طيوب عالمية

المعرفة بين الخطاب العلمي والنّص الأدبي

كتاب (آلية الكتابة السردية) أمبرتو إيكو
كتاب (آلية الكتابة السردية) أمبرتو إيكو

“الروائي الحقيقي لا يشاغب ولا يشاكس ولا يكتب نصوصًا ماكرة، ولكنّه يقدم لنا روايات سيذكرها التاريخ طويلًا”.

في كتاب “آليات الكتابة السردية” لـ أمبرتو إيكو الصادر عن دار الحوار بترجمة سعيد بنكراد، أورد بنكراد في مقدمة الكتاب جملة من الأفكار الجوهرية التي تتعلق بطبيعة الكتابة الروائية وسيرورة بناءها، بناءً على تجربة إيكو وتنظيراته في الكتابة ومؤلفاته الروائية.

في بداية المقدمة، يذكر بنكراد بأن الكتابة الروائية هي واحدة من تلك الأشكال التي “تمنح الزمن وجهًا ومنظرًا”، وبناءً عليه يستنبط تعريفًا للكتابة السردية:

“فالسرد، في نهاية الأمر وبدايته، هو احتفاء بالزمن. إنه محاولة لتلمّس آثاره على الذات والأشياء”.

وعن طبيعة النشاط السردي، يرى بنكراد (متمثلًا رؤية إيكو) بأنّ المساحات الزمنية في السرد “تجعل من الفعل السردي رؤية شاملة تستوعب في داخلها مناطق تتجاوز الموصوف الحدثي المباشر، من خلال فعل الشخصيات وقولها وردود أفعالها” وهو الأمر الذي يحوّل العالم الروائي إلى “فرجة معرفية” تتجلى في الأوصاف والأفعال والإحالات الضمنية، وعليه فإن الكتابة الروائية هي “فرصة فنية تستثمر من أجل خلق حالة تلاقح بين النصوص في مجالات شتى”.

ويعتقد بنكراد بأن الحديث عن السيرورة الإبداعية، أو عن متطلبات الكتابة الإبداعية، أمرٌ لا يملكه إلا “المؤلف الذي يبني عوالم في الخفاء لا يرى منها القارئ سوى المتحقق بشكل صريح أو ضمني داخل الشكل الروائي”، وهي المناسبة التي يكشف فيها المؤلف عن سر “الصَّنعة” الفنية التي تتطلبها الكتابة الروائية.

وعن العلاقة بين المؤلف والنص والقارئ، يرى بنكراد بأن الإشارة إلى مضامين النصوص أو غاياتها الأخلاقية ليست مهمة المؤلف، بل مهمة القارئ. مؤكدًا على أنَّ “النص أوسع من قصديات المؤلف، وما يراه القارئ [في النّص] ليس مدرجًا بالضرورة في هذه القصدية”.

ويرى بنكراد بأن الجانب الأهم في تجربة أمبرتو إيكو ليس إنتاجه الروائي ذاته، بل التصوّر الإبداعي الكامن في تلك الروايات، وهو التصوّر الذي “يجعل من النص فرجة معرفية لا تنتهي عند حد، أو يحوّل المعرفة إلى وضعيات إنسانية ترقى على الفردي وتتجاوز اللحظة العرضية الزائلة، لكي تلج الكوني والعام”.

ويستعرض بنكراد التصوّر الإبداعي لإيكو الذي يرى بأن ما هو أساسي في الرواية ليس الكلمات، ولكن كيفية بناء عالم وتأثيثه. “فما يهم هو تشييد عالم، أما الكلمات فستأتي فيما بعد”. وعليه، فإن كاتب الرواية يعرفُ بأن “الفكرة – أو البذرة – لا تتجسد في معطى سردي صريح، ولكنها تشكّل لحظة البناء الأولى”. وهو الأمر الذي يفسر به بنكراد أن إيكو يتحدث عن الكثير من الأفكار الأولى التي سقطت ولم تنبثق عنها رواية.

وعليه، يستنتج بنكراد بأنَّ “الرواية لا تستند إلى حالات السّرد العفوي، بل هي صنعة”.

وعن قول إيكو بأنَّ “الفن هو انفلات من الانفعالات الشخصية” يضيف بنكراد بأنا “لا يمكن أن نكتب رواية تقتحم التاريخ بالاستناد إلى الأحقاد الصغيرة والانفعالات المصطنعة”، ويقدّم بذلك الدّرس الأهم للكتّاب بقوله:

“الطاقة الانفعالية لا يمكن أن تتحوّل إلى إبداعٍ إنساني راقٍ إلا حين تتخلّص من الشخصي والعرضي والاصطناعي”.

ويضيف:

“الرواية معرفة. ولكنها معرفة لا توضع بشكل مباشر على لسان الشخصيات، ولا يتم تداولها من خلال الحوارات وأو تعليقات السارد أو أصوات أخرى. إنها رؤية تخص نسج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات ونمط تصوّرها. إنها تجسيد فضائي وزماني للمعنى. فالمعنى لا يوضع عاريًا على شفاه الكائنات التخييلية، ولكنه يولد من خلال ما يؤثث الكون الذي تتحرك داخله هذه الكائنات. ولهذا السبب فإن المعرفة لا تلج عالم الرواية على شكل قوالب وأسماء وإحالات على كتب أو نظريات، ولكنها تتسرّب من خلال التعليق على الحدث وتصوير الشيء وطريقة رؤيته ووصفه وتداوله”.

وفي الإطار ذاته، يعلّق بنكراد عن الفرق بين العثور على المعرفة في الكتاب العلمي والعثور عليها في رواية، فيقول:

“ما بين المعرفة التي يتضمنها خطاب علمي وبين المعرفة التي تأتينا عبر الكتابة الإبداعية بون شاسع”، وعليه يردّ بنكراد على الرؤية التفاضلية التي تجعل العلوم في مرتبة عليا مقارنة بالفنون والآداب. وهنا يشير إلى فكرة رولان بارت بأن “المعرفة في الخطاب العلمي ملفوظ، وهي في الكتابة تلفّظ”. أي أن المعرفة الكامنة في الخطاب العلمي جامدة ومتحققة بشكل مسبق، في حين أن المعرفة الكامنة في العمل الأدبي والفني هي صيرورة.

يفسّر بنكراد بأن “الملفوظ” كيان جامد لا روح له، في حين أن التلفظ هو “انفعال إنساني”، وهو الأمر الذي يفسّر ما قاله رولان بارت، بأنَّ “الكتابة تحوّل المعرفة إلى احتفالٍ دائم”.

في ختام مقدّمته، يقول بنكراد بأنَّ “الإبداع الروائي جهد وعناء وبحث في ذاكرات النصوص السابقة وتجاوز لها، وأن المواقف تصوير لطبائع وتعبير عميق عن حالات إنسانية، وأن الثورة كشف لحقائق الحياة التي تتوارى خلف جزئيات اليومي والمألوف”وأخيرًا يقول:

“الروائي الحقيقي لا يشاغب ولا يشاكس ولا يكتب نصوصًا ماكرة، ولكنّه يقدم لنا روايات سيذكرها التاريخ طويلًا”.

مقالات ذات علاقة

الترجمة العربية للرواية الأشهر في الصين “شيفرة”

مهند سليمان

“الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة”.. رحلة عزيز نيسين إلى مصر

المشرف العام

زهرة المدائن.. من حصار الأوائل إلى حصار الأواخر

عزالدين عناية (تونس)

اترك تعليق