نحن اليوم بإزاء كم هائل من الأعمال الشعرية الليبية، سواء أكانت منشورة وموثقة ورقيًا في دواوين ومجموعات شعرية أم بعضها المنشور في المجلات والصحف، أم أنها لا تزال مخطوطة ولم يحظى بعضها إلا بالنشر على مواقع التواصل الاجتماعي على القوقل والفيسبوك التي تهتم بنشر الأدب الليبي مثل موقع بلد الطيوب، وبوابة الوسط، والسقيفة الليبية، وغيرها.
هذا الكم الهائل من الأعمال الشعرية في حاجة إلى نقد حقيقي يطرح رؤاها، ويستكشف عوالمها، كما يقدم قراءات وتحليلات تطرح تقييمًا جادًا بوصفه نقدا بنّاءً يبرز جودة هذه الأعمال، كما يبين جوانب الضعف والخلل فيها، يبرز ما تحفل به من مواطن العمران أو الخراب، ويوضح وجهات نظر قد تكون مختلفة مع وجهات نظر أصحاب هذه الأعمال. لكن الجدير بالذّكر هو أهمية أن نراجع أنفسنا، إن كنا نريد أن نرتقي بالشعر الليبي والأعمال الإبداعية في هذا المجال، يجب الابتعاد عن النقد الذاتي، لتكون القراءات النقدية واعية ذات معرفة بما يقتضيه النقد من أسس جمالية وفكرية. قراءات تسير في نطاق موضوعي بعيدا عن المجاملات والمحاباة لأصحاب الأعمال أو النصوص الشعرية التي تجعل النقد الشعري عطبًا راهنًا.
إن قيمة أي عمل أدبي سواء أكان نثريا أم شعريًا لا تكمن في إبراز إيجابياته وامتداحه عند نقده، بل تكمن في نقده الحقيقي البناء الذي يصبّ في مصلحة النص بوصفه عملًا إبداعيًا يجب أن يظهر في أبهى صوره الفنية والجمالية. هذا النقد الذي لا يقلل من قيمة العمل الإبداعي، بل يقوّمه ويطرح رؤاه.
يقودنا هذا الطرح إلى الحديث عن حاجة النص الشعري الليبي إلى نقد أوّلي قبل نشر العمل. نقد يبرز مواطن السلب قبل مواطن الإيجاب. نقد يدفعنا إلى التساؤل: هل هذا العمل يبدو جيدًا؟ هل يبدو ذو قيمة جمالية وفنية؟ هل يتسم بالشعرية حقا؟ وأخيرا هل يستحق النشر؟!
بهذا النقد الأولي يُطرح العمل الشعري ذو قيمة فيما بعد النشر، ويترك المجال للنقاد المتخصصين في هذا المجال، إذ يبدو دورهم الفاعل في القراءة النقدية الواعية مقويًّا للمسار النقدي السليم.
لا نستبعد وجود قراء، ولا ننكر وجود نقاد في مجال النقد الشعري الليبي الحديث، ولا سيما أولئك النقاد الذين اعتنوا بدراسة مراحل الشعر الليبي الحديث واتجاهاته ومذاهبه والمدارس التي مر بها، ناهيك عن بعض النقاد الذين احتضنوا بعض الأعمال الشعرية الليبية بالدراسة في بحوثهم الجامعية وغيرها من البحوث الأكاديمية التي يشاركون بها في بعض الملتقيات والمؤتمرات الأدبية؛ ولكن في حقيقة الأمر إن هذه الدراسات والبحوث والقراءات تبدو قلة قليلة مقارنة بكم الأعمال الشعرية المنشورة وغير المنشورة؛ الجدير بالذّكر في هذا الصدد هو أن حاجة الشعر الليبي الحديث تبقى ملحّة إلى نقد حقيقي. نقد بعيد عن الوسط الأدبي الذي يضج بالجهوية، نقد في مستوى الصورة الإبداعية وهي في أبهى تجلياتها، نقد يقدر الحالة الشعرية بصورة واضحة وسليمة وفق فكرة نقدية تحمل سمة الجمالية والفنية، بعيدا عن أي إطار مشروط أو مقَونن. الشعر الليبي الحديث في أمس الحاجة إلى هذا النقد في زمن انصرف فيه النقد عن الشعر بعد هيمنته، ليهتم بالفنون التي فرضتها المرحلة الآنية من رواية وقصص. إنه زمن السرد القصصي، زمن الرواية الذي طغى على زمن الشعر ولكن دون التخلي عن الشعر وأهميته. زمن الرواية هذا الذي برز على الساحة النقدية حتى ضيّق أفق دائرة النقد الشعري الليبي، فأثّر غياب هذا النقد على الأقلام الحرة التي تتضح حاجة الشعر الليبي الضرورية إليها.
