الطيوب | حاوره : مهنَّد سليمان
إن أهم قول اختزل تجليات الترجمة وخطورتها في آن هو ما كتبه الروائي الإيطالي “إيتالو كالفينو” إذ أكد على أنه (لولا الترجمة لبقيت مقيدا في حدود بلدي فالمترجم هو حليفي الأهم)، وبهذا القول يتأكد لنا بأن وجود الترجمة في حد ذاته قد فتح الأبواب الموصدة، وشرع النوافذ نحو آفاق شتى ذللت مشقة التواصل بين الشعوب وقرّبت الأسرة الإنسانية من فهم الملامح الأساسية لتنوع الثقافات والحضارات للأمم المختلفة، وربما من محاسن الترجمة خاصة الأدبية منها أنها ارتقت بمستوى الوعي الإنساني الذي عادة ما تحكمه الأنماط المحدودة والأنساق الضيقة في اطلاق الأحكام على الأشياء من حولنا، وفي بلادنا ليبيا تُشرق شمس نخبة من الكتّاب اللذين كرّسوا حيواتهم ومسيرتهم المهنية للترجمة والنقل عن اللغات الحية بروح تشفّ عن شعرية تُضفي على المعنى بُعدا جديدا ، ويأتي الدكتور محمد قصيبات ضيف هذا الحوار على رأس قائمة المترجمين الليبيين والعرب ممن امتازوا بالجِدة والمثابرة فهو ينطلق من وداعة الشاعر حين يلتفت للزهور ويصيخ سمعه لصدى الريح وهي تعزف أنغام المساءات الناعسة.
حزمة من الأسئلة وضعناها بين يديّ الطبيب والمترجم “محمد قصيبات” المقيم بفرنسا حاليا حول قضايا الترجمة وهموم المترجم والتحديات التي تواجه مشاريع الترجمة، وعلاقة التوأمة بين الطب والكتابة الإبداعية، وغيرها حيث تجدر الإشارة إلى أن الدكتور قصيبات من مواليد مدينة بنغازي عام 1953م خاض غمار الترجمة وهو بعد فتىً صغير على صفحات صحيفة الحقيقة عام 1969م بالإضافة إلى عمله التخصصي كطبيب في أمراض القلب بأحد مستشفيات الريف الفرنسي، كما أصدر باقة من الترجمات والمجموعات الشعرية، ولعل أبرز مشروع موسوعي اشتغل عليه الدكتور قصيبات هو إصدار الجزء الأول من موسوعة (كتّاب القرن العشرين)، وأخيرا صدر له كتاب بعنوان (عشرون قصيدة إسبانية) يضم مختارات من الشعر الإسباني.
بغض النظر عن اللغة ما هو أول خيط ربطك بعالم الترجمة ؟
بدأ كل شيئ بالترجمة؛ ففي ستينيات القرن الماضي كان لليبيين اهتمامٌ كبيرٌ باللغة الإنجليزية ، ربما لأنّ هناك خطة من أجل تطور البلاد على شكل البعثاتِ الدراسية. كنتُ محظوظا (كما جيلي) حيث تعلمتُ اللغة الإنجليزية على يد أساتذة مميزين بمدرستي الأمير ومدرسة شهداء يناير ببنغازي وكذلك بالمركز الثقافي البريطاني. في عمر الخامسة عشر أرسلتُ أول الترجمات إلى صحيفةِ الحقيقة فأُعجب الشاعر علي الفزاني بتلك الترجمة وكتبَ عنها في الصحيفة مما جعلها تفتح لي أبوابَها لكن نقطة التحول الحقيقية كانت عام 1971 بعد دراستي للأدب الإنجليزي بجامعة كامبردج حيث درستُ أدب الشاعر إليوت وروايات كونراد وكتب فيرجينيا وولف على شكل دورات من يدرس إليوت لا يستطيع مقاومة ترجمة شعره فكانت ترجمة “قصيدة الحب لج ألفرد بروفوروك” التي نُشرت على حلقات بصحيفة الحقيقة ثم نشرتُ بعدها بمجلة المرأة بتشجيع من السيدة خديجة الجهمي رحمها الله، وبعد طرابلس سافرت كتاباتي إلى القاهرة والجزائر والكويت والجميلة بيروت التي كانت وقتها عاصمة القراءة.
