
تستيقظ زوجة العقيد باكرًا، تجهز له الحمام، تكوي بذلته الرسمية، تُلمع حذاءه الأسود، تُعد له الإفطار، ترتب ملفاته ودفاتره، تضع مفاتيح سيارته فوقها، تتأكد من وجود قلمه الحبر بجيب سترته، باِنتظام يتناغم مع عقارب الساعة، ضبطت مواعيده..
عليها أن توقظه قبل السادسة صباحًا، يمارس العقيد رياضته، يأخذ دوشه الصباحي، في السابعة يكونان على مائدة الإفطار التي لا تخلو من العسل ، قشدة طبيعية، شرائح الطماطم المغطاة بزيت الزيتون، بيض مسلوق، حليب الماعز، والخبز الأسمر؛ يحرص كثيرًا على العناية بصحته؛ لا يتكلم وهو يأكل إلا للضرورة القصوى.. فتحت الزوجة التليفزيون، استمعا للأخبار معًا، جلست قبالته، نظر إليها، بحسه الأمني، اِلتقط كلمات حُبستْ تحت لسانها، أكملا الإفطار، سألها عن أحوال البيت والأهل، اِعتادت أن تختصر الإجابات، لأنه يكره الثرثرة..
عليه أن يتجهز و يتقيف قبل السابعة والنصف، اتصل بالشرطي المناوب، أعطاه بعض التعليمات، ناولته المعطف، أدار ظهره ليهم بالخروج…
ـ أردتُ الذهاب لمنزل أهلي، هاتفتني أمي ودعتنا سويًا..قالت
ـ ليس اليوم، لا يمكن.
ـ ولكن..!
بنظرته الحادة ألجمها بالصمت..
ـ ناوليني الملفات لو سمحتِ..
هم بالخروج، استدار نحوها كأنه تذكر شيئًا، لمس ذقنها بلطف:
ـ لدي اجتماع بعد الظهر ولن أحضر للغداء، سأرسل السائق ليقلك لبيت أهلك.
رمقته بدهشة جعلته يوشح نظره عنها متلهيًا بالهاتف..
ـ عودي في المساء.
ـ ولكنه 20 من الشهر.. وربما..
ـ ربما لن تزورك الليلة.
وبابتسامة أخفت خلفها ألم، ودّعته وأقفلت الباب..
وقفت خلف نافذة الصالة ترقبه، أشار إلى السائق الذي أسرع ليفتح له باب السيارة، ويتلقى منه الأوامر اليومية..
“يعشق مراد الحياة العسكرية وقد نابني الكثير منها، إنه يعاملني كفرد من أفراد الشرطة، فهو عسكري حين ينادي، وحين يتكلم، وحين يأكل، وحين يتعامل، وحتى حين يضاجع، لا آخذ منه إلا الأمر والنهي، ولا يحب النقاش في كُثرِ الأحوال، ولكنه رغم كل هذا يحبني بإخلاص لم يخذلني ولم يخونني يومًا” …
غادرت السيارة.. ظلت وفاء متسمّرة أمام النافذة، تكللكها إحساس بأنها تقف كمن أقبل على عتبة جديدة، شدها زحام المدينة، رأت جارتها إيمان تقل سيارتها في طريقها للعمل، حصلت هذا العام على ترقية، فأصبحت رئيسًا لقسم التحاليل بالمستشفى الذي عملتا فيه معًا، أحست بوخزٍ في حلقها..
” ليتني لم أتزوج، يالمراد ؟ لماذا يحرمني من أبسط حقوقي؟..تذكرت كلامه لها:
” لستِ بحاجة لعمل.. فما تطلبينه يأتيكِ، وما تشتهينه تأخذينه وزيادة، بقاؤكِ في البيت أفضل وأمن لكِ ولطبيعة عملي”
كيف وافقتُ بلا وعي يوم طلبني، ما الذي جعلني استسلم لشروطه، أهو الحب؟ أم هي ساعة قدر وعميت فيها بصيرتي..؟! ”
أي قدر قذفه في طريقي؟
” كانت أواخر أبريل جلستُ وإيمان في شرفة المستشفى نحتسي قهوة الضُحى، ونرقب المارة، دخلت سيارة الإسعاف تتعقبها سيارة الشرطة..
