رحلات

أول القصيدة محبة…حقيقة المحبة شوق

منطقة وادي الكوف بالجبل الأخضر

ألف كيلو متر مربع ونيّف أي ما يعادل عشر ساعات هي حدود المسافة المرصودة برا الفاصلة بين مدينة طرابلس غربا وبنغازي شرقا على إمتداد أحد أجمل سواحل منطقة حوض جنوب البحر الأبيض المتوسط وأطولها بعمق صحراوي مترامي الأطراف، لكنّ هذه المسافة على مشاقها تكون هينة إزاء ما ينتظر المرء من وجبة جمال دسمة تفيض عن حاجة اللغة وتُربك مكامن المعنى في مترادفات القواميس، رحلة كهذه كانت ضرورية رغم امكانية تلافيها بالحجز على أول طائرة مقلعة لبنغازي إنما هي محاولة بدت علاجية لابصار الامتداد الجغرافي المهول علاوة على أنها تفتح أفق البحث عن منابع البهاء مفتشا عن أماكنه ونابشا عن زواياه التي يجهلها الكثيرون وأثناء خضام الرحلة قال أحدهم بتنهّد عفوي يااااااه كم كبيرة أنت يا بلادي ! ، نعم إن بلادنا تحمل على أكتافها ميراث جمالي عظيم لازال مجهولا لأبناء هذا البلد ومرفوضا فيما بينهم، وتتضح لك حقيقة أنك لا تقطع المسافات بقدر ما أنك تُحيك بقلبك ثوب الوطن تصله فيفت في عضدك، فجغرافية الأرض تبوح أمامك بسر عظيم أن المستقبل لن يستقيم إلا بنا جميعا، دع عنك خطابات التنظير المستهلكة وشمِّر عن عزيمتك لتعرف هَديَ طريقك.

مشهد الغروب من شاطئ مدينة سوسة

خصوصية الشرق
الشرق على نحو خاص سواء كان بليبيا أو بغيرها تظل طبيعته محافظة على مذاق ثري للسحر يستدرج القاصي والداني لفخاخه الماتعة فأمكنته مُحمَّلة بخصوصية فريدة ….كانت محطة الانطلاق من طرابلس صبيحة يوم الأربعاء ٨ سبتمبر ٢٠٢١م ضمن رحلة نظمتها شركة سفاري ألفا لشبيبة طرابلس والمنطقة الغربية كافة تكثفت مدتها لخمسة أيام متتالية حيث تباينت شرائح الراحلون ما بين الفتية والشباب والشيوخ، بمشاركة 51 حيث شددنا الرحال بروح تغمرها البهجة ويسد رمقها الشغف حتى أنخنا الرحال وبلغنا نقطة الوصول مع منتصف ليل الخميس ٨ سبتمبر على تمام الساعة الثانية عشر، حيث أقمنا ليلتنا الأولى بإحدى مزارع منطقة القوارشة الضاحية الغربية لمدينة بنغازي، وصباح اليوم التالي انطلقنا متوجهين لعمق الشرق فمررنا بريف المرج نتأمل مراعيها الغنّاء والخراف ترعى ببالغ الدعة والألفة.

جسر وداي الكوف – الجبل الأخضر

الجبل الأخضر
برنامج الرحلة شمل أيضا وقوفنا على ميراث الاغريق الحضاري وأطلالهم الباقية في وجه عوامل الزمن وتعرياته القاسية في قورينا بشحات التي أقمنا مخيمنا داخل غابة -سيدي محمد الحمري- أعلى نقطة في الجبل الأخضر وأقدم مشاريع التشجير تحتضن باقة خلابة من أشجار الصنوبرفوقها أصوات الغربان الناعقة تبلل ريق صباحك، ولسوسة كذلك نصيب من شهيق رحلتنا حين نجت الشمس بغروبها البديع وشهدت الأرض ميلاد الشِعر تتويجا للجبل والبحر على طبق الأديم !، وقد كان لمنطقة وادي الكوف أبعاد تفتح شهية الروح تكتنفه المهابة، فقد بدا الوادي مهيبا لدرجة تتجاوز أبجدية الوصف تكسوه الشجيرات الخضراء من القمة للسفح فتتراوح درجة قوة إخضرارها من شجيرة لأخرى، هذا الجبل بمعنى آخر يسطو على كيانك يُعلِّمك إن للحب صلاة وطريق معرفة الله تبدأ من خطوة تصالحك مع الموجودات من حولك مع الأخاديد والمغارات والكهوف المُبررة لصوت رحيقه الذي تتذوقه وتشتمه في آن !

