حكايات وذكريات: سيرة قلم 25
لماذا رفض اقتراحي بشأن تدريس مادة علم المواريث؟
خلال السنة الأولى بقسم اللغة العربية.. دعينا لحضور اجتماع عام لطلبة وأساتذة كلية الآداب.. وكان الغرض من ذلك الاجتماع حسبما أعلن.. مناقشة مناهج ومقررات الكلية.
ففهمت أنه بالإمكان إضافة مواد جديدة وحذف أخرى مما لا يتناسب وطبيعة كل قسم.. وتكلم المتكلمون وعلق المعلقون.. ورفعت أنا يدي.. مدفوعا بما ترسب في النفس من تدريس مواد اعتقدت أنها لا تمت للعربية وعلومها بصلة تذكر.
وأعطيت لي الكلمة فقلت: ما علاقة قسم اللغة العربية بعلم النفس العام وعلم النفس التربوي ومواد أخرى تعرفونها أكثر مني في إشارة ضمنية إلى مواد الفكر الجماهيري والنظرية وغيرهما.. إلى أن قلت:
أنا أقترح عليكم إضافة مادة إلى مواد قسم اللغة العربية.. لها صلة كبيرة باللغة العربية.. وورد ذكرها بالقرآن الكريم.. ودعا إليها رسولنا الكريم.. أقترح عليكم الموافقة على تدريس مادة علم المواريث.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس… وهو أول شيء ينزع من أمتي).. وقال أيضا: (تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم).
لاحظت علامات التعجب والاستغراب على الجميع.. كنت ساعتها آمل أن يوافقوا على اقتراحي.. فأنال بذلك شرف إضافة مادة علم المواريث إلى مواد قسم اللغة العربية.
لكن الأستاذ شعبان عوض الذي لم يعجبه الاقتراح – وكان وقتها طالبا بالسنة الثالثة – وقف وقال: طالب اللغة العربية ليس من اختصاصه توزيع التركة.. وهو لا يعد ليكون قاضيا.. طالب اللغة العربية يعد كي يكون مدرسا.. وهذه المادة ليست من المواد التي سوف يدرسٌها.
وكانت تلك ضربة قاصمة لمقترحي الذي قتل في المهد.. وتركه الجميع في قاعة الاجتماع جثة هامدة بلا روح.. فخرجت أجرجر خطى الخيبة والندم.. خرجت من الاجتماع غاضبا.. وتوجهت إلى القسم.. فوجدت الأستاذ شعبان في مكتب الدكتور/ محمد الغزالي رئيس القسم في ذلك الوقت.
فقلت له: لم أكن أتوقع هذا الاعتراض منك يا أستاذ شعبان.. لماذا هذا الاعتراض وأنت تحفظ القرآن الكريم والأقرب من غيرك إلى روح هذا الاقتراح.
فرد علي قائلا: يا سعيد.. الحنبلية خلق ذميم.. واحتد النقاش بيننا.. حتى تدخل رئيس القسم نفسه لتهدئة النفوس.
ذلك كان موقفي.. وتلك كانت نفسيتي.. وأعترف لكم الآن أنني كنت متهورا بعض الشيء.. لم أكن وقتها أزن الأمور بميزان الواقع.. بينما كان الأستاذ شعبان أكثر مني تفهما وأكثر عقلانية.. وربما كان تدخله ذاك مراعاة منه لأمور أخرى خفيت علي في ذلك الوقت.
فحينما كان الوقت مناسبا.. وكانت الظروف تسمح بأكثر مما اقترحت أنا في ذلك الاجتماع.. كان للدكتور شعبان موقفا آخر.. فقد كان – بعد الله تعالى – سببا في تأسيس قسم الدراسات الإسلامية.. بشروطه التي وضعت بعناية كي لا ينتسب إليه إلا من هو أهل لخدمة الإسلام أينما ومتى وجد.. فجزاه الله خير الجزاء.
