في قصته الرائعة “حادث مؤسف للغاية ” نقتفي مع الكبير دوتويفسكي أثر سعادة الجنرال ايفان ايليتش ماشيا في ليلة مقمرة بعد نهاية سهرة عمل في ضيافة عسكرية. دقائق بعد أن خذله الحوذي سائق عربته الشخصية الذي ذهب قاصدا عرس قريبة له تطلع المفاجأة. كان الجنرال قد صمم في قرار نفسه أن يجعل من الخذلان متعة للمشي انتقاما من السائق وإيذانا بمعاقبته. لطالما اعتمد هذه الآلية بمثابة دفاع نفسي يعتمدها إثر كل انتكاسة غير متوقعة. أما الوجهة، فلم تكن محددة للوهلة الأولى. مضى صاحبنا وكانت الليلة بديعة ساكنة بلا رياح حقا.
وفجأة، وسط السكون البهيم سمع موسيقى وأصوات أناس يرقصون على أنغامها، وبدافع الفضول والاستكشاف اتجه على الفور إلى أقرب شرطي مستفسرا، ليؤكد له الأخير إنه عرس موظف بسيط.
إنها الصدفة وحدها تفعل ما تريد وتقود حيث ما تشاء. نحو الحظ الأبدي تارة، أو صوب “حادث مؤسف للغاية “كما سيحصل للجنرال تارة أخرى. وفي لحظة، وجد نفسه بالقرب من بيت يشهد حفل زفاف لأحد مرؤوسيه. إنه الكاتب النحيل بسلدومينوف.
أما العروس فلم تكن سوى نسخة طبق الأصل لبسلدونيموف. ولا أخفيكم ذهولي كقارئ متيم بالنكهة الدوتويفسكية حيال التوصيف الذي أعطاه الكاتب للعروس. فقد نعتها ب” نحيفة صغيرة الحجم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها شاحبة اللون، صغيرة الوجه لها أنف صغير حاد وعيناها الصغيرتان المتحركتان بسرعة من هذا الجانب إلى ذاك الجانب ليس فيهما أي أثر للارتباك بل على العكس، كان في تعبيرهما شيء قليل من الحصافة والخبث.
علمنا أن الجنرال كان قد عقد العزم على مجرد الحضور لدقائق في الحفل بصفته العسكرية الرسمية، ومفاجأة العريس بصفته موظف بمكتبه. بيد أن شيئا انبثق في خياله وهو في طريقه. شيء غريب وعجيب، وبدا كما لو أن الأمر يشبه تحد أقرانه الجنرالات ومواجهة معارضي أفكاره وطروحاته. وسرعان ما صاح هائجا كالمجنون محدثا نفسه بصوت مسموع “لكني أيها المشلولون الرجعيون، سأمضي في هذا النهج حتى النهاية.
سأحول عملا “يقصد هذه الزيارة المباغتة لحفل مرؤوسه” سيبدو في الظاهر جنونيا إلى عمل سوي أبوي سام وأخلاقي في آن واحد. هكذا حدث سعادة الجنرال نفسه وزاد قائلا بزهو عسكري ” سأمكث معهم في الحفل حوالي نصف الساعة أو أقل، وسأنصرف قبل العشاء مباشرة”. ولما كان الكلام مع النفس يساعد على تخفيف الأعراض العاطفية وتقليل القلق والصدمات المتوقعة، فقد استرسل سعادة الجنرال في تحرير قيود عقله ” سيتدافعون نحوي ويتوسلون إلي وينحنون إلى الأرض. ولكني لن أقبل سوى احتساء كأس واحدة، ثم أهنئهم وأنصرف قبل العشاء. وسأقول لهم “عندي عمل هام. والحقيقة يجب أن تقال هنا فصاحبنا يغمره اليقين في هذا الاعتقاد حد الغرور متى تفوه بهذه الكلمات، ويرسم ردود افعال الناس بدقة نفسية بالغة للغاية “ستتغير سحناتهم جميعا ويبدو الاحترام والجد هكذا أشعرهم بالتلميح اللطيف أن ثمة فارقا كبيرا بيني وبينهم. هذا هو الانطباع الذي أريد أن أقدمه لهم. وختم تخميناته “وغدا سيكون صنيعي هذا معروفا في الديوان طولا وعرضا. ولكني في الغد أعود كالعهد بي صرامة ودقة وحزما لا يلين. وبدا كمن يواجه مشكلة حقيقية”.
