فرج غيث
لكل شعب تراث يعتز به ويحافظ عليه ويُعد سمة من سمات وجوده المتعمق والمتجذر في أعماق التاريخ الإنساني، وهنا في ليبيا يعد المألوف والموشحات الأندلسية فن ليبي أصيل، وجزء من التراث الليبي العريق، حيث يعود تاريخه في ليبيا إلى القرن الثاني عشر ميلادي، فأصله من لفظة (المألوف)، ما ألفه الناس، وهذا ما حظي به فن “المألوف” في ليبيا، عبر عن أحاسيسهم ومشاعرهم، بالرغم من أن هذا الغناء بات ينحو تجاه الأناشيد التي يغلب عليها طابع المدح في الرسول الكريم عليه أطيب الصلاة والسلام.
يتكون فن المألوف من قسم دنيوي وآخر ديني متصل بالمدائح الدينية الصوفية، حيث يستخدم هذا الفن في حفلات الزفاف، وأيضًا في تشييع جنائز شيوخ الزوايا الصوفية ومريديها، ولكن من حيث الأداء العام، فإن القسمين معًا (الجد والهزل) ينتميان إلى نسيج فني واحد لتشابه الإيقاعات.
من أهم المناسبات التي يقدم فيها فن المألوف في ليبيا مناسبة المولد النبوي، حيث تخرج مواكب الزوايا الصوفية، خصوصا أتباع الطريقة العيساوية المنسوبة للشيخ سيدي امحمد بن عيسى المكناسي المتوفي سنة 933 هجري، حيث قامت باحتضان هذا الفن طيلة وجودها في ليبيا، وربما كانت سببا لدخوله لليبيا، وبالرغم من انتشار هذا الفن في معظم أرجاء ليبيا إلى انه انحصر تقريباً حالياً في مدينة طرابلس حيث تتواجد الفرق الخاصة به، إلا أنه كان منتشراً في مدينة بنغازي على سبيل المثال حتى أوائل ستينيات القرن العشرين ليختفي بسبب عدم وجود فرق في المدينة.
تحمل كلمات فن المألوف عبارات ونصائح إرشادية وتوعوية، وأيضًا دينية وتعليمية وتربوية، تسهم في بناء أجيال تراعي حسن التعامل والحوار، فضلاً عن أنها تحافظ على انتشار اللغة العربية السليمة، ويحرص مؤدو هذا النوع من الفنون العريقة، على ارتداء الزي الشعبي التقليدي في غنائه، لتأكيد تجذره في التقاليد الثقافية والأدبية لتلك البلدان.
تستعمل في هذا الفن الأندلسي مجموعة من الآلات الموسيقية منها في النوبات التقليدية وهي: الغيطة (آلة نفخية)، وآلات رقية من جلود الحيوانات منها: النوبة وتستعمل في الموكب المولدي، وتحل محلها داخل الزاوية الطبلة (الدربوكة) والطار ويسمى بالندير العيساوي وهو ما وجدت به صنوج نحاسية، وآلة النقرة، كما تؤدى النوبات في الفرق بمجموعات موسيقية وهي تضم من الآلات الوترية: العود والكمنجة والقانون والقرنيطة والناي.
ولا يمكن للمرء أن يتحدث عن المألوف من دون التوقف عند أهم أعلام هذا اللون الفني، والذين كان لهم الدور الكبير في أنتشاره في ليبيا، اسم يحكي عن نفسه، ملحن ومطرب ليبي وأحد رواد الموسيقى والغناء في ليبيا والعالم العربي، اشتهر وتميز بفرقته التي أسسها والخاصة بفن المألوف والموشحات الأندلسية الرائع، هي بمثابة معهد موسيقي تخرج فيه العديد من الفنانين والمطربين الذين أثبتوا جدارتهم.
هذا الرائع هو حسن علي مختار عريبي المولود في مدينة عروس البحر المتوسط طرابلس في العام 1933م، تعلم تلاوة القرآن وهو في السابعة من العمر، وورث الاهتمام بالمألوف عن أبيه وجده، حيث تعلم منهما المقامات ليشق بعدهما دربه مواكبا العصر ومغيرا في القصائد التي يغنيها بعض الكلمات، فقام بتعديل النصوص القديمة وتهذيب بعض الجمل اللحنية.
في بداية حياته العملية أنتقل إلى مدينة بنغازي الباسلة للعمل كموظف في وزارة المواصلات، وذلك قبل افتتاح الإذاعة الليبية في بنغازي، وما إن فتحت هذه الإذاعة أبوابها في العام 1957م، حتى التحق بقسم الموسيقى فيها كمستشار فني.
