تحل الذكرى الاولى لإعصار دانيال الذي اجتاح مدينة درنة سريعا، لتتحسس فقد لم يهزمه إلا الغياب، ويتأرجح على ذاكرة الحضور.. يحل الوجع وكأنه في التو واللحظة وكيف السبيل يا درنة؟
لازال الجرح غضا ينزف بصمت وبحرقة، بعد أن بلع السيل الالاف، اجتثوا وبيوتهم على بكرة أبيهم.. الكل يلملم جراحاته، فلم يسلم بيت من وجع وموت صادم، ويظل الإنسان المبدع يعافر بكلتا روحه، يواطن يومياته لعله يجد للنسيان منفذ.
لم نخرج من عتبة الصدمة بعد….!
في تلك الليلة ثبتت جيدا الفوتوغرافية فاطمة القرقني كاميرتها على الشرفة، هي التي تقطن في شقة بدور عال، قبالة البحر، تنتظر مرور العاصفة، في محاولة منها للتوثيق وتتبع مسار حركتها. كانت جد متوجسة من الوادي خوفا من غدره. وقد فعلها دون أن يغمض له جفن.
في الصباح الباكر بعد مرور الإعصار خرجت فاطمة لتنصدم من هول ما رأت جثث ملقاة في كل مكان، بيوت دمرت، وشوارع وأزقة اختفت ووووو.
غادرت فاطمة درنة رفقة زوجها، بعضا من الوقت. لتعود سريعا اشتياقا لها، تلجأ إلى الجبل تتأبط كاميرتها؛ وتصعد الي الطبيعة تلجها لعلها تمنحها بعضا من طمأنينة، توثق فاطمة العصافير تقول لي: (في هذه الفترة أركز علي تصوير العصافير، ووثقت مجموعة منها، بالنسبة لنوارس بحر درنة زاد عددها علي طول الشاطئ)، وتضيف: (المدينة خلية نحل منّ الأعمار التنقل فيها صعب جدا نتيجة عمل الشركات، مازالت المدينة متقطعة الأوصال ولازالت القلوب حزينة والاحاديث محصورة علي ايام الطوفان، كل بيت لديه قصة تختلف مثل الأساطير لم نخرج بعد من صدمة ما حصل ولهذا خروجي اصبح من آجل الطيور اليوم كله اقضيه في الجبل).
أتساءل أين أنا…!
رغم عدم وجود الشاعرة وعضو هيئة التدريس د.نجاح بن علي ليلة الإعصار، بسبب واجبات وظروف أسرية، أمضت ليلتها في قلق وخوف شديد كتبت لي:
يوم وقوع الكارثة، قلبي، أسرتي، أحبائي كانوا هناك. الفن، المسرح والشعر، الأمس والذكريات والغد الموسوم بالجمال.. كانت تلك الليلة من أطول ليالي العمر قلق وخوف، في الصباح هرعتُ نحوها وفي الطريق قابلتني قوافل المساعدات متجهة من الغرب نحو الشرق، كانت هذه القوافل يد حانية ربتت على قلب المدينة، لم أتمالك نفسي وانحدرت دموعي قائلة: لله درك يا درنة حتى في وجعك استطعت أن تجمعي الوطن قلبك فيص حب وعطاء حتى في أحلك الظروف.
ما أوجع قلبي أني تُهتُ في ملاعب الصبا ومرتع الشباب التفتُ يميناً وشمالاً وأتساءل: أين أنا؟ تأتي الإجابة موجعة أنت تقفي في وسط الوادي. تنهمر دموعي فلا وادي تنام بين جنباته المدينة، لا مياهه منسابة ولا أشجار تتمايل مشاكسة نسائم المساء. فقط الصحابة بوصلة المدينة. زرتها عديد المرات وفي كل مرة ينهال عليِ الحزن وأشعر بالحسرة وبالرغم من ذلك بداخلي صوت يهمس ستعود مدينة الصحابة مدينة الفن والمسرح سيصدح صوت مزمارها وسيرقص ركحها على أنغام أكف المتفرجين ويتزين جيدها بالياسمين.
لا أجد ما أرثي به أياه….!
