الطيوب | قراءة : مهنَّد سليمان
عبر هذه البسطة نحاول أن نتوقف عند سيرة أحد القامات الأدبية في مجاليّ الفلسفة والفكر الإنساني ففي كتاب (أرسان الروح) تتوهّج الروح فوق أرض وعِرة لا تحترق ضمن مساحاتها مسارات الإبداع حسب ما يُوحي به عنوان مذكرات الباحث والدكتور “نجيب الحصادي” الصادرة عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع لعام 2023م الواقعة بـ370 صفحة من القطع الكبير، ود. الحصادي أستاذ جامعي حاصل على إجازة الدكتوراة في فلسفة العلوم من جامعة ويسكانسن بالولايات المتحدة الأمريكية صدر لها ما يربو عن العشرين مُؤلفا في علم المنطق ونظرية المعرفة، وعلم الأخلاق وفلسفة العلوم والسياسة فضلا عن ترحمته لنحو خمسين كتابا إلى اللغة العربية، ولعل د. الحصادي من القلائل اللذين تشغلهم منهجية التفكير الناقد مما حذا به لتبني -الفلسفة- كركن جوهري يُحفزّ العقل على إعادة النظر فيما ترسّخ لدى الوعي الإنساني من مسلّمات وتفكيك أنساقها التاريخية والمجتمعية والثقافية برهنت معطيات الزمن على مدى إعاقتها لحراك التقدم، وفي آن الأمر يُمكن من خلال نبش مكامنها للعثور على ما يأخذ بيد الظمآن لماء المستقبل، فإنما الفلسفة تُثوِّر فاعلية العقل، وتُصيِّر منه أسلوبا تقوم عليه رؤية الإنسان لذاتية وجوده ومكوناتها الكونية.
إرهاصات البدء
يُشير الدكتور “محمد المفتي” في توطئته بالكتاب إلى خصائص شخصية د. نجيب الحصادي الذي يتطرق إلى ألية توظيفه لبعض الألفاظ والاصطلاحات التي قد تظهر بوجه غامض غالبا، وفي رأيي لربما د. نجيب يهدف عبر استخدام هذه المفردات الغامضة إلى نفض غبار غموضها بإلقائها تحت شمس الأصيل بغية بث الحياة مجددا في أوصالها ودفعها من الجمود إلى الديناميكية، وتتوزع مذكرات د.نجيب الحصادي على تسعة عشر فصلا يتماهى فيها د. نجيب من سنوات طفولته وملامسته الأولى لتهجى أبجدية ما حوله ضمن عائلة تقطن بمدينة درنة الزاهرة، وفي درنة يُبيّن د. نجيب مدى الوشائج الحميمة التي تربطه بها فهو يؤكد بأن الهوية تمثل فكرة الغربة عن الذات وعن صحبة الصالحين، ولعمري أنه طرح يشفّ عن روح توّاقة لجعل الأشياء وحدة متجانسة تعبر الشروط الثابتة لحيّز أرحب وأعمق.
على الطريق
فيما يؤرخ د. نجيب الحصادي يوم ميلاده باليوم والشهر والعام ملتبسة بتلك الأحداث السياسية التي حلّت بذاكرة العرب والعالم، ويمضي د.نجيب في سبر مشاق رحلته متوكأ على عصا ذكرياته إذ يستعرض تجارب صقلته وأسست لملامح هُويّته وحوادث مر بها ومرت به، وانعطافات بلورت رؤاه إزاء عالم يمور بجملة من الاضطرابات، فالحصادي يستفيد من الدرس جيدا لذا صار مذ ذاك الأمل الذي تزامن مع ذكرى مولده يستثمر شرط المعاناة ويُعيد تدويرها شكلا لنمط حياة يفتح النوافذ على كل اتجاه وموضوعا مؤاده أن الوجود الإنساني حتمي يُمكن للكائن البشري خوضها دون تعقيد بمواجهة حاجز التعقيد نفسه. وجودية الحصادي تكاد تتجلى في (أرسان الروح) كونه لا يجزم بتحري الحياد والحياد في السير الذاتية قد لا يكون معيارا مطلوبا فالحياد شطط كما يقول الشاعر الراحل “محمود درويش” فحسب تعبير الحصادي بأن ذاتية السير تعذر إلى حد ذاتية سردها ما لم يسرف فيها ظرف مخفف لعقوبة النقد على التحلل من الموضوعية.
الكتابة الشائكة
من جانب موازٍ فإن ما ترتكز عليه جُل كتابات السير الذاتية سيما للأدباء والفلاسفة والمشتغلين بالميادين الإبداعية يثير الكثير من الجدل ويفتح المجال للسجال واللغط أحيانا فكاتب السيرة دائما أو غالبا ما يكون بين فكيّ كماشة حُدود الحقيقة ومفاتيح الخيال المتلقي في المقابل ينتظر بخبث أن يصطدم صاحب السيرة بكل شيء ! ، وإزاء هذا الصدد يوضح الحصادي أن من تحدثه نفسه بكتابة سيرته الذاتية قد يظهر رغبة ونية صادقة في أن يعتبر الآخرون من تجربته، وبالتالي فإنه متهم بشبهة الاعتقاد في أهمية ما أحدثه في مجتمعه من أثر. نعم فإن مَن يتصدى لكتابة سيرته يبحث عن معنىً لربما فقده أثناء رحلته أو انطفأت جذوته إنه لمن المعقول جدا أن نُقر أن المعنى الدال على ضرورة الوجود حتمية تؤرق وعي الإنسان فإما تجعل منه باحثا صبورا وإما مجرما ذو نفس قصير متقطّع في حالة إخفاقه.
البحث عن معانٍ جديدة
بينما من جهة أخرى يعتقد البعض أن توثيق المرء لسيرته واجب وطني وإنساني. تُرى لماذا يميل أولئك البعض لكتابة سيرهم ؟ المعنى وحده كمقصد ليس كافيا هل للخوف دور ما ؟ الخوف من تلف الأثر ! الخوف من أن تتحول تختفي السطور من على الأوراق ؟! هي عوامل واردة بسبب تداخل نتائجها بيد أن ما يهمّنا هنا هو أن الحصادي لا يبحث في سيرته عن معنى الحقيقة بقدر ما يبحث عن حقيقة المعنى التي تتأتى ببلوغ حقيقة الجمال تلكم الوشيجة البرّاقة التي تصل رحم الأنثى برائحة التراب، ونحن نرى العالم في سيرة (أرسان الروح) كيف يرى الحصادي العالم وإلى أيّ حد تقف رؤاه مما جرى لا أدري لم يهتم القارئ سواء كان القارئ المهتم أو القارئ الأكاديمي بما جرى فيم يهمنا ما جرى ؟ ألكي نُدرك حصتنا من المستقبل ؟ أهو دفع للخوف مرة ثانية ؟ فيما نجد الحصادي يُبوِّب فصول سيرته بعدة عناوين لافتة مثل :- سنوات الصغر، رسن الزاهرة، الجامعة الليبية، التجربة الأمريكية، سنوات الصَّغار، رسن الفلسفة، التفكير الناقد، جامعة يوسبريدس وغيرها ممن تُمثل مدخلا يُبحر بالقارئ للاطلاع على تجربة إنسان تآخي مع الخيارات الجمالية لفلسفة الحياة.