ـ علها حالة اِغتيال لأحد ضباط المدينة
وقفت لأرى ما يحدث، وبممجانة قالت إيمان:
ـ قد تنباكِ رصاصة طائشة من حفلة الشهيد..!
تم استدعائي لقسم الطوارئ، لقلة عدد الممرضات علاوةً على خبرتي الجيدة في الجراحة، كان المصاب مفجوج الرأس؛ أجلسته على الكرسي، بدأت في تنظيف جرحه وعلاجه، اِقترب مني الضابط وبصيغة الأمر…
ـ عندما تنهي عملكِ أخبرينا، للتحقيق معه.
حملقت فيه بحدة..
توجه بكلامه للمصاب:
ـ ما سبب الخصام؟
ـ يا افندي.. ألا ترى حالة الإرباك التي تنتابه.. إنه مصاب..مصـــــــاب..! أليس في قلوبكم رحمة؟… من فضلك، أخرج حتى أنهي عملي.
أحسست بارتياح المصاب، خيطتُ جرحه، ضمدته، ومسحتُ عرقه..
ـ كنت أقف في الطابور، غش الناس في البنزين، حاولت منعه، هاجمني أقرانه، ضربوني، فجَّ رأسي.
ـ لا عليك.. استرخِ قليلاً حتى لا يعود النزيف.
ـ حسنًا.. أشكركِ.
خرجتُ من الغرفة أشحتُ وجهي عنه عمدًا، كان يقف مع مساعده بجانب الباب، سألني المساعد عن إمكانية اِستجواب المصاب
– ليس قبل ربع الساعة..
مر أسبوع على الحادثة، كانت مناوبتي هذا الأسبوع مسائية، غابت إيمان لظرف طارئ، هاتفتني رُقية رئيسة الممرضات؛ ستأتي لاحتساء القهوة معي، وقفتُ انتظرها أمام باب المعمل، كانت علاقتها بي سطحية كباقي الزميلات، هي مديرة صارمة، جدية في تعاملها، امرأة قيادية صلبة، تتملكها خصال رجولية، راقبتها وهي تعبر الممر نحوي، ابتسمتْ وهي تدنو مني فانقشعت عني غيمة القلق، سحبتني من يدي للقرب من الشباك وهمست..
ـ أحدهم أرسلني لأخطبكِ.
ـ عفوًا !
ـ الضابط مراد حضر هنا مع أحد المصابين في حادثة..
ـ نعم.. نعم .. تذكرت ذاك المتعجرف الثقيل.
حملقتْ في بدهشة..
ـ النقيب مراد رجل لا ترفضه إلا حمقاء أو مجنونة فكري جيدًا، الفرص الثمينة لا تأتي إلا مرة واحدة.
اِبتسمتْ فبرزت ضروس الزمان على وجهها الأسمر، ربتت على خدي بيدها الخشنة وغادرت..
أحسستُ بغبطة في داخلي، لا أنكر أنني أعجبتُ به، لديه جاذبية، تشد لها أي امرأة، فكيف بامرأة عادية مثلي، تعدت الثلاثين، ولا ينجذب لها أحد، سيفوتني قطار العمر، بعد سنوات سأكون تلك الرُقية.. أي نحس يلحق بنا في هذا المجتمع المَقيت.. ينطفئ الوجه، يشيب الشعر، ويهرم الجسد، يجف النهر، تبور الأرض، ويهلك الحرث، يحكم علينا بالإعدام، وننفى خارج خارطة الحياة..
بعد أن رفضت.. خطبني مراد مباشرةً من أبي، وكان سكوتي حياءً؛ علامة رضائي في نظر أبي.. حسب بروتوكول مجتمعنا أصبحتُ بلا إرادة حرم النقيب مراد..”
