علاء بن دردف
لا يفصل منطقة الفيض وتخوم مدينة بنغازي إلا مسافة قصيرة.. لكنها كافية لإحداث نمط من الحياة مختلف عن حياة المدن إلى حد بعيد. فبينما تتكئ منطقة الفيض بجوار الأودية المنحدرة من الجبل الذي يمدها بماء الحياة من الأودية الملتفة حول الفيض.. تنتصب النجوع الأربعة لمجتمع الفيض لتروي قصتها.. داخل عزلتها المتوهمة.
تتداخل القصص والحكايات والشخصيات والأحداث داخل هذه البقعة الخضراء المنبثة على السهول. فيتحرك الفيضيون والفيضيات هنا وهنالك حول سبل الحياة البسيطة والميسرة.. فذاك يرعى مواشيه وهذا يحصد زرعه وتلك تذهب مع جاراتها لالتقاط الحطب وورد الماء.. وذاك “يحدّر” إلى المدينة لتبادل السلع مع أهلها.
بينما تتكرر المناسبات المنعقدة بجوار “مقبرة الشياب” والتي تتحول إلى مواسم حافلة بالبهجة واللقاءات بين سكان الفيض…كما تعمر باللقاءات بين فتيان وفتيات الفيض للاستماع إلى شهر الغزل والتشبيب والصوب. التي تعكس اريج علائق المحبة.. والتي تثمر عن قصص عشق سرعان ما تنتظم الى علاقات زواج في موسم الحصاد.
وليس العبث هو ما يرسم خطى أهل الفيض، وإنما مسارات قدرية تجمع بينهم وتفرق، وحظوظ ينالها هذا ويحرم منها ذاك، الشمس تشرق وتنشر ضياءها على بساط الفيض.. ويتفتح الزهر والنوار ثم يعقبها غروب وانعقاد ليالي السمر في ضوء القمر، وما بين الشروق والغروب تنهل القصص والحكايات والأحداث كالمطر.
أسماء نجوم تتصدر هذه النجوع.. منصور الأعرج.. سعيد الزعلوكية.. عثمان بومخابيط.. سليمةالحضرية.. غزالة المصراتية.. امبيريكة.. بو مرفوعة.. آل الساحلي.. وغيرهم.
قصص العيون السود والجمال والاشتهاء تبرق بين ثنايا الرواية.. وتتجاور مع الطبيعة الغناء.
يروي “السنوسي” سيرة الشخصيات الرئيسية من مبتدأها إلى منتهاها وخبرهم بين ذلك.
فيما يصل صدى الأحداث في المدينة والبلاد المجاورة فيتفاعلوا معها كل حسب فهمه.. من حرب ايطاليا الى ثورة الجزائر الى سيدى ادريس الى حرب قنال السويس الى اكتشاف النفط وغيرها من حوادث.
يتحلق أهل النجع حول الشخصيات الرئيسية للرواية.. سعيد الزعلوكية.. عثمان بومخابيط اللذان يشكلان ثنائيا يفيض بالقصص والأشعار والأسفار والمغامرات والمعرفة.. فالمعرفة هي التي صنعت لهما هذه الجاذبية.. تلك المعرفة المليئة بالأخبار والتواريخ والاحداث الممزوجة بقصائد الشعر والمستمدة من الترحال والأسفار والتجربة والمعاناة والذكاء الفطري.
حالات الانتقال والزواج خارج الفيض.. أو مجيء شخص جديد ك “غزالة المصراتية” الى داخل الفيض تثير شجنا واهتماما يندر بين سكان المدن…فمثلا شكل رحيل عزيزة احدى فتيات الفيض ما يلي: “كانت لحظة خروج عزيزة من بيت الشيخ حامد في هودجها محفوفة بعشرات الجمال والجياد وعلى وقع اصوات البارود والأهازيج؛ مشهدا دراميا جديرا بامرأة تعد اسطورة من أساطير الجمال في تاريخ نساء الفيض،إلى الحد الذي استغرب فيه احدهم عدم موته من الصدمة يوم رؤيته لمشهد زفاف عزيزة ورحيلها عن الفيض، فقال في مطلع قصيدته
“سبحان إللي ما متت يوم الزفة ** يوم مشيته لريل رقيق الشفه”
كان للفيضيين سجلهم الشفهي للتاريخ يعتمد على احداث وقعت، ويحسبون الأيام والسنين بناء على هذه الاحداث الفارقة.. مثل “عام الكبة” عام “ربيع النوار” عام “الكرنتينا” عام “عجاج سيدي المهدي”..
وبهذا فهم يصنعون تاريخهم النابع من بيئتهم وواقعهم..والذي يكون اكثر حضورا في الذهن.
الربيع والجبل والخضرة والماء والشعر والشعراء والنساء والفتيات والعشق والغرام وتاريخ الأسلاف وحكايات العجائز وأساطير الجن والانس وقصص الزواج والفراق تنتشر بين اهل الفيض كما تنتشر داخل رواية سيرة الفيض.. فكلاهما انعكاس للآخر.
وكما للأشياء نهاية وأفول كذلك سيرة الفيض.. فزحف التصحر وقسوة عوامل البيئة نضبت معها مياه الحياة المنحدرة من الجبل.. فقلت الارزاق وجفت الوديان وبدأت حركة النزوح تجاه تخوم المدينة رويدا رويدا بين سكان الفيض..
ذاب البعض داخل المدينة بينما اختفى آخرون وانقطعت أخبارهم بين مساكن الصفيح.. في عالم لا يعرفهم ولا يعرفونه مثلما كانوا بمرابع الفيض.
يلتقط “السنوسي” هذا الفراغ الذي لفهم.. وكأن خروجهم من فيضهم أفقدهم ما يشبه “المغناطيس الاجتماعي “الذي كان يشدهم.. وتناثروا إثر فقده على حواف المدن.
فكانت سيرة الفيض مثل “معلقة روائية” تخلد ذكرهم.. وتروي سيرة ما جرى.
بنغازي – 26 /سبتمبر/2024