تُصنّف نفسك كمترجم هاوٍ ما هي معايير وشروط الترجمة الاحترافية برأيك؟
بالطبع لستُ مترجمًا محترفًا كما جرت العادة مع بعض المترجمين الذين يتعاقدون مع مؤسسة أو دار نشر لترجمة بعض الأعمال المحددة؛ بالنسبة لي أنعمُ بالحريةِ الكاملة في اختيار ما أترجم ومنذ أكثر من نصف قرن. المترجم الهاوي الذي يختار أعماله هو أكثر قراءة من غيره لأنه باحثٌ أبدي عما يظنه كنزا خفيا لم يلاحظه الآخرون. هذا أمرٌ جيدٌ ومريح لأنّ المترجم الهاوي لا يرتبط بأية مؤسسة أنتَ هنا تقرأ ما تريد، وعندما تقرأ يغمرك إحساسٌ بأنك تقرأ بلغتين في آن وبمناطق مختلفة من الدماغ حيث لكل لغة شبكة تخصها. إن المترجم الهاوي لا يرتبط بشرط زمني مع ترجماته لي بعض الأعمال ترجمتها على مدى عشرات السنين وهذ الأمر غير متاح للمترجم المحترف فالترجمة تجربة أتمناها لكل كاتبٍ مهما كان مستواه اللغوي.
انتميت لجيل محظوظ حين تعلمت اللغة الإنجليزية مبكرا
لماذا ترسخت فكرة أن الترجمة من لغة إلى لغة محض خيانة للنص؟ هل وراء شيوع هذه الفكرة الخوف من الآخر؟
أغلب الظنّ أنّ هذا يعود للإيطاليين الذي استعملوا التلاعبَ بالكلمات حين يقولون “traduttore, traditore” أي كلمتي “ترجمة، خيانة”؛ كما ترى اللغة المنقول إليها لابد أن تكون عندهم أقرب ما أمكن من اللغة الأصل؛ ومن الدعاة إلى تلك الطريقة من الترجمة هو اللغوي الكاتب “ألبرتو إيكو” في الوقت الذي يدعو فيه الأرجنتيني “خورخي لوي بورخيس” إلى الترجمة المخلصةِ للغةِ المنقول إليها.. كل مدارس الترجمة تنتمي إلى هاتين الطريقتين ويختار كل مترجم ما يريد. لدينا مترجمٌ عربيٌّ سبق هذه المدارس وهو مصطفى لطفي المنفلوطي الذي عرف كيف يكتب أجمل الروايات المقتبسة بالرغم من أنه لا يتقن الفرنسية بل كان أصدقاؤه يقرؤون له ماتيسر من الروايات الفرنسية فيكتبها على طريقة الرومانسية المصرية. الترجمة لا بد أن تكون خيانة أو لا تكون.. إذ أنّ المبدعَ عليه أن يترجم ويضع النصَّ المترجم في أسلوب يتوافق مع عاداته وقدرات لغته في تقبل “التوازن الإبداعي” بين النصين إن أحسنتُ التعبير كي لا يحس القارئ أنه يضيع في أفكار بعيدة عنه. في الشعر أيضا تعودنا في بدايات الترجمة في السابق على مدرسة الترجمة المخلصة للغة المنقول إليها.. ولعلّ خير دليل على ذلك هو ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام. يظن بعض من استمع لأم كلثوم أنّ الأغنية لشاعر عربي وذلك بسبب الترجمة المخلصة للغة المنقول إليها وهو النوع الذي أميل إليه.