صوت رنين ساعة الحائط، إنها الثامنة صباحًا، اتصلت لتطمئن، لعله في مكتبه الآن… وقف مراد خلف مكتبه، طالع البريد، جهز أوراق الاجتماع، هم بالجلوس ليطالعها، تصاعد رنين الهاتف…
ـ نعم أنا العقيد مراد.
ـ سيدي سنخرج في مأمورية الآن هل لديك أي تعليمات؟
ـ لا ..فقط توخى الحذر يا ملازم علي.
ـ حاضر سيدي..
كانت زوجته في الانتظار..
ـ وفاء
ـ نعم
أحس بتغيير في نبرتها..
ـ أنتِ بخير؟
ـ نعم
ـ حسناً. سأرسل السائق بعد العاشرة ما رأيك؟
ـ لا بأس
دخل الفَرَّاش بصينية القهوة، شرد مراد في تصرف وفاء، لم تكن على ما يرام منذ البارحة، ربما لأنها في هذا التوقيت من الشهر، أو ربما.. “قسوتُ عليها بلا قصد، إني أحبها، ولكن انطباعاتي العسكرية تغلبني”
ـ هل من أمر آخر سيدي… سأله الفَرّاش
أشار بيده بأن لا..أخرج…
عادتْ وفاء لتكمل أعمالها المنزلية، تعلمت من عِشرتها لمراد الدقة والرتابة، والالتزام والطاعة، إلى أن جاء من قطع حبال تلك الوتيرة…
عندما وصل السائق أمهلته وفاء لساعة، لتكمل إعداد وجبة العشاء قبل الذهاب لمنزل أهلها؛ في الوقت الذي جهز مراد خطته الجديدة في تأمين المدينة وضواحيها، ليعرضها على ضباط وأفراد الأمن في اجتماع افتتحه بصفته المدير الحالي لمديرية الأمن، جلس المجتمعون في صمت، تأهبت الأقلام، فتحت الكاميرات لتوثيق الحدث، ألقى مراد كلماته الأولى كمقدمة للاجتماع..
ـ أيها السادة الحضور.. في الوقت الذي تشهد فيه ليبيا هذه الفوضى الأمنية التي طالت الشرق والغرب، وكان لمدينتنا نصيب كبير منها، لذا قررنا وضع خطة أمنية باقتراحات جديدة وتقنيات عالية الجودة، استعنا فيها بدول صديقة وشقيقة، وبأمر من القيادة العامة في الدولة سيتم تنفيذ هذه الخطة بعد عرضها على حضراتكم هنا..
وزع مساعده ملفات الخطة المقترحة على الحضور.. بدأ في شرحها بالتفصيل… حظت الخطة بإعجاب وقبول، غمرته الغبطة…
كان “السيمافرو” يعج بالسيارات، توقف السائق ينتظر؛ خلف زجاج معتم تراءى لها ما حملته نوافذ السيارات.. أحدهم يتحدث في الهاتف بصوتٍ عالٍ، بعفوية أسمع كل من بالجوار.. امرأة تنظر لساعتها بتأفف.. فتاةٌ تحادث أحدهم خلف أبيها خفية.. طفلٌ يخرج بنصف جسده من النافذة يغني أغنية بلهجته غير المفهومة. تحركت الإشارة تعالى تنبيه سيارتها وانطلقت مسرعة، مرت ببيت فوزي ابن خال زوجها، تذكرت وفاء زيارتهما الأخيرة له، دعاهما لعشاء تعارف بعد عودة عائلته من الخارج، بعد رحلة دراسة لأربع سنوات..
“كنتُ مع سهام زوجته لأساعدها في إعداد قهوة المساء، دخل فوزي وبدأ يمازحها ويمدحها، لاحظتْ سهام انبهاري بهما، جلسنا في الشرفة ارتشفتُ القهوة، سألتني..
بالكاد ابتلعت فضولها مع القهوة..