الجبل الأخضر

عيون الله على الأرض
وسط نسائم الخريف العذبة تدغدغ رئتيك أنفاس البحيرات النقية والعيون الصافية، في منطقة رأس هلال، نتكبد مشقة هبوط منحدرات صخرية ورملية لا تكاد تخلو من نسبة الخطر لكي نعانق (شلال بالفو) الكائن في رحم الجبل عدنا إليه مثل طفل يحنُّ إلى أحشاء أمه، تحوطه جدران تلونها الطحالب وسقف مفتوح على زرقة سماء الله، وتحس إن الماء المتهاطل إنما يرشك بعَرق العافية ويلفك بدثار دافئ برغم برودة الماء الشديدة، وقبلها آنسنا المرور ببحيرة (عين الدبوسية) التي لولا تلطف أقدار الله وتدخل الشباب لإنقاذي لكنت غريقا في لُجة مائها الزلال بعدما حاولت بشيئء من التسرّع القفز من على إحدى الصخور المنحدرة متناغما بمعية أولئك الفتية اللذين أخذوا يعزفون بقفزاتهم المحمومة أجمل الألحان لأخرج نغمة نشازا وسط تلكم الجوقة الرائعة.

منطقة رأس هلال

المعركة ضد القبح
لابد من خوض معركة مفتوحة ضد القبح وأشكاله المتعددة وحسمه بالبحث عن الجمال واقتفاء آثاره وخطوط طوله وعرضه حيثما وجد وكان، لأن المعركة مع ستكون متكافئة ومنتصرة في جميع الأحوال إذا ما تسلحنا بأسباب المضي قدما، ولعل ما يستخلصه المرء من الأسفار والترحال مؤاده يتمثل في أننا الجمال لن نجد دائما الجمال مطروحا ومتاحا كيفما أردنا وفي الوقت الذي نحب ما يستدعي أن نحث السعي ونذهب لتكتشف ما لعين رأت ولا أذن سمعت لان الجمال قيمة تستحق البحث عنها لا انتظارها، وليبيا بلاد تُطمر على يقينها الجماليات المجهولة لأبنائها قبل الآخر البعيد وبسبب عمق هذه الجهالة الحادة طفت على سطح الصباح لعنات الحروب وتلوث الثوب الأبيض بالدنس.

مدينة قورينا الأثرية -معبد زيوس – شحات

ولادة الأشواق
لدى طريق العودة يستبد بجوارحك شعور مزدوج ما بين الفقد فقد تجربة الهروب والاختلاط بأناس لا يعرفونك ولا تعرفهم وكلاما ليس متحمسا لتحيتك حتى وإن أثار تحصنك بالصمت استغرابهم أحيانا، والحنين وهذا الأخير يأخذ مساره البديهي ويطوِّقك بأحلام الرجوع وأغنية فيروز (سنرجع يوما إلى حينا) لترجع لمسقط ولادتك مكتشفا أن ولادتك نتيجة سمو هوي ليرتفع عاليا، هذه العودة للمكان البكر للشارع القديم لركن أضجَرتَه بفناجين قهوتك كلما دنوت منه أكثريُدثِّرك بروح جديدة كانت مخبأة في مجاهل نفسك وولدت ليوم كهذا تهبك القدرة على احتمال واقع لا يُحتمل ولن يُحتمل إلا بحث الخطى والبحث عن أسرار الجمال.

مقالات ذات علاقة

مصر بعيون طفل العاشرة

المشرف العام

طبرق في قلب باريس

المشرف العام

قصتي مع ترهونة وفندق الطلياني ومكرونة الميساوي

يسري عبدالعزيز

اترك تعليق