النص المُترجم لابد أن يتوافق مع عادات وقدرات اللغة المُترجم إليها
ثمة سر استثنائي يجمع بين مهنة الطب وفعل الكتابة سيما الأدبية منها دون المهن التالية كيف نستطيع فهم ملابسات هذا السر ؟
بكل بساطة يمكن القول أنّ الطبَّ هو تخصص يترنح بين العلوم التطبيقية والأدب، والطبيب الذي لا يعتمد إلا على ما تعلم من العلوم التطبيقية فقط سيكون طبيبٌا فاشلا. المعلومة الطبية لا تكفي لأننا يمكن أن نجدها في أي مكان لكن الأهم هو التعامل مع ما تعلمه الطبيب في دراسته .. هذا التعامل يحتاج إلى انفتاح على المجالات الأخرى، وطالبُ الطبّ يتعلم كيفية التعامل مع المرض والمريض لكنه لا يتشبث بالمنطق العلمي .. خذ علم النفس مثلا.. هو أقرب إلى الأدب بالرغم من أنه يتدخل في صحةِ الإنسان وبدنه. لتوضيح الفكرة لابد من العودة إلى الرازي وابن سينا فأطباؤنا عبر التاريخ كانوا أطباء وفلاسفة وكُتّاب في آن .. وجمعوا بين مختلفِ مجالات العلم ووضعوا أسس الطب الحديث الذي نعرفه اليوم .. وعندما درستُ الطبَّ في فرنسا لم أدرسْ المواد العلمية فقط .. بل درسونا معها الأدبَ والسينما كأنهم يقولون لنا أنّ الطبَّ ليس سجينا في العلوم التطبيقية .. ثمة روايات دخلت لعوالم طبنا مثل رواية “بيكويك” لشارلز دكنز وكذلك رويات بعض كتاب نوبل الفرنسيين مثل فرنسوا مورياك وروايته المشهورة “تيريز ديكيرو” التي تحتوي الكثير من العلامات المرضية التي يمكن أن يدرسها طالبُ الطب. الطبّ والأدب لم يفترقا عبر التاريخ حتى أن تخصصًا جديدًا صار يلوح في الأفق وهو مجال “العلاج بالقراءة”.ثم لا ننسى قائمة بالذين جمعوا الطبّ والكتابة الأدبية: أنطون تشيكوف وأرتر كولن دويل (صاحب شارلوك هولمز) والشاعر جون كيتس والروائي سومرست موم وكذلك الأفغاني خالد الحسيني وبالطبع يوسف إدريس.
الطب تخصص يترنح ببن العلوم التطبيقية والأدب
وفق تقديرك إلى ماذا يُعزى المعدل الخجول للترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى ؟
أعتقد أننا نعيش حاليا مرحلة غياب المؤسسات وهذا يزيد من مسؤوليات الأفراد من أجل ملء الفراغ. بالطبع ، وكما نقول يدٌ واحدة لا تصفق ولكن هذا ممكن إذا منحنا صدى لتلك اليد ؛ فعلى كل من يملك القدرة أن يسهم في الترجمة بقدر ما يستطيع. أرى أن الحل يأتي على مستوى المؤسسات (من بينها مجمع اللغة العربية) التي تهتم بالترجمة. الأمر في الغرب مهمٌ للغاية حتى أن الرئيس الفرنسي اهتم بالأمر بنفسه حيث افتتح متحفًا للغةِ الفرنسية وأعطى منحا للمترجمين الآجانب من أجل الإقامة في هذا المتحف لمدة أشهر مقابل ترجمة كلاسيكيات الأدبِ الفرنسي والتي يراها الفرنسيون امتدادا للغتهم وللفرنكوفونية عامة . لا أعرف إن كانت هناك دولة عربية تقوم بمثل ذلك من أجل نشر أدبها وثقافتها حول العالم. الأمر الأهم هو أن نترجم أعمال كتابنا إلى اللغات الأخرى وليس العكس. شخصيّا لدي مشروعٌ متواضعٌ بدأته وهو الترجمة من اللغة العربية إلى الفرنسية.. ما زال المشروع في بداياته فقمتُ بترجمة ونشر حكايات الفاخري وقصص هدى القرقني ولي كذلك مشاريعٌ أخرى سأعلن عنها لاحقا؛ الفكرة هي خلق آلية للترجمة كما اتصورها في انتظار أن تقوم المؤسسات الثقافية في بلدنا بذلك.
