40 الشاعر الليبي فوزي الشلوي
في يوم الإثنين الموافق 26 / 08 / 2024م، ودع الشعر العربي شاعر الفلق فوزي علي الشلوي، والذي غازل القصيدة بين زمن الحب وكورونا والحرب في ثلاثية تقدمه إلى ديوان الشعر العربي من الجبل الأخضر بليبيا إلى الوطن الكبير بعد رحلة عطاء يرسم مسار التحولات في لغة رصينة وجمال العبقرية التي ينسج على منوالها صدى قوافيه الثكلى هكذا..
وقد أحببته فهو شاعر مميز أعجب به في التجديد مع الشاعر المصري صلاح عبد الصبور، والشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، والشاعر الليبي فوزي الشلوي فهم يمثلون ثلاثية التجديد بين غزل الواقع في حضن الوطن ورثاء الموروث في توازن يحمل دلالات الحب والقهر والغناء في رسم المحبوبة وقضايا المجتمع مع فقدان بدويته في أعماق مدينته المترنحة، وحضور الصراعات في زمن يجسد الحقيقة والتي تستوعب عناصرها الفنية التجربة.
ومن ثم نراه هنا أنيقا في حضور قصيدته، حيث ينشد شاعرنا الراحل الآن فوزي الشلوي متتالياته الغاربة في” جنازة” مختصرا لنا الحياة، فيقول فيها:
حَضَرَ الْجَمِيعُ..
لَمْ يَكُنْ تَابُوتِي مُقْفَلاً كَمَا يَجِبْ
تَسَرَّبْتُ مِنْ بَيَاضِ كَفَنِي..
اسْتَمَعْتُ لِكَلِمَاتِ تَأْبِينِي
لَمْ أَكُنْ أَنَا..
افْتِرَاءاتُهُمُ لاَ تُحَاكِي تَفَاصِيلِي
وتِلْكَ الْبُطُولاَتُ الْمَزْعُومَةُ..
لاَ تُشْبِهُنِي!!!
تَبَّاً لَهُمُ..
لَمْ يَعُدْ يَرُوقُ لِي..
هَذَا الْمُوتُ الْمُشَوَّهُ بِأكَاذِيبِهُمُ
أَجَّلْتُ دَفْنِي..
لِزَمَنٍ يَخْلُو مِنْ عَبَثِ الْمُنَافِقِينَ
تَرَكْتُهُمُ ومَضَيتُ لِحَالِ سَبِيلِي..
لَعَلِّي أَسْتَطِيع..
أَنْ أُودَّعِ عَصَافِيرِي..
أَنْ أُخْبِرَ طَائَرَ الْنَّورَسِ..
أَنَّهُمُ لَمْ يَصَنَعُوا لِي كَفَنَاً..
مِنْ رِيشِ جَنَاحِيكَ كَمَا وَعَدُونِي!!
مَضَيتُ..
أُوَاصِلُ مِنْ جَدِيدٍ زُحَامِي..
لَعَلِّي أَهْتَدِي ذَاتَ يَومٍ..
لِمَكَانٍ بِهُدُوءِ عَيْنَيهَا..
يَليِقُ بِكِتَابَةِ الْقَصِيدَةِ.
* نشأته:
وُلد الكاتب والشاعر والأديب الليبي فوزي علي الشلوي في عام 1961م بقرية الأبرق.. والتي تقع وسط قرى الجبل الأخضر. حاصل على بكالوريوس في التخطيط والإدارة.. يعمل بوزارة التعليم. صدر له ديوان تحت عنوان: ( تليقين بوفوضى محرابي ).
بعد رحلة عطاء متعددة الجوانب يرحل عنا بعد صراع مع المرض لتفيض روحه الطاهرة في يوم الإثنين الموافق 26/ 8/ 2024م. عن عمر ناهز 63عاما.