الأسئلة التي تطرح نفسها بعد هذا الطرح، قد تبدو أسئلة محرجة إلى حد ما: هل يتقبل الشاعر مثل هذا النقد البنّاء برحابة صدر؟ أم أنه سيكترث لمجرد رؤيته هذا النقد من منظور أنه يقلّل من قيمة عمله الإبداعي؟! هل يعتبر هذا النقد مُصلحًا بنّاءً لعمله، أم أنه هدّامًا له؟!
ومن ناحية أخرى: هل يقبل النقاد أن ينتقد نقدهم، فنتطرق إلى مسألة جادة وضرورية ألا وهي مسألة نقد النقد؟!
بما أن ممارسة فعل الكتابة يعد ممارسة إجرائية، تحتاج إلى وفرة جملة من الاستعدادات الفكرية والأدبية، تسمو باللغة إلى أرحب أفق، فإن العملية النقدية تحاول ملامسة هذه الأعمال الإبداعية من منظور فكري رؤيوي جاد. هنا يجب علينا أن نقبل ونتقبّل مصلحة الأعمال الإبداعية الشعرية على يد نقدٍ حقيقي، بوصفه “اتصالًا بالنص اتصالًا حميميًا وموضوعيًا في آن، واستقراء مكوناته”(1)؛ إذ إن النص الشعري حينما يخرج للقراء يصبح ملكًا مشاعًا من ناحية التأويل والتحليل، وبذلك يصير المتلقي مُنتجًا آخر للنص ذاته، إذ إن هذا النص قابل لتعددية القراءة.
وبما أن العملية النقدية أمانة علمية وأدبية، فإن هذه الممارسة الإجرائية يجب أن تكون ذات رؤى بنّاءة تعمل على إبراز صورة الأعمال الإبداعية في عمق شفافيتها، وموضوعيتها، وإلا لن يكون لدينا ما ننير به عتمة النقد الواعي التي يحتاجها الشعر الليبي اليوم…
الأمر المهم الذي لا نغفل عن ذِكره هو أنه يوجد لدينا كتّاب وشعراء كبار هم بمثابة المرجع للكثير من الأقلام؛ لكن غياب النشر بسبب عدم الاهتمام به من قبل وزارة الثقافة أدى إلى انخفاض مستوى الرفع من جهود هؤلاء الكتاب والشعراء، ولا ننسى أن هناك أعمال إبداعية شعرية ليبية تحمل سِمة الشعرية الحقة سواء أكانت هذه الأعمال لشعراء ذاع صيتهم في الوسط الأدبي، أم أنها أعمال لشعراء لم ترى النور بعد، بل ظلت حبيسة الأدراج فقط بسبب غياب النشر الذي يعود إلى قلة الاهتمام بنشرها من قبل الجهات المختصة بذلك. ناهيك عن التقصير الذي حل ببعض هذه الأعمال في عدم اختيارها بالبحث والدراسة والتحليل والقراءات النقدية، فكثير من الشعر الليبي الحديث نأى بنفسه عن السياقات المستهلكة، وواكب التغيير. شعر يستحق القراءة، يبدو ذو قيمة دلالية وفنية وجمالية آسرة.
هذه دعوة لكل من يعنيهم الأمر دون استثناء؛ هيا إذن لننهض بالهمم ونحرك موكب الشعر الليبي بقراءات نقدية حقة. بنقد يخرج من النصوص ذاتها، لنشارك في انبلاج كوة النور أمامه فيظهر جليًّا، لا أمام الساحة الأدبية العربية فحسب، بل أمام العالم أجمع..
(1)- أحمد المديني، في الأدب المغربي المعاصر، دار النشر المغربية- البيضاء، ط2، 1985، ص: 71-72.