هل جاءت الترجمات على حساب كتابتك للشعر؟ أم أنك توازن بينهما؟
سأبدأ بما قد يلخص الكثير من الإجابة.. ها هي قصيدة تقول
“أيتها الوحشة
يا من في حياتي
كانت كرفيقة
يا من أعطى
لصوتيَ كلمات لم أسألها
قولي لي:
من كنتُ أكلم
من يسمعني؟”
أو قصيدة أخرى تقول
“إن كُنّا في الأحلام يا حبيبتي
إن كُنّا في الأحلام نلتقي
فمرحبًا إذن
بعودةِ الدجى”
لو أعطيتَ هذه النصوص لأي ناقد لظن أنّ كتابها شعراء عرب.. النص الأول في الواقع قصيدة للشاعر الأسباني أنطونيو ماشادو والثاني من شعر الهايكو. الترجمة هنا تدريبٌ على كتابةِ الشعر… الترجمة لا تأتي على حساب كتابة الشعر لأنها نوعٌ من الكتابة وعندما يحترم المترجم اللغة المنقول إليها هو كأنه في حالة إلهام ، كأنه هو من يكتب وهذا (لحسن الحظ) ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقوم به.
غياب المؤسسات يزيد من مسؤوليات الأفراد لملء الفراغ
.أيكفي أن يكون المترجم ممتلكا لناصية اللغة الإنجليزية مثلا كي يمارس الترجمة ؟
المهمُ في الترجمة هو فهم اللغة التي يُنقل عنها وليس بالضرورة أن يكون المترجمُ متقنًا لها ، والأهم هو إتقان اللغةِ المنقول إليها. لكن هناك أمورٌ أخرى تتدخل في الترجمة غير اللغة .. منها ما هو اجتماعي وما هو ثقافي. وكما قُلنا فإن أشهر المترجمين العرب وهو مصطفى لطفي المنفلوطي لم يكن يتقن الفرنسية ولكنه كان يستعين بأصدقائه ليقرأوا له ما تيسر من اللغات الأخرى.. لقد قام بالرغم من شح لغته الفرنسية بترجمات رائعة. والترجمة تجربة رئعة اتمناها لكلّ الكتاب.
بلد الطيوب مؤسسة ثقافية عرفت أن تربط بين الليبيين أينما وجدوا
تحدثت في أحد حواراتك السابقة أن الكتاب هو نهاية النص، وأردفتها بعبارة موازية بأن الكتاب مقبرة النص ! كيف يمكننا فهم هذا القول؟
ما قلتُه يتعلق بالطبع بكُتبي فلكلّ كاتبٍ طريقته في ولادة الكتاب، تمر الكتابة عندي بعدة مراحل قد تستغرق عشرات السنين قبل أن تكتمل … يبدأ العملُ بفكرة مكتوبة على قصاصة ورق، ثم على صفحة، ثم يكبر العملُ معك سنوات وفي نهاية المطاف يأتي اليوم الذي تبعث فيه بعملك لدار النشر ؛ عندها قد لا يصبح العمل ملكك وتنقطع صلتك به (وهذا حدث أيضا مع بعض كُتاب أعرفهم ) ؛ ففي السبعينيات من القرن الماضي بدأتُ كتابي عن إليوت وفي التسعينيات عن لوكليزيو وماشادو .. ولم أنشر هذه الكتب إلا في السنوات الأخيرة .. ترى عندها أن النص وصل إلى نهايته وصار بين يدي القاريء وأمام النقاد.. انتهت مهمتك .. مات النص. هذا مجرد رأي قد يختلف عن رأي الآخرين.. ربما كما قلتُ لأني كتبتُ عشرات الكتب التي ولدت معًا وكبرت معًا ثم نُشرت معًا وتُركت معًا.ثم هناك أمورٌ غريبة قد توثر في تفكير الكاتب.. نشرتْ لي دارُ نشر فرنسية مهمة كتابًا لأجد بعدها أنّ حقوق النشر تعود للدار … سبعين عاما … نعم سبعين عاما بعد موت الكاتب .. أليس من العدل أن يموت الكتابُ قبل كاتبه.
كلمة أخيرة :-
شكرا لبلد الطيوب على هذه الاستضافة فالموقع “مؤسسة” أتابعُها منذ زمن طويل كما تابعت سابقا مواقع أخرى تخص الشأن الليبي مثل “ليبيا المستقبل” و”السقيفة الليبية” تمكنت بلد الطيوب من الصمود ونتمنى لها كل التوفيق لأنها مؤسسة عرفت أن تربط بين الليبيين أينما وجدوا.