كان من رواد جامع سيدي علي الوحيشي في مدينة بنغازي وفي هذا الجامع حمل كتاب الله بعد أن درس علي يد الشيخ محمد السوداني رحمه الله، وتعرف على محمد صدقي الحامل هو كذلك لكتاب الله في هذا الجامع والذي كان من أول المؤسسات التعليمية، لأن التعليم لم تكن به مؤسسات تعليمية، حيث تخرج منه العديد من شخصيات مدينة بنغازي، منهم الصادق النيهوم، وعبدالسميع مخلوف، وأحمد وعبدالعظيم الجهمي، وخليفة الفاخري،وغيرهم.
ومن المعروف عن محمد صدقي من المنشدين للموشحات في الموالد والزوايا، وكان في زاوية بن عيسى في شارع بودبوس، وبعد أن نمت صداقة بين حسن عريبي ومحمد صدقي، أقترح حسن على محمد بأن ينتقل الى الاذاعة لتقديم نفسه كمغني، خاصة وأنه كان معجب بأدائه وصوته أثناء ترددهما على زاوية بن عيسى.
وخلال عمله بالإذاعة اكتشف العديد من المواهب الغنائية منها المطرب الراحل محمد صدقي، الذي أكتشف موهبته الغنائية مقدما أولى أغانيه (كيف نوصفك للناس وانت غالي).
لقد عاش حسن ووالده فترة الخمسينات في بنغازي، وكان فن المألوف وقتها مزدهر في بنغازي، وكانت لهم فرقة مألوف. وبعد انضمامه لفرقة الإذاعة الموسيقية في بنغازي تراسها. وتزوج أبنة المرحوم الحاج فرج بن دردف، وبعد عمل كبير قام به، غادر بنغازي منتصف الستينيات عائدا إلى طرابلس وأنتسب لفرقة الإذاعة الموسيقية هناك.
بعد عودته إلى مدينة طرابلس أسس (فرقة المألوف والموشحات والألحان العربية) في الإذاعة سنة 1964م، ضاما إليها أعضاء المجموعة الصوتية بالإذاعة ومجموعة من الأسماء المعروفة في الغناء الإذاعي آنذاك مثل علي القبرون، عبد اللطيف حويل، خالد سعيد وراسم فخري، والذين قدموا مجموعة من موسيقى الموشحات، إلى جانب أنَّ هؤلاء الفنانين قدَّموا مجموعة من موسيقى الموشحات.
قال عريبي: عن المألوف والموشحات (في ليبيا وفي المغرب وفي تونس وفي الجزائر توجد الزاوية العيساوية، وهي التي اهتمت في الأساس بموروث الموشحات والمألوف، وعندما أسسنا فرقة المألوف والموشحات والألحان العربية سنة 1964م لم تكن توجد في مصر فرقة تعنى بالموسيقى العربية إلا بعد هذا التاريخ.
بينما كانت في تونس موجودة فرقة الراشدية وفي الجزائر توجد فرقة الموصلية، كما وُجدت مدارس كثيرة جدًّا في المغرب تعنى بفنون المألوف والموشحات، ونعتبر ليبيا من أوائل الدول التي اهتمت بهذا المألوف وأسست فرقة تُعنى بالموشحات، ففي ليبيا هناك موشحات وهناك إضافات إيجابية أيضًا، يعني ليست مقصورة على الموروث فقط، بل هناك إضافات إيجابية في تلحين الموشحات ونجحت التجربة).
يعد عريبي أحد رواد الموسيقى والغناء في ليبيا والعالم العربي والإسلامي، وقد اشتهر بفرقته الخاصة بفن المألوف والموشحات الأندلسية، لم يقتصر فنه على المألوف والموشحات إنما تخطاه للإنشاد الديني.
كذلك ساهم في تأسيس المجمع العربي للموسيقى وتولى رئاسته دورتين في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما ترأس أيضا المؤتمر العالمي للموسيقى بطشقند وشارك في الكثير من المحافل الموسيقية العالمية التي ترك فيها بصمة إبداعية واضحة.
ولم تقتصر ألحان الفنان الراحل على المشهد الموسيقي الليبي بل شملت الساحة الفنية العربية، فقدم ألحانا لفنانين عرب من تونس ومصر ولبنان بينهم سعاد محمد وهدى سلطان من مصر ونازك من لبنان ونعمة وعليا وسلاف وزهيرة سالم من تونس، وقدم عريبي ألحانه الجميلة لمطربين آخرين صاروا نجوما في سماء الأغنية الليبية منهم عطية محسن وإبراهيم حفظي وسيد بومدين.
