هذه الشخصية لم تحظَ بالكتابة عنها والتنويه بجهودها العلمية والإدارية كما يجب، وهو الذي كان اسمه يملأ قطاع التربية والتعليم في العهد الملكي، وفي العهد الجمهوري، ثم في مؤسسة القضاء، إلى أن وافاه الأجل سنة 2006م، كان قدوة في الأخلاق، والعمل، والجِد، والانضباط، والثقافة. سوف نركز على بعض المواقف المشرِّفة في شخصية الشيخ محمد رجب عياد في هذا الإدراج المختصر، إحياء لذكراه العطرة، وتحية تقدير واحترام لجهوده التي يَعْرفها ويقدرها كل منصف.
ولد الشيخ محمد رجب عياد حفيظة (يُعرف بهذا اللقب الأخير في مسقط رأسه جنزور فقط) سنة 1918م بجنزور، وحفظ القرآن الكريم في صغره بزاوية بن حسين (العريفي) احدى أعرق زوايا جنزور، التحق بعدها بجامع ميزران في طرابلس، وكان لشدة حبه وحماسه للعلم في البداية يتنقل بين طرابلس وجنزور سيراً على قدميه، ثم استقر في احدى خلوات الجامع، وبعدها انتقل للدراسة بالجامع الأزهر في مصر، وسافر بواسطة البر، وتحصل على شهادة العالمية من الأزهر في علوم الشريعة، كان عضواً نشطاً في نادي طرابلس الغرب الثقافي بالقاهرة (كان في شارع محمد علي، رقم 30)، في أواخر عقد الأربعينيات من القرن الماضي في إلقاء المحاضرات الثقافية وتنظيم الحوارات واللقاءات دعماً لقضية استقلال ليبيا، وللعلم، فإن هذا النادي كان يضم آنذاك كوكبة مميزة جداً من الطلاب الليبيين، مثل الأستاذ علي مصطفى المصراتي (1926- 2021م)، والشيخ محمود صبحي (1920- 2013م)، والأستاذ مصطفى بعيو (1921- 1988م)، وغيرهم، وقام بالتدريس في ثانوية الأورمان بالقاهرة كسباً للرزق بِعَرق جبينه.
عاد الشيخ محمد رجب عياد إلى مسقط رأسه جنزور بعد الاستقلال، وهو يحمل شهادة عليا في زمن كان الجهل ضارباً بأطنابه في البلاد، عُيِّن مُعلماً لمادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية بمعهد المعلمين بطرابلس، وأخبرني أحد تلاميذه (الأستاذ محمد محمد المقرحي) بالمعهد في تلك الفترة أنه كان أفضل مُعلّم دَرّسهم، فهو لا يتحدث إلا في ما ينفع الطلاب من علم وثقافة، وكان على خلق قويم، ونزاهته كان يُضرب بها المثل، رغم أن المعهد كان يضم نخبة من خيرة المعلمين الليبيين والعرب، وعُيّن أيضاً مديراً لثانوية الزاوية (ثانوية النهضة)، ثم ثانوية غريان، كما عُيِّن مديراً لإدارة المناهج والتفتيش الفني، ومديراً لإدارة الامتحانات، بوزارة التعليم، وانتقل بعدها إلى المحكمة العليا، ودرّس كذلك بكلية الدعوة الإسلامية بطرابلس، وغيرها العديد من المهام والوظائف كُلِّف بها في حياته العملية الطويلة، كان فيها نموذجاً للالتزام بالنزاهة، ونظافة اليد والضمير، مخلصاً لعمله ووطنه، وسوف أسرد هنا موقفين فقط سمعتهما من مصدرين موثوقين كانا شاهدين عليهما.
