلاح عبد الصبور وأمل دنقل والفيتوري وغيرهم، ظلت القصيدة العمودية حاضرة في شعر الجواهري وبدوي الجبل والبردوني ونزار.
وعندما تراجعت قصيدة التفعيلة، وظل توهجها ربما فقط في دائرة محمود درويش، مفسحة المجال لصعود نجم قصيدة النثر التي نظر لها جماعة مجلة شعر وأكبرهم أدونيس ويوسف الخال، خفت حضور القصيدة العمودية وأعلن أكثر من ناقد موتها، لكنها الآن تنتفض انتفاضتها الكبرى وتربك كل التوقعات ويتجه إليها كالمسحورين آلاف الشعراء الشباب لا الكهول، وبإمكانك أن تحصي المئات في كل بلد يتصدرون المشهد الشعري المعاصر بقصيدة كلاسيكية الشكل حداثوية المضمون.
وأنا أظن أن من أهمّ الأسباب هو تأثير القوّة التي يتمتع بها الماضي العربي، ماضي الفتوحات وحركات الترجمة و غزارة التأليف وصناعة الحضارة، في مقابل الراهن العربي الضعيف الذي يعيش عالة على حضارة الإنسان الأوربي، لكنه لم يستطع التخلص من إرثه الحاضر بقوة في منهج تعليمه وطرق تفكيره، بالإضافة إلى حالة النستولوجيا التي يدفع إليها الواقع المزري، فتجعل الإنسان العربي يحنّ إلى ماضيه غير قادر على إحداث قطيعة أبستمولوجية معه.
والخلاصة، أن اللغة والتاريخ الطويل للنص العمودي وحضور التراث العربي بقوّة، كل هذه العوامل ستجعل القصيدة العمودية عصيّة على الاندثار، والمعادلة هي اللغة العربية تستمد بقاءها من القرآن الكريم، والشعر العربي يستمد بقاؤه من اللغة العربية، ومادامت هذه المعادلة قائمة فالشعر العربي سيظل قائما.
ويعقب الشاعر “محمد المزوغي” بقوله:
أما عن الجمهور فيمكن القول من خلال استقراء الواقع أن جمهور هذه القصيدة ثابتٌ ويزيد.
وعن التغيرات نعم حدثت تغيرات مهمة على مستوى المضمون، أنتجت نصا رابعاً مازال لم يأخذ حقه من النقد، فبالإضافة للقصيدة التقليدية على مستوى الشكل والمضمون، وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، هناك نصٌّ رابع يأخذ من القصيدة التقليدية شكلها وإيقاعها ويلبسها لغته المعاصرة ومضامينه الحداثية، وأظن هذا النصّ هو السائد الآن في المشهد الشعري المعاصر.
الوقفة التالية، مع الشاعر “هود الأماني”، الذي كان كما في نصوصه شديد التركيز، وهو يؤكد أن:
الشّعر يثبت نفسه دائما ويقول: أنا هنا!
ويعلل ذلك:
الموضوع شائك جدّا، وتحدّث حوله الكثيرون، ولا أظنّ أنّ الخوض فيه سيأتي بنتيجة.
يستطيع كلّ كاتب أن يصنع عالمه الخاص كما يحبّ، ويستطيع القارئ أن يملأ وجدانه بما يحبّ، الفنّ لا يخضع للمنطق في كثير من الأحيان، لذا فالوعي الفنّي والذّائقة هما الفيصل دائما.
من قرأ محمود درويش بعمق وتمعّن -وقصدت هنا أن يكون درويش مثلا- يدرك تماما أنّ الشّكل قابل للتّطويع، وأن يكون بيئة خصبة لإنبات ونموّ شتلات القصيدة الجميلة والفلسفة الجماليّة للشّعر، وهناك كثر آخرون يثبتون ذلك.