تقول الدكتورة رتيبة الحفني عميدة معهد الموسيقى العربية بالقاهرة: أن فرقة المألوف والموشحات التي أسسها حسن عريبي معهد موسيقي متميز.
أما الروائي الليبي د. أحمد إبراهيم الفقيه الذي كان حاضرا بنصوصه التي تشيد بفن المألوف وبالفنان حسن عريبي، فقال: حسن عريبي قام بتحقيق فن المألوف والموشحات، الذي تبناه ورعاه وبذل حياته للوفاء بهذه الرسالة، ورسالته تمثلت في أن تكون للفن الليبي شخصيته وأن تكون لنا هوية، رسالته أن يبقي على التراث ليس في الزوايا والكتاتيب فحسب، إنما بتوثيقه وتسجيله.
الكاتب الليبي المعروف الراحل خليفة التليسي صاحب الموسوعات الشعرية أشار إلى أن عريبي يعد من عمالقة الفن في الوطن العربي، وقد وضع اسم ليبيا وللمرة الأولى على خارطة التراث الموسيقي والعربي والإسلامي وقدم صورة لم تكن معروفة عن ليبيا في السابق.
تم تكريمه في عدة محافل محلية ودولية، ونال كثيرًا من الأوسمة وشهادات التقدير، وكان أول نقيب للفنانين على مستوى ليبيا بعيد إنشائها العام 1974م، كما اُختِير رئيسًا للمجمع العربي للموسيقى في الجامعة العربية، الذي ضمّ كبار الموسيقيين في العالم العربي وذلك لجهوده، وترأس لفترة مؤتمر الموسيقى العربية الذي يُعقد دوريًّا جامعًا كبار موسيقيي العالم العربي، واُختِير رئيسًا لمهرجان الأغنية الليبية في دورته الثانية في مدينة طرابلس خلال العام 2003م.
وبعد وفاة الموسيقار رياض السنباطي تم تكليفه من قبل جامعة الدول العربية على ترأس لجنة لتوثيق أعمال السنباطي الكاملة وحفظها.
له كثيرٌ من القصائد، من أشهرها وأبرزها تلك التي أنشدها بطريقة المألوف والموشحات الأندلسية: (قصيدة المنفرجة) و(قصيدة طابت أوقاتي) و(قصيدة الذهب يزداد حسنًا إذا انتقش)، كما تغنى بنوبات مألوف (نعس الحبيب) و(جمر الهوى) و(ياما خلقت الورى من ظلم العدم) و(دمعي جرى عن صحن خدي كالجمر) و(شوقي دعاني) وقصيدة (الوصايا) وقصيدة (نعس الحبيب) وقصيدة (ناح الحمام).
قصيدة المنفرجة التي ألفها الشاعر الأندلسي يوسف محمد بن ميمون التلمساني، المعروف بابن النحوي التوزري نسبة إلى توزر مسقط رأسه في الجنوب التونسي، تعتبر من القصائد السياسية التي تدعو الناس إلى عدم اليأس والإيمان بالأمل في التغيير.
غناها مع بداية أزمة لوكربي، وقال حسن عريبي: ما قرأها قارئ وهو في ضائقة إلا وفرج الله عنه. ويقول مطلعها: “اشتدي أزمة تنفرجي ** قد آذن صبحك بالبلج”.
فرقة حسن عريبي للمألوف والموشحات والألحان العربية، أسسها الفنان الراحل حسن عريبي العام 1964، تحت اسم فرقة الإذاعة للمألوف والموشحات، وسميت لاحقاً فرقة المألوف والموشحات والألحان العربية، شاركت في العديد من المهرجانات المحلية والدولية منها مهرجان تستور الدولي للمألوف والموسيقى التقليدية بتونس 1967-2012، مهرجانات الموسيقى العربية بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة 1991-1995-1998-2003، ومهرجان القرين الثقافي بالكويت 2002، ومهرجان الموسيقى الأندلسية والموسيقى العتيقة بولاية تبازة بلدية القليعة بالجزائر 2010، ومهرجان طرابلس للمألوف والموشحات بطرابلس 2003-2009.
ومنذ تأسيسها ضمت الفرقة العديد من الفنانين الليبيين والعازفين على المستوى المحلي والعربي أمثال، الفنان عبداللطيف حويل، الفنان محمد السيليني، الفنان خالد سعيد، وعازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي والمايسترو عطية شرارة من مصر.
سجلت الفرقة في لبنان العام 1966م مجموعة من المقطوعات الموسيقية المبنية على ألحان ليبية شعبية قديمة تحت اسم سلسلة ليالي ليبيا، كما سجلتها مجموعة أغاني بقيادة عازف الكمان الشهير عبود عبدالعال.