توطدت علاقة الروائي الكاتب د.محمد الزروق بالشاعر الراحل مصطفى الطرابلسي، عندما جمعتهم بنغازي في ورشة للكتابة الإبداعية نظمها وأدارها الدكتور خالد مطاوع، منذ سنوات واستمرت تلك الصداقة والمعرفة يتبادلان الأحاديث والرؤية حول مشاريعهما الثقافية يقول لي:
كنت أرسل إليه يوم الواقعة، ليقيني أنه الوحيد الذي نجا فيمن أعرفهم، راسلته لأعرف منه الأخبار ولم أشأ مراسلة غيره لأنني تيقنت أنه عرف بالخبر وسيحرص، كان في الوادي وراقب المنسوب وأخبرني أنه مرتفع.
واضاف في سياق الحديث: سبق أن جمعتنا دورة في الكتابة الإبداعية في فندق الفضيل قبل 12 عاما وأنشأنا مجموعة وبقينا على تواصل..
وفجأة انقطع الاتصال وغاب مصطفى الي الأبد، يقيني يخبرني أنه لازال حيا…….”
مع اقتراب ذكرى رحيله. لا أجد ما أرثي به إياه، سوي ما قلته سابقا:
لا أعرف حقا ما جدوى كلمات الشاعر..
لا أدرك أيضا ما مغزى أن يحيا شاعر..
لكني أعرف أن العالم يصبح أجمل جدا جدا
إن وقف بأعلى منصته قلب الشاعر..
يمسى بشعا.. بشعا بشعا..
وكئيبا.. إذ يرحل شاعر..
جرح درنة لن تغطيه إلا طبقة من ملح التناسي…!
في آخر دورة لمهرجان بيت المدينة الثقافي، كانت الكاتبة الشاعرة ميسون صالح من الضيوف المدعوين، التي أمضت وقتا في ربوع درنة وقابلت شاعرنا الراحل عن قرب، تقول لي:
ماذا أحمل في ذاكرتي عن مصطفى الجميل، هذا سؤال محزن لدرجة الخوف. خوف كفيل بأن يمحي الجزء الأكبر من الذكريات كرد فعل للحماية، لذلك سأقول أول ما يخطر في بالي ولن استفز أي ذاكرة. جرح درنه لا تغطيه إلا طبقة من ملح التناسي..
عندما يقول أحدهم مصطفى، أتذكر أول شيء لكنته الدرناوية، وعربيته التي تزدحم بأبيات الشعر، ابتسامته وعيناه الخضراوان.. سؤاله عن تاناروت في أول لقاء لنا ومحاولته اللطيفة على المواساة.. أما آخر ما أتذكره أو لعله ما يغلف الذكرى ويحجب باقي التفاصيل، هو وقوفه على عتبة باب بيت درنه الثقافي، وسؤاله الملحاح بوجهه البشوش كلما ولجت (خيتي مش ناقصك شي، والله.. نورتو درنه).. اعجز عن الاسترسال حزنا…
ما حدث تلك الليلة اصابنا في مقتل…!
القاصة الكاتبة أسماء القرقني، التي شاهدت الماء يصعد إلى شقتها ونجت بأعجوبة، فقدت الكثير من أقرباءها وجيرانها كتبت:
نحن ما بعد ليلة11/ 9 /2023 لسنا كما قبلها أبداً، لم يعد لدينا متسع للفرح، الحزن والفقد الكبير وفاجعة الموت الجماعي التهمت بهجتنا وكل استعداداتنا للتخطي، البعض يقول: (عليكم ان تتفاءلوا، عليكم ان ترضوا وتتمسكوا بالأمل، لابد للحياة ان تستمر).
كل هذا الكلام صحيح، كل هذا الكلام رددناه وتشبثنا به في الحروب الكبيرة التي مرت بها مدينتنا الصغيرة، ولكن ما حدث تلك الليلة أصاب كل امالنا وتطلعاتنا الصغيرة في مقتل.
كل الأنظار اتجهت تلك الليلة صوب البحر، الكل متوجس من البحر، الكل يهرب من الأماكن القريبة من البحر، شاعر درنة مصطفى الطرابلسي اتجهت أنظاره إلى الجهة المعاكسة تماماً، كتب مخاوفه وهواجسه على صفحته، لكنه كتب أيضاً أنه نزل الى مجرى الوادي بنفسه ورأى أن منسوب المياه قد بدأ في الانخفاض، مصطفى الطرابلسي الذي كان وكأنه يرى نعشه منذ زمن أمام عينيه، وكأنه يعرف أن مصرعه ومصرع ثلث أهل المدينة سيكون على يد ذلك الوحش الفاغر فاه المتربص خلف مدينته، قبل الكارثة بخمسة أيام تقريباً وبالتحديد يوم 6/ 9 نظم اجتماعاً للتحدث عن مخاطر السد، وكتب والأسى ينسكب من كلماته ان الاجتماع لم يحضره سوى عشرون من أهل المدينة وكتب عبارته الشهيرة والتي كان يكررها كلما ألم بدرنة مصاب حزين وشعر باليأس من إصلاح الحال: (فيك يا وادي).