من مقالب المتنفذين بقسم اللغة العربية:
اجتزت مرحلة الدراسة الجامعية بكل حسناتها ومساوئها.. وكانت ميولي أدبية صرفة.. لا أميل إلى الدراسات اللغوية، ولا أحب النحو وتعقيداته.. وحتى في مسائل الخلاف بين الشعراء والنحويين.. كنت دائما أميل إلى رأي الشعراء وأرجح كفتهم.. وكنت أردد دائما قول الشاعر: ولست بنحوي يلوك لسانه … ولكن سليقي أقول فأعرب.
نعم.. كنت أحب الأدب والأدباء وأكره النحو والنحاة.. وكان الجميع يعلم رغبتي في مواصلة دراستي العليا بشعبة الأدبيات.. وكان قسم اللغة العربية حسب النظام المعمول به في ذلك الوقت.. يخصص سنة للالتحاق بشعبة اللغويات وأخرى لشعبة الأدبيات.
ومن حسن حظنا أن كانت السنة التالية لاجتيازنا مرحلة الليسانس.. مخصصة للالتحاق بالدراسات الأدبية.. وانتظرنا أن يفتح باب القبول.. غير أن القسم تلكأ وتباطأ.. ثم أمتنع في تلك السنة عن فتح باب القبول للدراسات العليا.
وانتظرنا حتى الشهر الثالث من السنة القادمة.. وكنا نأمل أن نمكن من التسجيل بشعبة الأدبيات.. لكن وللأسف الشديد، كانت المفاجأة بفتح باب القبول في الدراسات اللغوية فقط.. وكانت تلك صدمة كبيرة بالنسبة لي.. ولم يعد أمامي سوى أمرين أحلاهما مر كما يقال.. أن أدرس اللغويات التي لا أحب.. أو أطرد فكرة مواصلة الدارسات العليا من رأسي.
تلك كانت محاولة مؤدبة – من جانب القسم – لمنعنا من مواصلة الدراسة.. كانت بمثابة شرط النسيب الكاره كما يقال.. قلت في نفسي لماذا يؤخروننا لمدة عام كامل.. ثم يضربون برغباتنا عرض الحائط ويغيرون التخصص في نهاية المطاف.. رغم أننا لا نطلب منهم قبولنا كمعيدين التي من أصعب شروطها إحضار بطاقة اللجان الثورية التي لا أملكها.. ولا يمكنني تقديمها.
لكن الرغبة في مواصلة الدراسة العليا كانت أقوى من أي شيء آخر.. فكان أن قبلت مكرها التسجيل بشعبة الدراسات اللغوية التي لا أحب.
لعل المقالات التي كتبتها ونشرتها في فترة الدراسة الجامعية.. تؤكد على رغبتي في مواصلة دراستي العليا بشعبة الأدبيات.. وأهم ما كتبت في تلك الفترة: مقالات فلسفة اللغة.. ونشرتها بدوريات مختلفة.. منها مجلة الثقافة العربية.. التي نشرت بها: أزمة اللغة.. واللغة والأشياء.. ولغة الشعر.. وغيرها.. وقد صدر ــ ما بقي منها ونجا من الضياع ــ مؤخرا.. في كتيب صغير تحت عنوان: (البعد الآخر للكلمة: مقالات في فلسفة اللغة).
2 تعليقات
مكتوب ماتع نافع في جميع التجارب التي تم خوض غمارها من قبلكم أستاذاً مُكرمّاً نشيط حارب من أجل فكرته المدعومة بخير نيّة وقدم لها وسيلة طيبة مناهُ الغاية النبيلة.
القدر لا بدّ نافذ مهما أغلقت بوجهنا النوافذ
وكل الأمور للمخلوق فيها خير وقد ظفر من صبر.
مبادرتي للتعقيب على هذهِ التّجارب والتي دفعتم خلالها الغالي والنفيس؛ كمن يهدي وردة واحدة لمن شيّد قصراً فارهاً وشتان المرء بينهما يفاضل أو يقيس.
نشكر مرورك الكريم…