تاريخ

المستشرق الإيطالي كرلو نلّينو (1872 – 1938م)، وكتابه علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى (روما 1911)

المستشرق الإيطالي كرلو نلّينو (1872 - 1938م)
المستشرق الإيطالي كرلو نلّينو (1872 – 1938م)

الحمد لله حق حمده، وصلَّي الله وسلم على خير خلقه.

أدرجت في المنشور السابق (ساعتان في الوسعاية بمدينة طرابلس المحروسة: 1265 هـ / 1849م)، إشارة استطرادٍ موجزة مستلَّة من مقاربة مطوَّلة عن: (الفقيه المالكي العالم الفلكي عبد الرحمن التاجوري وصدى آثاره في المشرق والمغرب – القرن 10 هـ/ 16م)، نشرت بمطبوعة (بحوث مجمعية / الصادرة عن مجمع اللغة العربية، العدد الرابع 1439 هـ/ 2017م)، وكان الهدف من هذه الإشارة ربط تلك “الساعة الحديثة” الطارئة على مدينة طرابلس في منتصف القرن التاسع عشر، بما تقدَّمها من حراك هذا الفقيه العالم الذي قدِّر له قدرٌ ملحوظ من النبوغ في علم (المواقيت) الإسلامي، والظهور بين العارفين به في ذلك القرن.

وقد تضمَّنت تلك المقاربة أيضاً نبذة موجزة عن عملٍ طريفٍ نفيسٍ ؛ “وضعه بالعربية المستشرق الإيطالي الكبير كارلو نلّينو (1872 – 1938م) الذي كان غزير العلم بالجغرافية والفلك عند العرب، [الزركلي، الأعلام، ط 4، بيروت 1979 ج 5 ص 213 – 214]، ودُعِيَ إلى مصر سنة 1909م فألقى في جامعتها الأهلية / القديمة التي كانت حديثة عهدٍ آنذاك (أُسِّسَت سنة 1908م) محاضرات بالعربية، جُمعت خلاصاتها في كتابٍ بعنوان (علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى)، وطبع بمدينة روما سنة 1911، في 370 ص، “بعد أن أنفق سنواتٍ في التمهيد له وجمع مصادره وتحليل عناصره، فلم يُؤلَّف بعده مثله” (كذا). [نجيب العقيقي، المستشرقون، ط 4، القاهرة 1980، ج 1 ص 432 – 434]. ويضمُّ عمل نلّينو بين دفتيه (40) محاضرة، و(18) ملحقاً من النصوص المختارة، و(فهرس الأعلام والمواد المهمَّة على ترتيب حروف المعجم)، و(فهرست علماء الإفرنج) بالحروف اللاتينية، وثبتاً بـ(بيان مضمون كل محاضرة).

وقد استهلَّ نلّينو المحاضرة الثانية بالإشارة إلى أنَّ: “محاضراته ستدور على تاريخ علم الهيئة عند العرب في القرون الوسطى؛ أي لغاية سنة تسعمائة للهجرة النبوية تقريباً [1494 – 1495م]”، [ص 16 – 17]، منبِّهاً في هذا السياق أيضاً إلى أنَّ لفظ “العرب: إذا كان الكلام عن العصور التالية للقرن الأول من الهجرة، اتخذنا ذلك اللفظ بمعنى اصطلاحي، وأطلقناه على جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية. فتدخل في تسمية العرب: الفرس والهند والترك والسوريون والمصريون والبربر والأندلسيون وهلمَّ جرّاً، المتشاركون في لغة كتب العلم، وفي كونهم تبعة الدول الإسلامية”. ومن الجليِّ أنَّ هذا الأثر العلمي الرصين يرصد ماضي علم الفلك في الحضارة العربية الإسلامية في تلك القرون التي سبقت عصر عبد الرحمن التاجوري، ويقف عند التاريخ المذكور (الموافق لتاريخ مولده – كما ترى).