وتتبع:
بعد خمسة أيام من مصابنا الجلل وقفت على مسافة من البحر، لم يكن كما عهدته، حتى لونه الأزرق الجميل فقده واصطبغ باللون البني، شعرت بالغربة وكأنني لا اقف على شاطئ مدينتي الأثير، لم استطع أن أشاركه مودتي وأسراري وهمومي كعادتي، شعوري أنه ابتلع ثلث مدينتي وأهلي جعلني أرتجف بشدة وابتعد عنه بسرعة، وكان ذاك لقائنا الأخير.
وتضيف:
في الفترة الأخيرة تلهفت لزيارة مكتبة علاء الدين واقتناء كتب وروايات تبعدني عن مأساة الوادي وحكايا ضحاياه المؤلمة، عند دخولي وجدت نفسي أتجاهل كل الكتب التي ذهبت من أجل اقتناءها واتجه الى كتاب الأستاذ عبدالفتاح الشلوي (درنة بين البحر والسدين)، كل المواقف التي كتبها استاذ عبد الفتاح سبق وأن قرأتها ولكنني كنت وكأنني اقرأها للمرة الأولى، اقرأ قوائم الموت الطويلة وقلبي يدق بعنف، تعاودني الدهشة، لا اصدق ان كل هؤلاء رحلوا بكامل افراد عائلاتهم واحفادهم وجيرانهم ، الكاتب وثق المأساة و كتب ان عدد الشهداء ( 11، 300) ورغم أن العدد مهول لكن العدد الحقيقي أكبر بكثير، فهناك الكثير الذين لم يكتبهم والكثير من القصص التي لم يتطرق لها فالمصاب اكبر من ان يحتويه كتاب لكنني اشكر جهود الكاتب الشاهقة واعرف جيداً ان الالمام الكامل بمثل هذه النائبة ليس امراً سهلاً ابداً.
وتختتم حديثها:
صار قلمي مغموساً في الحزن وحرقة الأهالي ودموعهم وهاماتهم المنكسرة واجفانهم المنهكة، احاول بكل ما تبقى لي من عزيمة ان اخلصه واحرره من السواد، لكن نظرة واحدة من ام ثكلى فقدت كل ابنائها، من طفل يتيم فقد ذويه وكل سنده، من اب يبكي وحدته ويتحسر على بيته واهل بيته تجعله ينتكس ويعود الى تلك الليلة من جديد وكأن التاريخ تعطل وتوقف عندها.
دفنت مدينة يقف حنيني إليها خلف شاهد حزني….!
وفي نفس السياق تقول القاصة الشاعرة هدى القرقني:
ما حدث ترك غصة كبيرة وجرح لا يلتئم بل ينزف كلما ذكرناهم، مؤلم جداً أن يعاد الشعور في مثل هذا اليوم هاجمنا الفقد من كل مكان ليس هم فقط الضحايا نحن أيضاً ضحايا الطوفان غرقنا معهم وإن كنا نتنفس، لم استطع الذهاب إلى درنة بعد الكارثة شعرت بالخوف أن لا أجدها، اشاهد الصور و انكرها بيني وبين نفسي وكأنه كابوس، كل تلك الاماكن التي مررت بها الشوارع البيوت القديمة الزناقي التي لعبنا فيها الراسخة في ذاكرتي التي ألهمتني وكتبت عنها بروحي غادرت لم يعد لها وجود، كل تلك الاصوات التي رافقتنا غرقت في لحظة، الاقارب والاصدقاء الذين رحلوا كلما وجدت تعليقات لهم على بعض منشوراتي تخنقني العبرة، ففي مثل هذا اليوم دفنت مدينة يقف حنيني إليها خلف شاهد حزني الذي لن استطيع ابدا تجاوزه.