أليس هو القائل في قصيدته ( رَقْصَةُ الْمَوتِ ):
تَقِلُّ رَائِحَةُ عَرَقِ الْمَطْحَونِينَ
لاَ شَيءَ يَعْلُو سِوَىَ أَصْوَاتِ الْسَّادَةِ..
وأَنِينِ الْجَائِعِينَ !!
سَقَطَ حُلُمُ الْجَائِزَةِ..
لَمْ يَبْقَ إلاَّ زَوجاً .. وزَوجَتَهُ..
وعُيُونُ أَطْفَالِهِمَا الْجَائِعَة
والْنَّفَسُ الأَخِيرُ فِي صَدْرِ الْزَّوجَةِ ..
أُقْتُلْنِي !!!
لاَ تَتْرُكُنِي لِضِحِكَاتِهُمُ..
الْزَّوجُ الْمُنْهَكُ..
عُذْرًا يَا حَبِيبَتِي..
حَتَّىَ رَصَاصَةُ الْرَّحَمَةِ يَمْلُكُهَا الْمُجْرِمُون !!
سُقُوطٌ..
سُقُوطٌ..
سُقُوطٌ..
ولاَ أَحَدَ يَنْتَبِه أَنَّ الْسَّاحَة كَانَتْ خَالِيَة
إنَّهُمُ يَقْتِلُونَ الْجِيَادَ..
أَلَيْسَ كَذَلِكَ !!.
* مختارات من شعره:
ونتوقف مع قصيدته تحت عنوان ( في زمن الكورونا ) والتي تعد من روائع ما كٌتب وصفا في هذه الظاهرة بتوظيف وتوصيف له دلالات تختصر حجم المعاناة مع رحلة الإنسان من خلال تجربة واقعية يتفاعل معها الشاعر الإنسان فوزي الشلوي فيرصدها بالكلمات قائلا:
فِي زمنِ الكُورُونا
في زمنِ الكُورُونا يا رَفيقِي..
الأيدِي خالِيةٌ من السَّلامِ
القُبلُ.. تَتَعفَّنُ فوقَ الشّفاهِ
النُهودُ تَترهّلُ في جَوفِ الحمّالاتِ
العِناقُ يَذبُلُ على أجنحةِ الأحضانِ
صَرِيرُ الأَسِرّةِ..
ينَامُ في خَواطِرِ المُراهِِقين
العُرسانُ الجُدُدُ..
يُمارِسون العَادةَ السِّرِّيّةَ
فِي زَمنِ الكُورُونَا..
القُمامَةُ تَتسكَّعُ بوَقاحَةٍ علىَ أرْصِفةِ الشَّوارعِ
الأسْفلتُ يَشتَهي خُطُواتِ المَارَّةِ
الحدَائقُ تَنُوءُ بالزُّهورِ المَهْجورةِ
فِي زمنِ الكُورُونا..
تَتلاشَى أُسطُورةُ السَّورِ العَظيمِ
تَتمَرَّدُ الخَفافِيشُ علىَ البُطُونِ الجَائعةِ
تَتَشقَّقُ الأصَابِعُ المُتَلهِفَةُ للعِناقِ
السَّلاَلِمُ.. مُتوحِشَةٌ
الأَسطُحُ المَلسَاءُ.. مُتوحِشَةٌ
الأَنفَاسُ يَا رَفيقِي.. خجُولَةٌ جِدًّا
مَقاعِدُ العُشَّاقِ خَالِيةٌ مِن اللّهفَةِ
فِي زمنِ الكُورُونا..
اللَّيلُ بَارِدٌ جدًّا..
والمَوتُ يتَجَوَّلُ بصَفاقَةٍ فِي السَّاحَاتِ
والرِّفاقُ يَتبادلُون التَّحايا مِن بعِيدٍ
السَّلامُ بالإيمَاءِ..
الحُبُّ بالإيمَاءِ..
القُبَلُ عَصافِيرٌ..
تَطِيرُ مِن شَفَةٍ إلىَ شَفَةٍ
فِي زمنِ الكُورُونا..
أنفَاسُ حبِبتِي عَورَةٌ..
عِناقُ طِفلَتِي عَورَةٌ..
لُعابُ قِطتِي السَّامِيَّةِ سُمٌّ زُعَافٍ..
والكُمامَةُ التِي وضَعُوها علىَ لِسانِي..
مَا عَادتْ ذات جدَّوىَ..
فِي زَمنِ الكُورُونا..
لا تَقرَأ قَصيدَتي يَا رَفيقِي..
فقدْ قَبَّلتْ قَبلكَ كُلَّ نِسَاءِ الأرضِ..
ونَامتْ بينَ نُهُودِ الجَمِيلاتِ
لا تقْرأ قَصيدَتي يَا رَفِيقي..
لأنّها تمْشِي في الشَّوارِع بِلا خِمَارٍ..
ولا تَرتَدِي أيَّ كِمامَةٍ..
ولا تَتَّقِي شَرَّ العُطاسِ..
أغمِضْ عينَيكَ عنْها..
لَرُبَّما..
لَرُبَّما تكُونُ مَوبُوءَةً !!!.
*
ويقول شاعرنا المبدع الراحل فوزي الشلوي في قصيدة أخرى بعنوان ( بَدَوِّيٌّ ) معتزا بأصالته ورائحة بدويته التي يشتهيها عندما يفقد ماهية الأشياء في مدينته ويحمل معه في غربته والمنافي مواله الحزين الذي يترجم ظاهرة الاغتراب في محاكاة حيث ينطلق من أعماق ظلالها منشدا:
بَدَوِّيٌّ……….
اشْتَهِينِي
_ أيُّهَا الْبَدّوِيُّ _..
كَمْ أُصْبِحُ أُنْثَىَ حِينَ..
تَشْتَهِينِي
وكَمْ أُصِيرُ امْرَأَةً..
تُشْبِهُ كَثِيرًا..
جَدَاوِلَ الْيَاسَمِينِ
وكَمْ يُصْبِحُ قَلْبِي..- يَا سَيْدِي –
لَيْسَ قَلْبِي !!..
ولاَ عُيُونِي.. تَصِيرُ عُيُونِي
تَرَفَّقْ قَلِيلاً..
يَا رَجُلاً يَعْرِفُ كَيْفَ يَضُمَّنِي..
ويَعْرِفُ..
كَيْفَ يَحْتَوِينِي
وكَيْفَ يُحَوِّلُ بَيْنَ يَدَيه صَحْرَائِي..
إلَيَ غَابَاتٍ..
وبَسَاتِينِ
خُذْنِي قَلِيْلاً بِحِلْمِكِ..
وتَمَهَّلْ..
وتَرَفَّقْ بِشَوقِي.. وحَنِينِي
فَأَنَا امْرَأَةٌ تَهْوَاكَ كَمَا أَنْتَ..
سَوَاءً.. أَكُنْتَ تَقْتُلُنِي..
أمْ كُنْتَ تُحْيِينِي
أَتَعْرِفُ ؟؟..
كَمْ تُدْهِشُنِي أَشْيَاؤكَ !!.
كَمْ تَحْرِقُنِي..
وتَكْوِينِي
بِقُرْبِكَ أُصْبِحُ أَكْثَرَ رِقَّةٍ..
وأَعْشَقُ فِي جُنُونِكَ..
كُلَّ جُنُونِي
خُذْنِي إلَيْكَ..
فَبِدُونِكَ سَتَكُونُ بَاهِتَةً أَيَّامِي..
وبَارِدَةً كُلَّ سِنِينِي
وسَتَجُفُّ كَثِيرَاً أَنْهَارِي..
وتَذْبُلُ كُلَّ حَدَائِقِي..
وبَسَاتِينِي
خُذْنِي إلَيكَ..
فَبِدُونِكَ..
مَا عَادَ شَيءٌ فِي الْدُنْيَا..
يَعْنِينِي !!!!!!.
*
ونختم له بهذه القصيدة التي تلخص لنا عمق فلسفته من خلال تجربته مع الحياة في تساؤلات وتوقفات تكشف أبعاد الأفق في تضاد وحيرة ومدى المعاناة فيقول فيها الشلوي:
وحيدا كنتَ إلى أقصى حدّ
———————————–
آتٍ..
لا تدري من أين..
محتشداً بأمانٍ عجاف
وتعب الخطوات يحاكي وجهك..
واصابع الضوء تخنقك
الى اين تمضي ؟ مبتوراً..
ووحيداً الى أقصى حدّ..
ووحيك الذي تنتظر غائم السموات
مكبوتاً كنت.. اكثر مما ينبغي
تناجي حلما لا يأتي..
وترسم ليلاً بعيد الصباح..
يا هذا !!..
الى اين تمضي ؟ مكسوراً..
ومحترقاً بعذابات آتً ضبابي
مكسوّاً بذكريات مرتعشة
ولا شيء.. لا شيء ابداً..
يعكس ملامح وجهك
وكأنك تضاجع امرأة مشوهة..
تزرع في رحمها خيبة اخرى..
دون ان تسألك عمن تكون !!
*******
يا هذا !!..
الى اين تمضي ؟..
منتشيا احياناً. بحلمٍ مشاكس..
يتدلى بأفقٍ بعيد..
يخربش إحباطات ذاكرة مرهقة ,.
يناغي ليلاً مبللاً برذاذ الانتظار..
بوهج شمس كانت مستيقظة..
ها أنتَ..
تتحسس قسمات وجهك..
تَعُدُّ أصابع يديك..
تستغرب قدرتك على البقاء..
على الدهشة
حين تنبذك ارصفة الشوارع..
وجدران قريتك الباردة تنكر لمساتك !..
ويحاجي خطواتك إسفلت الطرقات
من يخرس ضوضاء المدينة الملتهبة ؟..
تلك التي تقتل اطفالها..
وتغتال شعرائها..
وتقطع صدور نسائها..
من يقنع هؤلاء..
المسعولين بأبخرة الدجالين ؟..
الشاخصين بأنجم بعيدة..
من يقفل ابوابهم المواربة ؟
او يفتحها ؟..
الحزن يتكدّس فوق مقابض عيونهم..
ها انت مهموما
تناقش أشعار المتنبي..
وهو ينام ملْ جفونه
تطاردك أرصفة روما..
وبيوتها المحترقة..
ونيرون خلف الشرفات.. يكتب قصيدة رديئة
تركلك المدينة..
خلف اسوارها الاسمنتية..
خلف مشاعرها الاسمنتية..
آهٍ..
ما اصعب قدر الكبار
حين الحب يأتي بحجمهم..
والشوق يأتي بحجمهم..
والمصائب تأتي بحجمهم.
هذه كانت قراءة سريعة في عالم الكاتب والشاعر والأديب الليبي فوزي الشلوي الذي رحل عنا منذ ساعات بعد رحلة عطاء ومجافة ومعاناة مع المرض تاركاً لنا أثر يحاكي صور الحياة من خلال الواقع الذي جسده شعرا ينطق بحكمة وتجليات بين الحب والحرب وبكائيات في حضن الوطن وجمال طبيعته ومدى عمق فلسفته التي تترجم لنا عملية الإبداع في تلقائية ملازمة التناغم متدفقة ومتجددة الرؤية في عباءة الفيلسوف والصوفي المعذب باستدعاء كل شيء من الذاكرة في مكاشفة دائما.
رحم الله الصديق الإنسان والشاعر الليبي الكبير فوزي علي الشلوي وسيظل ذكراه في سجل الخالدين.