ـ ماذا تقصدين؟
ـ هل تزوجتما عن قصة حب؟
ـ لا.. ليست قصة هو أحبني وأرادني زوجة، وأنا… وافقت و…
ـ لأنه لا يوجد خيار سواه، أو للهروب من واقع مر لواقع أمر.
ـ نحن في مجتمع فرضت علينا عادات وتقاليد لا يمكننا أن نخالفها..
ـ ليست شرعًا أو قانونًا يُلزمنا، استسلامكن ما جعل هذا المجتمع يبتلع حقوقكن ويهضمها، بالله عليكِ ألم تحني للعمل وللدراسة، للصديقات وجمعتهن، للتسوق مع أخواتك، للتجول بسيارتكِ في شوارع المدينة؛ الزواج الذي يحرمكِ من حقوقك الشخصية ليس زواجًا بل هو سجن لحياتكِ وطموحكِ.
ألجمتني تلك السهام، لم استطع مجاراتها في الحوار، فعلاوةً على كونها مستشارة قانونية وناشطة في حقوق الإنسان، هي على درجة عالية من الوعي والثقافة.
اختنقت أنفاسي، شعرت بصداع في رأسي، طلبتُ من مراد أن نغادر، عدنا للبيت، أخذت دوشًا باردًا، دفنتُ رأسي في الوسادة، طوقتُ جسدي باللحاف، ومن شدة التعب نمت ”
وصلتْ بيت أهلها، وبحفاوة الأشواق استقبلتها أمها، كانتْ قِلما تزورهم، بعد الغداء شعرتْ بتعبٍ يثقلُ جسدها، دخلتْ غرفتها لتأخذ قسطًا من الراحة قبيل عودتها لبيت زوجها، أحستْ بالانتماء لكل ركن فيها، لم تتغير منذ أن تركتها..
فكرتْ في حياتها مع مراد، أربع سنوات تسربت كمياه من تحت قدميها بلاشعور، كانتْ فيها جنديًا مجهولًا تحت إمرة قائده ورهن إشارته، تجول كثور الساقية، بين تنظيف وطهي وغسل وكي وترتيب وتحضير وطباعة أوراق، تتلقى التعليمات بلا هوان ولا اعتراض..
بعد عودته من العمل، اتصل مراد بها، كان هاتفها مقفلًا..
ـ تبًا للكهرباء يبدو أنها قُطعت في حيهم.
أخذ المفاتيح من السائق:
ـ يمكنك الذهاب للراحة، سأتصل بك وقت الحاجة.
ـ حاضر سيدي.
في زحام المدينة غاصت سيارة العقيد، أغلقت بعض الأحياء والشوارع لدواعٍ أمنية، سلك طريقًا أطول يقله لبيت أهلها، من أمام المنزل اتصل بها وطلب منها أن تفتح الباب، استقبلته بوجهٍ غير الوجه الذي كانت عليه في الصباح، نظر لها مستغربًا وبصيغة أمر طلب منها أن تخبر والدتها بأنها ستعود معه الآن للبيت..
وبلهجةٍ متمردة..
ـ لن أعود معك، سأبقى في بيت أهلي.
ـ نعم !
ـ أعتقد أنك سمعتني جيدًا.
ـ ليس هذا وقت مزاح، علينا العودة قبل الغروب.
ـ وهل تعرف أنت المزاح؟ سئمتُ منك، سئمتُ حياتي المملة معك..
جذبها بقوة من ذراعها، كانت هذه المرة الأولى التي يتعامل معها بعنف، لأنها تتحاشى قسوته، وتتهيب من خشونة ردود أفعاله.
بمحض الصدفة سمع أخوها سعد حوارهما، تدخل ليمنع خصامهما..
ـ ما الذي يحدث؟ لماذا تشد ذراعها، هل من مشكلة؟
ـ سل أختك يبدو أنها جُنت.
بنظرة لها شاهد بريق الدمع في عينيها، سعد هو أقرب أخ لها من ثلاثة أخوة وأختين، يصغرها بعام واحد، ويحس دائمًا بها، كأنه توأمها، لا يفضل زوجها كثيرًا كان يحس باضطهاده واستغلاله لها..