يتعيّن علينا أن نهدّم أحكامنا المسبقة وتمرين تلقّينا تجاه كلّ قصيدة بعيدا عن خلفيّتها الشّكليّة، الشّعر يثبت نفسه دائما ويقول: أنا هنا!
الشاعرة “فاطمة الزهراء أعموم”، تعلق بقولها:
أرى أن القصيدة العمودية تزدهر بشكل ملحوظ
وهي تجيب عن استفساراتنا، فتقول:
أنا في الحقيقة لم أفهم الربط بين القصيدة العمودية والذكاء الاصطناعي، ولكن من وجهة نظري إن الحداثة لا تعني بالضرورة التخلي عن أدواتنا، ولكنها تعني التطوير. والتطير ليس بالضرورة أن يلغي ما قبله، لذلك أرى أن القصيدة العمودية تزدهر بشكل ملحوظ.
استغرب من هذا السؤال حقيقة! وهل الجميع مطالب بكتابة شكل شعري حديث معين؟ وكأن القصيدة العمودية يجب أن تكون من التراث القديم الذي نقرأه بعين الفخر ونعجز عن كتابته، النص العمودي مع انتشار منصات التواصل أصبح أكثر قوة وازدهار.
بالطبع للقصيدة العمودية جمهورها ومتذوقيها ومبدعيها أيضا وبالرغم من أن البعض يرونها قيود لا أكثر إلا انني أراها مساحة للتحليق بجناحين أقوى وبشكل مختلف لا أفضل أن اذكر أسماء شعراء ولكن وبكل تأكيد أن محركات البحث تغص بمبدعي القصيدة العمودية كما هي الاجناس الأدبية الأخرى.
نعم القصيدة العمودية الان تحاكي واقع حالنا نحن هي صحيح أنها تحمل نفس البناء لكن بأدوات أكثر رقة وحيوية أما البناء الداخلي فالان يأخذ طابع مختلف وجميل.
مسك الختام لهذا الاستطلاع، سيكون مع الشاعر “إبراهيم مسعود المسماري”، يقول عن القصيدة العربية:
جذورها ماتزال حية متجددة
وفي شكل مختصر ومكثف يجيب الشاعر على سؤال استطلاعنا بقوله:
أفسرُه بأمرين: الأول وجود مناصريها أي متذوقيها، والثاني وجود صانعيها أي كاتبيها.
فكما للأجناس الأدبية الأخرى صُناع ومتلقون من الطبيعي أن يكون لها ذلك هي الأخرى، والدليل انتشار شعرائها في كل قطر عربي .
ويضيف، عن وجود شعراء مازالوا يمارسون كتابة القصيدة العربية:
وجود روافد هذه القصيدة يفرض ممارسة كتابتها، جذورها ماتزال حية متجددة فمن الطبيعي استمرار نموِّها وتكاثرها، وانتشار منصات التواصل صار عاملا خادما لانتشارها أكثر من ذي قبل فشعراؤها موجودون ومؤثِّرون بوضوح في هذه المنصات.
ويقول عن جمهور هذه القصيدة:
بالتأكيد يوجد لها جمهور متابع ومتذوق، والدليل كثرة الأمسيات والأصبوحات والمناشط الخاصة بهذه القصيدة.
ويختم الشاعر “إبراهيم المسماري” مشاركته، مجيبا عن سؤالنا: هل هناك تغيرات نالت من القصيدة العربية؟ على مستوى: الأغراض، الشكل، البناء الداخلي.
نعم لكنها لم تنل منها؛ فالأغراض حدث فيها تطور فقد انقرض بعض أغراضها كالهجاء مثلا، والشكل والبناء كذلك حيث حدث تنوع وتطور في الأوزان إذْ نلحظ تنوعا أحيانا في وزن القصيدة الوحيدة من اعتماد بحر واحد إلى أكثر من بحر، وارتياد شعرائها اليوم لبحور كانت شبه مهملة كالمنسرح مثلا.
تعليق واحد
[…] […]