طالع: ساعتان في الوسعاية بمدينة طرابلس المحروسة: 1265 هـ / 1849م

وقد أشار في مستهلِّ المحاضرة (29 / 30) إلى هذا الجانب الديني من علم الفلك، و”ما وقع بين بعض أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات وبين بعض الظواهر الفلكية من الارتباط الواضح الجلي. إنَّ أوقات الصلوات الخمس تختلف من بلدٍ إلى بلد ومن يومٍ إلى يوم؛ فيقتضي حسابها معرفة عرض البلد الجغرافي وحركة الشمس في فلك البروج وأحوال الشفق الأساسية. ومن شروط الصلاة الاتجاه إلى الكعبة فيستلزم ذلك معرفة سمت القبلة؛ أي حلَّ مسألةٍ من مسائل علم الهيئة الكروي مبنية على حساب المثلثات”، [ص 229 – 230]. ولكنَّه اتَّجه في آخر الكتاب إلى المزج بين (علم الفلك العربي / وعلم الفلك الغربي) ؛ فقد جاء في آخر المحاضرة نفسها : “إنِّي إجابةً لطلبكم أشرع الآن في بيان جزءٍ من علم الهيئة الكروي، منتخباً ما لا بدَّ من معرفته لمن ينظر في تاريخ ذلك العلم الجليل عند العرب في القرون الوسطى، شارحاً بغاية الإيجاز ما بيننا وبينهم من الفرق في تصوُّر حركات الأجرام السماوية، وبيانها بطرقٍ هندسية”، [ص 235]. وتعود بعض المعطيات الغربية في المحاضرة الأخيرة (40) إلى القرن التاسع عشر، [ص 303 – 306].

عدتُ هنا إلى نسخةٍ أصلية من الكتاب، اقتنيتها بمدينة حلب بتاريخ (15 – 7 – 1981)، وهي من أواخر المطبوعات العربية القديمة نسبياً في أوروبا (عمرها اليوم قرن وبضعة عشر عاماً)، وقد صدرت للكتاب طبعة مصوَّرة في بيروت (1413هـ / 1993م)، توجد نسخة منها بمكتبة المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية. وكانت تلك الزيارة إلى حلب متابعة البداية لطباعة الجزء الأول من (اليوميات الليبية). وقد شدَّني آنذاك حقّاً مشهد الوقوف، بإحدى مكتبات الشهباء، على الطبعة التاريخية العتيقة لهذا الأثر النفيس.

وتستوقفنا هنا الطبعة الأصلية للكتاب التي صدرت بروما سنة 1911، وهي سنة الغزو الإيطالي لبلادنا العزيزة من جهةٍ، كما يشدُّنا موضوع الكتاب النفيس الذي يُعنَى بأحد الحقول العلمية التي يقلُّ اليوم الدارسون العارفون بأسرارها، وخاصَّة بين الباحثين في (العلوم الإنسانية) المألوفة. وتذكِّرنا هذه الإشارة المتواضعة إلى ضرورة (النظر النقدي المقارن) بين هذا العمل العلمي الرصين المتعلِّق بالتراث العربي الإسلامي الذي وافق صدوره سنة الغزو البغيض من جهةٍ، و”شتّان بين الوجهتين” / وما عُرف – من جهةٍ أخرى – لهذا المستشرق البارز في بقيَّة عمره أيضاً من حراكٍ جعله “من رجالات الفاشية في الشرق” ؛ كما أشارت الباحثة الدكتورة نورا اللافي في دراستها : “إتوري روسي : الاستشراق الإيطالي والمعرفة الاستعمارية في ليبيا – رهان العصر لتأريخ إزالة الاستعمار”، ضمن ندوة : (المعرفة الاستعمارية والهويات في البلاد المغاربية) الني نظَّمها المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية (نوفمبر 2010).

وقد آثرت أن أضع في ختام هذه السطور المتواضعة لوحات جامعة لمحتوى كتاب (علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى) للمستشرق الإيطالي نلّينو، لنقف على مباحثه العديدة، ومن المؤمَّل في هذا المقام حقّاً أن ينال (تاريخ العلوم) ما يستحقه من العناية الرصينة الجادَّة، من “منظورٍ علميٍّ نقديٍّ رصينٍ”، في الكليات والمراكز البحثية المناسبة بالجامعات الليبية، والله وليُّ التوفيق.

مقالات ذات علاقة

كتّاب الاسياد

المشرف العام

الحكاية المنسية في الأخبار الطرابلسية 1880 – 1950

المشرف العام

قصر الأخيار

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق