قصة

بقايا الذكريات

من أعمال الفنان "مفتاح الشريف"
من أعمال الفنان “مفتاح الشريف”

بعد ستة أعوام تمكنت من الهروب من سجني عازماً على أن أرحل بغير أثر، لكني كنت حريصاً على نظرة وداع أخيرة، تسللت للأطلال ليلاً، ومع ذاك الظلام ظهر جسدها الهزيل، مرتميًا على كومة من القش، تحتمي تحت سقف كوخٍ عتيق من زخات مطر خفيفة لطالما كانت تتراقص على نغماتها في طفولتها، ولكنها في تلك اللحظة بدت كجدع يابس لا يطربها صوت المطر ولا تنعشها رائحته.

هناك في زاوية الكوخ شمعة تنير بقعة بعيدة عنها، ومن نافدة الكوخ تتسلل أنوار البدر من حين لآخر لتكشف ملامحها، لا تشبهها. لكنها هي بعينين ذابلتين يلفهما السواد، تعلوان ما يشبه الوسائد، تورم من أثر البكاء على ما يبدو. اقتربت منها أكثر في لحظة غطت فيها الغيوم نور القمر وجلست على ركبتي منتظراً أن يضيء القمر بنوره مجدداً أركان الكوخ فأتمكن من تأملها، تغيرت كثيراً، غلف الحزن طلتها وظهرت خصلات بيضاء من تحت وشاحها. لا أدري كيف أيقظتها ولربما أيقظها صوت أنفاسي الذي عصف بهدوء المكان، فأخذت نفساً عميقاً، فتحت عينيها وبالكاد رفعت رأسها تأملتني فظهر على وجهي ما يشبه الابتسامة مستقبلاً نظراتها، لم تطل النظر كثيراً فسرعان ما أشاحت بنظراتها المنهكة بعيداً وكأنها رأت شبحاً، ثم أغمضت عينيها وغطتهما بذراعها في صمت.

– كيف حالك؟ اعتقدت أنها لا تسمعني، فكررت سؤالي: كيف حالك؟

 أجابت وهي تشد ذراعها بقوة على عينيها: ليس كحالَك! وهي التي اعتادت أن تجيبني بأن حالها كحالي، ثم قالت: لقد رحلت كِندا، ماتت قبل أن تسمع براءتك، ولم تصدق مبررات خيانتك ولم يعد كلانا بحاجتك، عُد من حيث أتيت، ماتت كِندا وماتت أمها.

قالت ذلك وغادرت مسرعة دون أن تلتفت.

لم أحاول اللحاق بها، الذنب يكبلني، التمر جف واللبن انسكب وبهتت كل الألوان و لم يبقى سوى لون رماد كِندا، و لم يكن ذاك الجسد إلا شبح الضحية.

مرت لحظات قبل أن يذكرني صوت هزيم الرعد بوقت الرحيل، لم يعد لدي خيار، عليَّ المغادرة قبل أن يطلع نور الشمس وتتفتح الزهور ويستيقظ اليمام، في السجن سجدت طويلاً لأستغفر لذنبي وأستطيع مواجهتها، ولم أتوقع ولو لوهلة أن يقتلها الخذلان.

ركضت نحو باب الكوخ مستدلاً عليه بنور شمعة، وسرعان ما راودتني فكرة، عدت لكومة القش تناولت الشمعة لأحرق بقايا الذكريات.. ابتعدت قليلاً أطالع التهام النيران للأطلال راجياً أن لا يطفئها المطر. توقف المطر واحترق الكوخ ورحلت مكبلاً بذنبي وقد حُكم عليَّ بالشقاء .

مقالات ذات علاقة

بزولة الكلبة…

عزة المقهور

كيف يحيا من يفقد الأمل؟

سمية أبوبكر الغناي

القطوس

البدري محمد الشريف المناعي

اترك تعليق