أتحداك يا صاحب السعادة الجنرال ستيبيان نيكيفوروفيتش أن تستطيع الإقدام على صنيع مثل هذا؟ أتدرك أن بسلدومينوف سوف يروي لأبنائه كيف جاء الجنرال بنفسه إلى بيته ليشاركه أفراحه؟ وكيف شرب في عرس أبيهم؟ وهؤلاء الأبناء سيخبرون أبناءهم وتصبح القصة أسطورة وتراثا ثقافيا. ألم يشرف موظف عالي المقام قدر أبيهم؟ ألم أرفع من خسيسه الوضيع معنويا طبعا وأعيده إلى نفسه. هكذا تقريبا كان ايفان ايليتش يقول لنفسه في لحظات. وفجأة اندفع الدم كله في رأسه ونزل على الطوار وعبر الشارع إلى بيت مرؤوسه العريس المسجل بسلدومينوف ص.132
لكن ما حدث لم يخطر على بال سعادة الجنرال. حتى أنه لم يدخل ضمن تكهناته قط. لقد قاده نجمه المنحوس ضد كل التنبؤات الوردية إلى حادث مؤسف. فبعد أن صعد ثلاث درجات متهدمة إلى المدخل الصغير لبيت العريس. كانت هناك بقايا شمعة ترسل ضوءا خافتا فاقم مشيته، فوطئ بقدمه اليمنى ماعونا كبيرا به ما لذ وطاب. وهو وجبة العشاء، بل كل رأسمال العريس للاحتفاء بضيوفه.
وسرعان ما تدفق اللحم على الأرض مثل انفجار بركان وشعت لافاته في التمدد والانتشار مثل قفير عسل ما فتئت سيوله تتدفق على الأرض منهكة فائرة. وفكر الجنرال للتو في الانسحاب بشرف تفاديا للفضيحة بعد أن يزيل الآثار والبقع الزيتية العالقة بحذائه. صدقوني والحق لا بد أن يقال. لو فعل ذلك لحصل أمر مختلف تماما.
في الداخل، كانت الحفلة شاخذة والراقصون ذكورا وإناثا يدقون الأرض بأقدامهم كأنهم سرية من الخيالة. وفوق هذا الصخب الشديد ارتفع صوت مايسترو الرقصة لتنظيم حركات الراقصات والراقصين. وكانت فرصة مواتية كي يتخلص الجنرال ايفان ايليتش من معطفه وحذائه بشيء من الارتجاف. وأمسك بقبعته في يده ودخل الحجرة دون أن ينتبه إليه أحد وسرعان ما كف عن التفكير في أي شيء.
قال له إيفان ايليتش ” كيف حالك يا بسلدومينوف…أتعرفني؟ بعد أن تقدم في خجل واستحياء ملحوظ شاب شعره كستنائي ملبد، وأنفه معقوف. تقدم متهدل الكتفين محملقا في الضيف غير المتوقع تماما على نحو ما ينظر الكلب إلى سيده إذا ما ناداه كي يجلده على ذنب اقترفه. وتابع في نبرة تواضع ” لقد جئت إليك بمحض الصدفة. لا أتخيلك تطردني؟ وغمغم بسلدومينوف الذي لم يكن في حالة تسمح له بإدراك شيء على الإطلاق: لا.. لا.. يا صاحب السعادة؟؟؟ وجحظت عيناه وهو في أقصى حالات الارتباك. وبعد دقيقة انتهت الرقصة. وإن هي إلا لحظة، حتى تراجع الجميع جاذبين من ملابس من لم يفطنوا لوجوده. فظلوا في أماكنهم لينبهوهم إلى الموقف الذي لم يخطر لهم على بال. إن سعادة الجنرال في بيت موظفه البسيط بسلدومينوف دون أن يوجه له الأخير دعوة.
ولإنه يحب الظهور والتلذذ بحكاية سهرته لدى الجنرال ستيبان نيكوفوروفتش رغم خيبة أمله عندما لم يجد خادمه حوذي العربة ترفيون. سرعان ما راودت الجنرال إيفان فكرة مصارحة بسلدومينوف للتو. ونزلت عليه مثل هدية من السماء. كان الجميع مسمرا كما على رؤوسهم الطير. ولكن بسيلدومينوف جعل الموقف يزداد سوءا،لأنه لم يفق بعد من الشلل الوقتي الذي أصابه ” يا إلاهي الجنرال يحضر حفل زفافي من دون أن أتجشم عناء توجيه دعوة شخصية لسعادته؟ يا للعار ومضى يحملق في ايفان ببلاهة تامة.
لكنه في لحظة استرد وعيه وهو ينحني في انحناءة كبيرة جدا احتراما وإجلالا :أوه يا صاحب السعادة، إنه لشرف كبير لي هلا تفضلت بالجلوس؟ لكن صاحب السعادة ” بادر بالقول تصور يا بسلدومينوف، إنني خرجت الآن لتوي من زيارة الجنرال ستيبان نيكوروفيتش.