ـ ليست على ما يرام، هل لك أن تبقيها هنا الليلة يا صهري، أمضِ أنت وسأتحدث معها.
ـ حسناً هاتفني لأطمئن.
خشية الانزلاق في ضعفها، أشاحت وجهها عنهما.. غادر مراد.. تهيأ سعد للخروج..
ـ سأعود في الليل لنتحدث
هزت رأسها..
دخل مراد البيت، استقبله عبق البخور، والأضواء الخافتة، كل شئ معد كأنها هنا، حمامه، ملابسه، وجبة عشائه، بيجامته، ولحافه.. أحب دقتها ورتابتها، لم تخطل، أو تتوانى في المحافظة على نظام حياتهما، لا يمكن لامرأة أخرى أن تجيد صنيعها.. وبتلك اللمسات التي تركتها في البيت أطفأت لهيب غضبه منها.. في الوقت الذي كانت براكين غضبها تتفجر أمام أخيها سعد وأمها، تكلمت ولاذ الاثنان بالصمت وحين انتهت، قالت والدتها:
ـ لا أعتقد أن ما تشتكين منه يجعلكِ تخربين بيتك بيدك.
ويبدو أن سعدًا لم يقتنع أيضًا بما قالتْ، نظرت إليهما في حسرة، وبصوتٍ متهدج:
ـ يا أمي.. أي بيت أعيش فيه بلا حياة.
ـ ماذا تريدين.. الطلاق ؟
ـ أريد أن أكون إنسانة فقط.
خرج سعد من صمته:
ـ ما تقولينه لن يقنع أحدًا، بالنسبة لنا مادام لم يتعدَّ عليكِ بالضرب أو الشتم ..
ـ أعرفُ أنكم لن تقفوا معي، ولكني قررت الانفصال عنه ولا يهمني رأي أحد.
كان والدها خلف باب غرفة المعيشة يستمع لما تقول، ودخل فجأة عندما بدأت في البكاء، أشار إليهما بأن يخرجا ليتحدث هو معها، ابتسم لها قائلًا:
ـ سمعتُ كل شيء عمدًا وليس بالصدفة. وضع يده على رأسها، مررها على شعرها، جلس بجانبها، وبهدوئه جعل بركانها أقل ثورة..
ـ لا بأس، من حقكِ أن تشتكين وأن تفّرغين همومكِ لنا، ومن حقنا عليكِ أن نسمعكِ ونساندكِ بالعون والنصيحة، لا أرى خطأ واضحاً ارتكبه زوجك ليبرر غضبكِ منه.
ـ ولكنه حرمني من أبسط حقوقي.
ـ مثل؟
ـ منعتُ من عملي، باع سيارتي دون أن يستشيرني وأودع نقودها في حسابي بالبنك، وعندما اعترضتُ قال لي لديك سيارة بسائقها تقلك أينما شئتِ، سيارة بسائقها رهن أوامره لا يمكنني الذهاب لأي مكان إلا هنا، وسائقها جاسوس على تحركاتي، قاطعتُ الأقرباء والأصدقاء بناءً على رغبته.. أصبحت سجينة.. سجينة في عالمه..
ـ ما تقولينه سهلًا ويمكن حله بالتفاهم، هل ناقشته في ذلك؟
ـ لا
ـ تكلمي معه وعلى ضوء الحديث اتخذي قراركِ.
ـ سأفعل ولكن أحتاج دعمك..
ـ أنا معكِ يا بابا..
بعد احتضانه لها، ألقت بجسدها على السرير، نامتْ ولكن بشكلٍ متقطع، استيقظت في السابعة صباحًا، قفزت مذعورة سيتأخر مراد عن عمله، نظرت حولها.. في غرفتها الأولى حيث تنام وتستيقظ بلا حسيب ولا رقيب.. أما مراد كان صباحه مربكًا ومفعمًا بالفوضى في غيابها، سمِع رنين هاتفه، أسرع ليرد، كان مساعده الملازم علي..