الموقف الأول: أخبرني الأستاذ امحمد الصادق القمودي القريو-رحمه الله- (1923- 2022م) [كان من رواد التعليم في منطقة سوق الجمعة وعضو في آخر مجلس نواب في العهد الملكي]، وكان مدعواً لحضور زيارة لوزير المعارف في العهد الملكي، وكان الشيخ محمد رجب عياد مديراً لإدارة الامتحانات بالوزارة آنذاك، وبينما كان الوزير يقوم بجولة في المبنى، اقترب من الغرفة المخصصة لوضع الأسئلة وأرقام الجلوس للطلاب والأختام وغير ذلك من أوراق ومستندات مهمة جداً تخص الشيخ محمد رجب عياد بوصفه مديراً لتلك الإدارة، وأراد الوزير الدخول للغرفة استكمالاً للجولة، فوقف أمامه الشيخ بكل جرأة وثبات، وأخبره بأن هذه الغرفة تحتوي على وثائق ومستندات سرية خاصة بالطلاب، لا يجوز لأي أحد الدخول إليها، ماعدا أنا ومساعد آخر (سَمّى له اسم موظف يعمل في الإدارة كان محل ثقته)، فاستغرب الحضور من هذا الموقف، وأصبح الوزير في وضع لا يحسد عليه، إلا أن من كان يَعْرف الشيخ محمد وجديته في العمل، وحرصه على أداء وظيفته بكل أمانة لم يستغرب ذلك الموقف، وما كان من الوزير إلا أن أخذ الموقف بروحٍ رياضية وغيّر وجهته إلى مكان آخر في المبنى.
والموقف الآخر ذكره لي الأستاذ الدكتور عبدالحميد عبدالدائم المنصوري، يقول بأنه كان مُعلماً في المرحلة الثانوية، وكان الشيخ محمد رجب عياد في المنصب نفسه مديراً لإدارة الامتحانات بوزارة التعليم، وفي نحو سنة 1973م وقع الاختيار على الأستاذ عبدالحميد -رغم صغر سنه آنذاك- بأن يكون عضواً في لجنة تصحيح أوراق الإجابة لمرحلة الثانوي، وكان ذلك في ثانوية النصر، بشارع النصر بطرابلس، وكانت اللجنة تضم العديد من المعلمين الليبيين، وقليل من المعلمين العرب، وكان اختيار أعضاء اللجنة يتم بعناية حفاظاً على الأمانة، وعدم الغش، أو التهاون والتقصير مما يؤدي إلى ضياع جهود الطلاب لا قدّر الله، ويقول بأنه ذات يوم كان الشيخ محمد يقوم بجولته المعتادة بين أعضاء اللجنة وهم منهمكون في تصحيح الأوراق المكدسة، ولاحظ بانتباه أن أحد المُعلّمين من احدى الجنسيات العربية يجلس على كرسي أمامه طاولة مكتوب عليها رقم، فاستشاط الشيخ محمد غضباً، ظناً منه أنه رقم جلوس لأحد الطلاب كتبه الأستاذ حتى لا ينساه ويقوم بمساعدته في ورقة اجابته، لأن الأوراق يتم تمييزها بواسطة الأرقام، وليس الأسماء التي تحذف حفاظاً على شفافية الأداء، ومباشرةً طلب الشيخ محمد من أحد المُعلّمين أن يقوم بنسخ الرقم المكتوب على الطاولة، ويتأكد هل هو رقم جلوس أم ماذا؟ وتبيّن أخيراً أنه رقم هاتف وليس رقم آخر، ومع ذلك قال الشيخ أمامهم بصوتٍ عال (أن من يدخل هذا المكان ليس مطلوب منه أن يحفظ أي رقم، ولا يكتب أي رقم)، وقام باتخاذ إجراء فوري بأن استبعد ذلك المعلم مباشرة من اللجنة، رغم أن المعلم شرح له ملابسات الموضوع، واعتذر منه بإلحاح، غير أن الشيخ لم يغيّر موقفه، وأكملت اللجنة عملها دون ذلك المُعلّم.
رحم الله الشيخ محمد رجب عياد، فهو من أعمدة وزارة المعارف (التعليم فيما بعد) لسنوات طويلة، بذل جهوداً جبارة في الحفاظ على مستوى التعليم في ليبيا في مكانةٍ كانت تنافس على المستوى الإقليمي، كان ديدنه الصدق، والأمانة، وقول الحق.
المصادر:
1- مقابلة شفوية مع الأستاذ امحمد الصادق القمودي القريو يوم 15 ديسمبر 2016م في بيته بمنطقة سوق الجمعة، الساعة 15:00 مساء.
2- مقابلة شفوية مع الأستاذ الدكتور عبدالحميد عبدالدائم المنصوري يوم 10 أبريل 2024م في بيته بمنطقة صياد، الساعة 10:00 صباحاً.