ولعلك سمعت باسمه إنه مستشار بالمجلس الخاص. وهو صديق ظل يحلم طول عمره بشراء مسكن خاص به. وقد اشترى أخيرا قصرا صغيرا لا بأس به. واتفق أن اليوم ايضا عيد ميلاده الذي لم يحتفل به قط من قبل. بل كان يخفي موعده عنا لفرط تقتيره وشحه. لكنه هذه المرة كان بالغ السرور ببيته الجديد حتى أنه دعانا أنا وسيميون ايفانوفيتش الجنرال أظنك تعرفه؟ ولكن هذا ليس بيت القصيد. لقد انصرفت من عنده في منتصف الثانية عشرة. لأن هذا الصديق العتيق يلتزم عادات منتظمة لا يحيد عنها لأي سبب ومنها الإيواء إلى فراشه مبكرا. وخرجت وإذا حوذي مركبتي الخاصة تريفون قد اختفى. واستبد بي الضيق ورحت أسأل كل من أراه أين ذهب ترفون بمركبتي؟ ويبدو أنه كان يتوقع أن أتأخر فذهب في عربتي إلى عرس قريبة أو أخت له لست أدري هنا في هذه المنطقة من بطرسبورغ. آه لقد أخذ اللعين عربتي معه….139
وقال ايفان ايليتش في نفسه، أهو معتوه؟ لماذا لا يبتسم هذا الحمار ولو مرة واحدة؟ لكن كيف يمكن أن يخطر لك يا جنرال أنك مصدر إزعاج؟ وفجأة ظهرت على المدعوين أول بوادر الانفراج واسترخاء الأعصاب وبدأوا يتحركون. ولا حظ الجنرال أن جميع السيدات قد جلسن فوجد في ذلك علامة طيبة. أما الرجال فمعظمهم من صغار الكتبة والطلبة، فتبادلوا النظرات كأنما كل واحد يدعو الآخر إلى الاسترخاء. ووجه الجنرال ايفان ايليتش كلامه إلى بسلدومينوف : ذكرني باسمك بالكامل… فأجابه بسلدومينوف الذي انحنى مرة أخرى وظل لا يفتر فمه عن ابتسامة واحدة وكأنه صنم من خشب.وقد جحظت عيناه وخرج صوته بنباح ” بريفير بيتروفيتش يا صاحب السعادة “
ألا تنوي أن تقدمني لعروسك يا بوفيري بتر وفيتش ” همس الجنرال في وجه بسلدومينوف وتابع بلهجة آمرة “خذني إليها؟ وهم بالقيام لكن بسلدومينوف اندفع مسرعا إلى حجرة الجلوس. وكانت العروس واقفة بالباب ولكنها ما إن سمعت اسمها يذكر حتى توارت في خجل متكلف. ولم يلبث بسلدومينوف أن عاد بها يجرها من يدها وأفسح الجميع لهما الطريق ونهض ايفان ايليتش بكل جد ووقار والتفت نحوها بابتسامة عريضة مهذبة وقال وهو ينحني رأسه بكل رشاقة : ما أسعدني بلقائك ولا سيما في مثل هذا اليوم” ودمدم الجنرال في خلوة عابرة “لابد أن بسلدومينوف اختارها لملاحتها. كان عنقها معروقا وجسمها كأجسام الطيور وعظامها بارزة ولم تستطع أن تقول أي شيء ردا على تحيات الجنرال الذي قال عنها :إنها جميلة.هنا وجه الجنرال كلامه إلى الحاضرين جميعا قائلا: سيداتي وسادتي أتمنى ألا أكون قد أفسدت عليكم سروركم ومرحكم..”لا تشغل نفسك بهذا يا صاحب السعادة. رد بسلدومينوف بفرح مستعجل.وفجأة، فسح الجميع الطريق لامرأة بدينة قصيرة تجاوزت سن الشباب. وقد ارتدت شالا مشبوكا بدبوس عند حلقها وقلنسوة من الواضح أنها لم تتعودها. وكانت تحمل صينية صغيرة مستديرة عليها زجاجة شامبانيا مفتوحة. واتجهت إلى الجنرال مباشرة وقالت وهي تنحني : أسألك العفو يا صاحب السعادة.ولكن ما دمت قد تنازلت بإيلاء نجلي بسلدو شرف حضور عرسه،فتكرم بعدم رفض احتساء نخب سعادة العروسين. حتى أن ايفان اليتش انشرح صدره وانتعش وبدأ الرجاء يدب إليه وقال وهو ينهض واقفا: إذن فأنت والدة ابنك.عندئذ غمغم بسلدومينوف مادا رقبته الطويلة وأنفه البارز : الوالدة يا صاحب السعادة.”