ـ سيدي هناك سطو مسلح على سيارة في أحد الأحياء الراقية في المدينة.
ـ تجهزوا أنا قادم..
وقفت وفاء أمام مرآتها، أحست بقوة عميقة في نظراتها، تكللت بالسعادة، ابتسمت…همست…
ـ سأكون حرة.. حرة.
بعد أن أنهت إفطارها اتصلت بمراد، دعته لبيت أبيها للتفاهم..
جلستْ بانتظاره في حديقة البيت، كانت الشمس تميل للمغيب، كست المباني بلونها أحمرارها، تسربت أعمدة الهواء بهدوء، غنت العصافير، عزفت الأشجار سيمفونية تليق بلحظات الرحيل، أقبل مراد عليها، تأهبتْ لمواجهته واقفة..
ـ مساء الخير كيف أنتِ؟
ـ أهلا مراد أنا بخير، دعنا ندخل في الموضوع مباشرةً.
ـ هذا ما أردته.
ـ وما أريد منك سوى حقوقي.
ـ وهي….
بدأتْ بالحديث عن مشكلتها معه، سمعها حتى النهاية، وانفجر ضاحكًا في استهزاء..
ـ مضحكٌ جدًا ما تقولينه.
ـ من فضلك لا تهزأ بي.
ـ أربعة أعوام ولم تشتكِ.
ـ كنت متأملة في تغييرك.
بضحكةٍ استفزتها، رفعتْ سبابتها في وجهه للمرة الأولى…
ـ لن أعود معك حتى تحقق مطالبي وإلا..
قاطعها مبعدًا يدها عن وجهه..
ـ أمهلكِ يومين إن لم تعودي عما في رأسكِ وتعودين للبيت، سيكون تصرفي معكِ عسيرًا.
نزلت عبارته صاعقة عليها حتى أجلستها في مكانها، إلى أن حل الظلام…
انقضتْ مهلة مراد، وفي ليلتها أيقظ القلق مضجعها، تقلبتْ على جمرات الانتظار، تلحفتْ بغطاء الصبر.. تحالفت الأمطار مع حيرة المآقي، غسلتْ بغزارتها أغبرة السنين، انقشعتْ أضبة الظلام، دوت مآذن المدينة معلنة قدوم الفجر، وقفت في محرابها مبتهلةً، تحفها الملائكة، تحملها على أجنحة من نور إلى أعالي السماء، حيث مساكن الأمل ومنازل السكينة..
خارج قوقعتها، سمعتْ حديث أبيها وسعد لأمها، تردد على سمعها اسم مراد، فتحت الباب دنت منهم متسائلة:
_ ما به هل طلقني؟
_ لا يا بنتي ..مراد..!
نظرتْ لأمها فأشاحت بوجهها عنها..
ـ طلبني لبيت الطاعة، من فضلك يا أبي تكلم..
ـ البقاء لله يا ابنتي…!
انتابتها ضحك هيستري…
ـ ماذا تقول يا أبي ..!؟
ـ منذ ثلاثة أيام، أصيب زوجك برصاصة مسمومة في كتفه، أمام البيت، ولاذ غريمه بالفرار، اليوم فجرًا توفي زوجك إثر جرحه..
لطمتْ.. جثتْ على ركبتيّها، أسندها سعد لتقف، ارتمت في أحضان أمها وسط نحيبها.. مر أسبوع العزاء، أقيم له حفل تأبين حضره الجميع، مُنح وسام الشرف ورتبة العميد، علا صوت تصفيقهم، جلستْ حبيسة بيته، تراقب في حسرةٍ عن بعد، تتربص أيام عدتها..
” أي قدر يجعلنا نقف خلفهم، تُـثمن أعمالهم وتُبخس متاعبنا معهم، أي عرفٍ جعلني أخاف التوكؤ على ظل الحائط، وجزَّ بي في عتمة ظل العظيم، لا أُذكر حيث يذكر ولا أُشكر حيث يشكر…!