وقبل وفاة الفنان الراحل حسن عريبي، رشح ابنه الفنان يوسف عريبي خلفاً له لقيادة الفرقة العام 2008م، وبعد وفاته العام 2009م قام ابنه بتغيير اسم الفرقة ليحمل اسم مؤسسها وأصبحت (فرقة حسن عريبي للمألوف والموشحات والألحان العربية).
توفي حسن عريبي رحمه الله وغفر له في 18 أبريل 2009م إثر أزمة قلبية أثناء قيادته سيارته أمام نادي الاتحاد الرياضي في مدينة طرابلس.، فيما شُيِّع جثمانه في جنازة مهيبة رسمية في اليوم الثاني لوفاته، حضرها عدد من الفنانين ومسؤولي الثقافة في البلاد.
قصيدة المنفرجة
– اداء: الأستاذ حسن عريبي وفرقة المألوف والموشحات الليبية.
– كلمات: يوسف بن محمد بن يوسف، أبو الفضل المعروف بـ أبن النحوي التوزري.
– الحان: الاستاذ الفنان الليبي حسن عريبي.
كلمات القصيدة:
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
اشتدي ازمة تنفرجي قد أدن ليلك بالبلجِ
وظلام الليل له سرجٌُ حتى يغشاه أبو السرجِ
وسحاب الخير له مطر فإذا جاء الإبان تجي
وفوائد مولانا جملٌ لسروح الانفس والمهجِ
ولها أرج محي أبداً فاقصد محيا داك الارجِ
فلربما فاض المحيا ببحور الموج مِن اللججِ
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
فلربما فاض المحيا ببحور الموج من اللججِ
والخلق جميعاً في يد فذوو سعة وذوو حرج
ونزولهم وطلوعهم فإلي درك وعلى درجِ
ومعايشهم وعواقبهم ليست في المشي على عوجِ
حكمٌ نسجت بيدي حكمت ثم إنتسجت بالمنتسجِ
فإذا اقتصدت ثم انعرجت فبمقتصد وبمنعرجِ
شهدت بعجائبها حجج قامت بالأمر على الحججِ
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
شهدت بعجائبها حجج قامت بالأمر على الحججِ
ورضا بقضاء الله حجا فعلى مركوزته فعجِ
وإذا انفتحت أبواب هدى فاعجل بخزائنها ولج
فإذا حاولت نهايتها فاحذر إذ ذاك من العرج
لتكون منَ السباق إذا ما جئت إلى تلك الفرج
فهناك العيش وبهجته فلمبتهجٍ ولمنتهج
فهج الأعمال إذا ركدت فإذا ما هجت إذاً تهج
ومعاصي الله سماجتها تزدان لذي الخلق السمج
ولطاعته وصباحتها أنوار صباح منبلج
من يخطب حور الخلد بها يظفر بالحور وبالفنج
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
من يخطب حور الخلد بها يظفر بالحور وبالفنج
فكن المرضي لها بتقى ترضاه غدا وتكون نجي
واتلوا القرآن بقلب ذي حزن وبصوت فيه شجي
وصلاة الليل مسافاتها فاذهب فيها بالفهم وجي
وتأملها ومعانيها تأت الفردوس وتفترج
واشرب تسنيم مفجرها لا ممتزجا وبمتزج
مُدِح العقل لأتيه هدى وهوى متون عنه هجي
وكتاب الله رياضته لعقول الخلق بمندرج
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
وكتاب الله رياضته لعقول الخلق بمندرج
وخيار الخلق هُداتهم وسواهم منه همج الهمج
فإذا كنت المقدام فلا تجزع في الحرب من الرهج
وإذا أبصرت منار هدى فاظهر فردا فوق الثبج
وإذا اشتاقت نفس وجدت ألما بالشوق المعتلج
وثنايا الحسنى ضاحكة وتمام الضحك على الفلج
وعياب الأسرار اجتمعت بأمانتها تحت السرج
والرفق يدوم لصاحبه والخرق يصير إلي الهرج
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج
صلوات الله على المهدي الهادي الناس إلي النهج
وأبي بكر في سيرته ولسان مقالته اللهج
وأبي حفص وكرامته في قصة سارية الخلج
وأبي عمر ذي النورين المستحي المستحي البهج
وأبي حسن في العلم إذا وافى بسحائبه الخلج
وعلى السبطين وأمهما وجميع الآل بهم فلج
وعلى الحسنين وأمهما وجميع الآل بهم فلج
وعلى الأصحاب بجملتهم بدلوا الأموال مع المهج
وعلى أتباعهم العلماء بعوارف دينهم البهج
وأختم عملي بخواتمهم لأكون غدا في الحشر نجي
يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج