سليم بطّي | لبنان
رواية “بوق” ملعبٌ لذلك الرجل “كارل-داوود”، يلهو فوق صفحاته بألغامٍ نسيتها “أو تناستها” الحرب العالميّة الثانية مطروشة بقع دم في أرض ليبيا وتحديدًا مدينة طبرق. صدق الرواية حالك، كمنام مزعج. فيها الشيء ونقيضه، الحبّ والحرب، البندقيّة التي تقتل والبوق الذي يقتل أحيانًا ويعلن الحياة حينًا آخر.
سرد العمل كرعد متواصل في ليلة شتويّة، لا يهدأ. تأخذك الصفحات من تلابيبك وتزجّك في أحداثها. تُلبسك خوذة الحرب لتجد نفسك متورّطًا في ساحة وغى جرت أحداثها الدمويّة قبل ما يقارب الثمانين سنة.
كموسيقى تشيللو رفيع يميل إلى الحنين كانت قصّة كارل ورحلته العجيبة من بلده الأم منتعلًا خوذته غائرًا في رمل الحرب المتحرّك. هناك في مكان بعيد عن أهله وعن نهر الراين وعن حبيبته. بعيدًا عن أنّاه. وبنغماتٍ مدوزنة على الكمان تأتيك قصّة كلارا الباحثة عن بقايا ضحايا الحرب بعد عشر سنوات من انبلاجها من رحم الشيطان. هذا الكمان بقوسه المجروح يرطن بعمرٍ من خسارات ألمانيا، ما بين تقهقهر في حرب عشواء، ضحايا بالآلاف، اغتصاب، ودمار. هذا الألطو المتناغم بين وتر الكمان والتشيللو عزف لنا مقطوعة “بوق”. لتؤكّد لنا الرواية أنّ أجمل الأوركسيترات تأتيك بتنوّع آلاتها، بين هوائيّة ووتريّة.
رواية “بوق” تُقرأ كنغمٍ ألماني الجذور، عربي – فولوكلوري العمق، يتوسّع انطلاقه من بلد المنشأ لتغدو الرواية كونيّة لكلّ متضرّرٍ من الحرب، تتمرأى بها كلّ الشعوب كأنّها حكاية من حكايات الجدّات.
شخوص الرواية تتحرّك على مسرح الحدث، يدركون معنى الحياة، كما الموت. يدورون في دوّامة القلق، يأكلهم الفراغ والوحدة ويبتلعهم حديد الحرب الملعون. ينتقل السرد من شخصيّة لأخرى بسلاسة، ريشة خفيفة سهلة، لا يعرقلها حاجز ما. قصص حقيقيّة أو من خيال الأصفر، لكنّها من حياة كلّ يوم وكلّ فصل، والشخوص ليسوا مجموعة من الناس، فالأصفر اختارهم فردًا فردًا من عتبة أيّ بيت ومن قارعة إيّ طريق، سواء كارل – داوود، كلارا، الراعية، مفتاح، التاجر، اقدورة، إلخ… مرّوا جميعًا على مسرح “بوق” برهة أو لفترة طويلة.
طالع أيضا: رواية «بوق»: السرد بوصفه إدانة…
استطاع الأصفر في روايته قولبة الأمس بلغة الحاضر من دون أن يكسر روح الاربعينيّات والخمسينيّات في سياق دراما الرواية. فكانت اللغة هي عنصر العمل الأقوى.
لغة الأصفر ماتعة، محبوكة كأسلاك شائكة، حاضرة بقوّة في تطعيم التعابير، في تليين القساوة، في عرض خرمشاتها المؤلمة تربط بين كارل الأمس وداوود اليوم. فمن يقرأ للأصفر يُدرك هُويّة روايته، صلصال عجينته، تجول في إيماءاته المختصرة ورمزيّته التي تبدو كأنّها منقوشة بمعول الألم بعفويّة حادّة، فتكرج كلماته كطائرة ورق تلهو في السماء بحرّيّة. في رواية “بوق” يعادل الأصفر في تصنيف عناصر اللغة بين الفصحى والمحكيّة الليبيّة، بين الحوار وبين السرد، بين الفصول والجُمل، لتكتمل إكريليكيّته المنمنمة بلغة أنيقة، جذّابة، صادقة، وصارخة. اللغة في هذه الرواية لم تكن لمجرّد الحكي، بل كانت اللغة عنصرًا ائتلافيًّا يُخرج فيها الأصفر الكائنات المسجونة من قمقم التأريخ. لغته دواؤه الناجع لتفريغ ما جمعه بطل العمل من رواسب مؤلومة في الحرب العالميّة الثانيّة.
استفاد الأصفر كثيرًا من عنصر المكان وطوّعه لخدمة العمل، فنرى مفهوم المقبرة كيف تحوّل من الفكرة المألوفة عنها، مخيفة ظلماء ومكدّسة بالأموات، وكيف حوّلها إلى مكانٍ مشرق، فيه الكثير من الموسيقى وضوء الشمس. كما لم تغب الرمزيّة عن الرواية، وفي أمثلة كثيرة، أذكر منها الاستفهام الساخر في الحرب التي كانت ستدور بين مقبرة الألمان ومقبرة الإنكليز.
طالع أيضا: صاحب البوق الألماني يعزف المزمار…
إن كان الألماني يوهان براهمز طوّر الموسيقى قبل أكثر من مئة سنة متميّزًا بموسيقاه الفصيحة، فمحمّد الأصفر اخترع الموسيقى الروائيّة، فهو في هذه الرواية عزف لنا بقلمه روايةً مُبهرة، وكتب ببوقه لحنًّا شجيًّا ناعيًا ضحايا الحرب، وفي نهاية العمل ينتصر الأصفر على وجعه، يحرّره من أصفاده، كمن يهزم كابوسًا كان يلاحقه، طوبى للكتابة التي تمازح أوجاعنا وتحرّرنا منها.
لي بعض المآخذ التي أثّرت كثيرًا على جماليّة العمل:
الانفصال الزمني الرهيب في حياة كارل منذ وصوله إلى ليبيا إلى أن تحوّل إلى داوود بعد عشر سنوات. هذه الفجوة الزمنيّة وتّرت علاقتي مع الشخصيّة ولم تجعلني أتغلغل في التغييرات التي طرأت عليه وجذّرته في أرض ليبيا هذا التجذّر العميق. كنت أتمنّى لو أشار الكاتب لهذه السنون من حياة كارل قبل وصول كلارا إلى ليبيا سنة 1954.
الشيء الآخر الذي أزعجني في العمل هو الانتقال الفوضوي غير المبرّر بين الرواة، ففي نفس الجملة أحيانًا تجد ثلاثة رواة، مثلًا كلارا وصديقتها التي تعمل في محطّة البريد وسكرتيرة الساعي (يسردون في نفس الجملة ومن دون أيّ مبرّر قصصي).
أيضًا تذكر الرواية كلمة جثّة عن ضحايا الحرب العالميّة الثانيّة التي حصلت قبل عشر سنوات حسب وقت سرد العمل، وبالطبع هذا الوصف غير دقيق لأن الجثث تتفسّخ مع الوقت وتتحوّل إلى رفات.
رواية جميلة، صادقة، موجعة.
استضفنا الكاتب في نادي صنّاع الحرف للقراءة وكانت جلسة استثنائيّة.