حين تصل مدينة مراكش المغربية الجميلة وتعبر شارع اليرموك الذي تستريح بوسطه نافورة مياه دائرية رقراقة ويرتفع على امتداد جوانبه سور المدينة الطوبي الأحمر التاريخي، فاتحاً أبوابه المشهورة (الباب الجديد، باب لاريسا، باب سيدي غريب، باب دوكالا)، التي يخترق أحدها جامع الكُتبية، وقصر البديع، وقصر الباهية، ومتحف دار السي سعيد، وضريح يوسف بن تاشفين، وقصر المأمونية الذي يرجع بناءه الى عهود المدينة الحمراء التي ارتبطت بالترف والفنون وأطياف الجمال المتنوعة، تستقبلك ساحة الفنا بعالمها السحري الخلاب وتصافحك منذ الوهلة الأولى بأنامل رقيقة دافئة وروح مغربية مميزة، فتبسط أمامك مشاوير جولة في أعماق المدينة تظل راسخة في ذاكرتك التي تحتضن مراسم زيارتك لهذه المدينة الفاتنة.
وعلى بساط ساحة الفنا أرجل كثيرة تقذف خطواتها متعجلة سريعة، ومتأنية بطيئة، في جميع الاتجاهات
تنتصب الخيام وسط ساحة الفنا قبالة مبنى بريد المغرب المحاذي لزنقة (بني مرين) المسكونة بالضجيج المتواصل حيث يستضيف مدخلها عشرات الدراجات النارية الرابضة وهي تصطف حتى نهايتها المطلة على شارع مولاي اسماعيل. كما تقودك دروب الساحة نحو سوق القصابين والسوق البلدي الذي يفترش فيه الباعة أرض الساحة يعرضون بضائعهم المختلفة، وتتفتح أمامك الكثير من الزقاق التي تتسع وتضيق، وتتفرع وتتلوى مساربها مؤكدة بأنها سطرت أحداثاً ونسجت قصصاً وحكايات متنوعة خلدتها هذه الأمكنة وطوتها صفحات التاريخ الغابرة.
كما يطوق الساحة عدد كبير من المقاهي والمطاعم الشعبية البسيطة والتي من بينها مقهى جلاصيي GLACIER الكائن بوسط ساحة الفنا وهو يرتفع عن أرض الساحة بعدد خمسين درجة تتصاعد بسلم اسمنتي لولبي إلى سطحها حيث تصطف عدة طاولات وكراسي حديدية تنتظر زبائنها طوال العام. من علياء فضاء المقهى يظهر جامع الكُتبية بمئذنته المرتفعة المزدانة بأنوارها المشعة على امتداد الساحة فيصبح الليلُ بها غير الليل في غيرها، حيث يتحول إلى حياة مشعة بالأضواء المبهرة تنهل من روافد متعددة وأطياف لا حدود لها. تتطاير في سماء الساحة سحب من الأدخنة وتتداخل في جوفها روائح عديدة يمكن تمييز بعض منها كرائحة الشواء والبخور والخمر والحشيش وروث خيول العربات التي تتهادى في مشيتها بإيقاع حوافرها المتناغم مع حركة واهتزاز العربات المجرورة حاملة عالم الجغرافية الدولية إلى عوالم الساحة المغربية الدافئة، وبالطبع فلا يمكن أن تغيب عن الساحة عطور المساء الفواحة التي ترشها النساء والصبايا المغربيات الفاتنات لتشكل سحباً من الجاذبية الساحرة.
وعلى بساط ساحة الفنا أرجل كثيرة تقذف خطواتها متعجلة سريعة، ومتأنية بطيئة، في جميع الاتجاهات وهي ترسل أبصارها إلى مشاهد شتى في كل أنحاءها، لترصد المنظر تلو الأخر، باعثة ابتساماتها ونظرات إعجابها وعزف موسيقاها الداخلية بكل انتشاء. ووجوه كثيرة تتفاوت تقاسيمها وسحناتها بين المغربي والعربي والأجنبي حاضرة في ساحة الفنا ولكنها تذوب وتغيب بأحاسيسها وانتشاءها الوجداني مع كل ما تبعثه الساحة من رسائل إلى الأعماق وأسئلة في الفكر ومداياته المتناهية. تظل كل تلك الوجوه والأنفس أسيرة ضجيج الساحة المنبعث من موسيقاها التي تصدح بها آلاتها الوترية كالعيدان المغربية المميزة الصوت والشكل، والأدوات النحاسية كالقرقابات والمزامير، وايقاعات الدفوف والطبول، وأصوات المغنيين الهواة بأهازيجهم الشعبية، وصيحاتهم، ورقصاتهم، وتعليقاتهم وطقوسهم الجميلة حين تتداخل مع نداءات البياعين بوسط ساحة الفنا، أو على أطراف شارع مولاي رشيد وهي تتفنن في صيد الزبائن لتسويق المنتجات والبضائع بجاذبية ليس من السهل مقاومتها، إلى جانب حلقات السحرة والمشعوذين وغيرها من الدوائر المغلقة التي تظل تدور بك ولا تتوقف.
ساحة الفنا … موعد مسائي قصير مع البهجة المؤقتة والتي سرعان ما تتبخر أمام جيوش المتسولين والفقراء الذين يشكلون عالماً خاصاً ومميزاً في مراكش وجل بلاد المغرب، يحملون عذاباتهم وأحزانهم وإملاقهم ويطوقون بها أطراف ومداخل الساحة، أو حتى يخترقون أعماقها ويغوصون فيها بحثاً عن نظرة عطف، ويد عون ورحمة ومساعدة لعلها تزرع البهجة فيهم حتى وإن ظلت مؤقتة.
على الطاولة البسيطة بمقهى جلاصيي GLACIER المرتفعة عشرات الأمتار والمتعالية عن ضجيج الساحة الأرضي جلستُ وحيداً أنثر أنفاسي، وأرصد مشاهداتي، وألتقط بعض الصور التذكارية وأدون أنطباعاتي حول هذا العالم الذي يتجرع معاناته وآلامه، ويشرع أبوابه كل يوم للمسرة والاستمتاع في حوار مشاكس مع صنوف الحياة المتنوعة. سافرتُ خلال هذه الجلسة القصيرة إلى فضاءات الفنا الرحبة وتأملت العديد من المواقف والمناظر في محاولة للقبض على مفاتيح الساحة فلم أفلح، فظلت أهازيجها وطقوسها الشعبية تطاردني بلا حدود.