تتجلى في “ابن المتسولة” للكاتب قصي البسطامي بن مسكين براعة فذة في نسج خيوط الواقع المرير بخيال جامح، فتغدو القصص مرآة صادقة لهموم المجتمع الليبي وآلامه. يستهل الكاتب مجموعته بإهداء يفيض بالإنسانية، موجهاً كلماته إلى كل من أثقلته الحياة بأعبائها، فكأنما يقول: “أنتم لستم منسيين”.
تنساب الكلمات كالسيل الهادر، تحمل في طياتها صوراً حية نابضة بالحياة. ففي قصة “صراع على المنبر” – وهي فاتحة هذا السفر الأدبي – نجد أنفسنا أمام لوحة سريالية تمتزج فيها الذكريات بالواقع، والماضي بالحاضر. يرسم الكاتب بريشة ماهرة صورة شاب يصارع وحدته وأفكاره في ليلة ظلماء، فيغدو هذا الصراع الداخلي انعكاساً لصراع أكبر يعيشه المجتمع بأسره.
إن أسلوب البسطامي في السرد يذكرنا بقول امرئ القيس: “قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ”، فهو يستوقفنا عند كل منعطف من منعطفات النفس البشرية، يدعونا للتأمل والبكاء على ما آلت إليه الأحوال. فتراه يصف الغرفة المبعثرة وكأنها استعارة لحال الوطن الممزق، ويصور الوحدة التي كانت مخيفة ثم أصبحت ملاذاً، وكأنه يقول: “ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ”.
تتوالى القصص في المجموعة كالقلائد المنظومة، كل قصة جوهرة تعكس وجهاً من أوجه المعاناة. فنرى الفقر يلوح بظلاله الثقيلة، والحروب تترك ندوبها العميقة في النفوس، والأحلام الضائعة تتناثر كحبات اللؤلؤ على أرض جدباء.
إن لغة البسطامي تنحت في الصخر وترسم على الماء في آنٍ واحد. فهي قوية جزلة حين يصف الألم والمعاناة، رقيقة عذبة حين يتحدث عن الأمل والحلم. وكأنه يستحضر روح المتنبي حين قال: “على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ”.
يلوح السرد في هذه المجموعة كأنه نسيج متقن من الكلمات، تتشابك فيه خيوط الحكاية بحذق ودراية. يستهل الكاتب قصصه بمشاهد يومية بسيطة، لكنه سرعان ما يغوص في أعماق الشخصيات، كاشفاً عن عوالمها الداخلية بصور بلاغية آسرة. تتسم لغته بالجمال والبيان، حيث تتوالى العبارات المتألقة كأنها قلائد من اللؤلؤ، ما يضفي على النص رونقاً وبهاءً.
تعالج القصص مواضيع شتى تتراوح بين الوحدة والحرية، والمعاناة والأمل، متخذة من الواقع الليبي مسرحاً لأحداثها. إن الكاتب ينجح في تصوير البؤس الذي يعيشه البسطاء، مسلطاً الضوء على معاناتهم اليومية في سبيل لقمة العيش. يتجلى الصراع الطبقي والاجتماعي في ثنايا القصص، ليبرز تساؤلات وجودية حول العدل والمساواة.
تأتي الشخصيات في هذه المجموعة نابضة بالحياة، مرسومة بمهارة فائقة. إنهم أفراد نلتقيهم كل يوم، يحملون جراحاً داخلية وآمالاً مؤجلة. تتكشف دواخلهم ببطء عبر الحوار والوصف، ما يجعلهم قريبين من قلب القارئ. تتراوح أحوالهم بين اليأس والتحدي، مما يعطي بعداً إنسانياً عميقاً للنص.
إن “ابن المتسولة” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي سفرٌ للروح في عوالم من الأحلام والآلام. يبدع الكاتب في رسم لوحات أدبية تسكن الذاكرة وتثير التأمل، مقدماً صورة صادقة ومعبرة عن واقع معاصر يمتزج فيه الأمل بالمعاناة. دعوة للتفكر في مصائرنا المشتركة، ونقدٌ لاذع لواقع اجتماعي يحتاج إلى تغيير.