الطيوب | ستطلاع: رامز النويصري
بداية أستعير من مشاركة الشاعرة ليلى النيهوم، قولها: في مقال عن سردية الشاعر قال كاتبها إنه يستلذ قراءة روايات الشعراء ففي سردهم طعم مختلف وبه ضوء.
مثل هذه الإشارات وغيرها، سمعناها وقرأناها كثيرا، في التعليق عن الروايات التي كتبها شعراء، والذين عددهم بدأ في تزايد، عربياً وفي تجربتنا الليبية أيضاً، حيث الكثير من الشعراء دخلوا تجربة كتابة الرواية، والأمر يرجع إلى ثمانينيات القرن المنصرم، وحتى اللحظة تكون كم جيد جداً من هذه الأعمال، وهي مادة جيدة للدراسة والبحث!
من هذا المنطلق، طرحنا سؤالنا -المركب- من خلال هذه الاستطلاع، والذي كان:
السؤال: كيف تفسر علاقة الشاعر بالرواية؟ وما الذي يجده الشاعر في الرواية حتى يمارس كتابتها؟ وقد تحبسه عن الشعر؟
والقصد، محاولة للاقتراب من هذه التجارب، والتعرف إلى أسباب الدخول هذه التجارب، وما وجده الشعراء في الرواية من عوالم، وما مكنته من أبواب لدخولها، وفي ذات الوقت محاولة لتقييم هذه التجربة.
وأزعم إننا عبر هذا الاستطلاع، نجحنا بنسبة كبيرة!
الرواية زواج شرعي بين النثر والشعر
سالم العوكلي
كل ما يمكن قوله، أن الشعر العربي كان على مدى قرون اختصاص أصيل، وكان الشاعر غالبا يمثل مؤسسة إعلامية في زمن لم تكن فيه مثل هذه المؤسسات، واستمر التعامل مع الشعر كحرفة لفترة طويلة، وأنا هنا أعني تاريخ القصيدة العمودية، التي غالباً شاعرها لا يقرأ أو يسمع إلا شعرا، ولا يكتب أو يقول إلا شعراً.
لكن مع منتصف القرن العشرين، وحين بدأت تجارب تحديث الشعر العربي تبحث عن حساسية جديدة، وشكل وخطاب مختلف للقصيدة، التي بدأ ينبري لها شعراء مثقفون لا يكتفون بالإطلاع على الشعر، ولكن كل صنوف الكتابة والمعرفة يمكن أن نلمس منذ هذه الفترة تشعب اهتمامات الشعراء الكتابية، فكتبوا في النقد والتنظير الشعري وفي الفكر والفلسفة، وكتبوا المسرح والمسلسلات الدرامية وسيناريوهات الأفلام وغيرها. وأصبح الشاعر بما يملكه من حساسية جمالية واطلاع ومخيلة، ذخيرة يمكن أن ترفد كل هذه الفنون.
أعتقد أن الأمر متعلق بالحداثة الشعرية، التي جعلت الشاعر في قلب كل الفنون التخييلية، ومراجعة سير شعراء الحداثة وما بعدها، سيؤكد لنا هذا النزوع لديهم للمغامرة في حقول كتابية أخرى، أهمها الرواية التي تجمعها بكتابة القصائد شحنة الشعرية التي تزيد من ثرائها. يقول ماركيز الذي كتب رواية (مائة عام من العزلة) كملحمة شعرية: الرواية زواج شرعي بين النثر والشعر .
ربما تصبح الملكة الشعرية إضافة للغة الرواية
رزان نعيم المغربي
المبدع المتمكن من عدة أدوات يستطيع التنقل بين الأجناس الفنية بسهولة ويسر، وتحدث هذه الحالة في وقت مبكر على الأغلب، أثناء مرحلة أكتشاف ذاته المبدعة، وهنا لا أستثني الانتقال بين الكتابة وممارسة الفن (تشكيل ومسرح وحتى الإخراج السينمائي). حدث ذلك على مر التاريخ في العالم ، والمبدع ينتمي أولاً للأسرة الفنية، وينهل من مختلف المعارف والثقافات يؤثر ويتأثر.
واستطيع أن أتفهم مغزى السؤال المطروح هنا، بالتلميح أن تحول الشاعر إلى روائي صار ظاهرة ملفتة، وبعيداً عن التكوين الأول وتلمس الأدوات التي تمكنه من تقديم نفسه وتحقق.، توجد عدة أسباب، الآراء تذهب باتجاه أن معظم الشعراء هم من يكتبون قصيدة النثر التي لا تحدث تفاعلا واسعاً مع جمهور المتلقي في مجتمعاتنا العربية، التي تتلمذت وما تزال على مناهج دراسية مازلت تجبر الطلبة على حفظ المعلقات السبع، ولا تعترف بتطور القصيدة الشعرية. مما يدعو الجميع للتجريب في جنس إبداعي صار له مريدين وتم تأسيس جوائز مالية ذات مردود مالي عالي تشجعه على كتابة الرواية وهذا يعتبر سبب للبعض.
إنما لو فكرنا بحسن نية بعيداً عن الدوافع الخارجية التي ذكرتها، هناك كتاب كتبوا الشعر والنثر في أبسط صوره، أو دخلوا باب السرد من بابه الواسع رفقة القصيدة. بعضهم يستمر، وبعضهم يجد نجاحاً في الأعمال الروائية .
وبالعودة مرة ثانية لما يعتقد أنه ظاهرة، لدي ملاحظة شخصية أن الشعراء الذين صدرت لهم عدد كبير من الدواوين وأقيمت لهم الأمسيات الشعرية، معظمهم له علاقة بحقل الصحافة، مما يجعلهم على احتكاك مباشر بقيمة الحكاية والخبر، والتفاعل الإنساني الأقرب إلى الواقع، ويدفعهم إلى إعادة إنتاج الواقع فنياً والجنس الأقرب هو الرواية.
السؤال حول أن الرواية تحبس ملكة الشعر؟ لا أعتقد، بل ربما تصبح الملكة الشعرية إضافة للغة الرواية، رغم أن الشعر هو الصورة الاستعارية والجملة المكثفة، والرواية تعتمد التصريح والنفس الطويل على السرد مع تقنيات فنية لابد من إجادتها ولا يكفي أن نقول على مجموعة حكايات رواية !! لأنها تقوم على كيف تروي تلك الحكاية، تمتلك أسلوبك الخاص ، أن تنتصر للفن ولذائقته الجمالية في النهاية.
كتابتي للرواية بعد الشعر كالعودة للأصل
عائشة أحمد بازامة
أرى أن الأحداث إذا تزاحمت وتبدلت بفعل متغيرات مؤثرة في الحياة الاعتيادية السائرة، أو تم استدعاء الذاكرة لبعض حوادث التاريخ أو الذكريات الشخصية أو البيئية أو المجتمعية والتي غابت عن الشاعر قد تستهويه أكثر مما يلهمه شيطان الشعر بالكتابة، كما أن جاذبية السرد هي ملكة وموهبة فإن امتلكها الشاعر فقد تناديه في لحظة ما ليشبع هذه الغاية ولا وسيلة له في ذلك إلاّ أن يسطر بحروفه رواية ما لحدث ما.
لذا تنشأ علاقة الشاعر بالرواية من خلال أدواته المهيأة ليلج السرد والذي يعتمد فيه كثيراً على حالة القصيدة وما تحويه من تناغم روحي مع الحدث. الرواية سرد الحدث والقصيدة الإحساس بالحدث، ومن تجربتي فقد كانت قراءتي الأولى في مقتبل عمري صوب الرواية وتتلمذت على يديها في امتشاق عالم وسحر الشعر، لهذا كانت كتابتي للرواية بعد الشعر كالعودة للأصل والحنين لما فات واستعادة طريق الإبداع .
يجد الشاعر براح السرد الحر ونبش الأحداث بما يحويه الزمان والمكان والشخوص للرواية مشهدية تختلف عن الهام الشعر ونبوءاته .الرواية تأخذ منه حيزاً للحكي . لكن الشعر حيزه الحس الذي لا يبين لكنه يكتشفه بعد حين من خلف سطوره. الشعر مرآة الشاعر والرواية مرآة حدث ما في مكان ما وزمان ما!
لن تتجرأ الرواية على حبس شاعر مهووس بوحي الشعر بل قد تساعد إلهامه في الانجرار إلى خلق مزيد من الإحساس بدفقة فكرة معينة توحي له بها كتابته لحدث أو جملة في رواية قد كتبها. وفي المجمل فإن من ينجحون في كتابة الرواية والشعر هم من يمتلكون ملكة هذه الموهبة وهي ما نسميها الموهبة الشاملة للآدب. للرواية لحظاتها وللشعر وقته. لا يؤثر كتابة أحدهما على الآخر سلباً وهذا تعلمته من تجربتي الشخصية.
هذا ينفي أن الرواية أشد رهبة وأكثر شدًّا للكاتب
عبدالسلام سنان
لعله من نافلةِ القول، بأن الشاعر هو كاتب في الأصل، والعكس قد يكون الروائي بعيدا عن الشعر، ولنا أن نؤيد القول بأن صياغة الشِعر هي أصعب وأمتع في نفس الوقت، وربما تحتاج القصيدة الشعرية سواء النثرية التي أهواها وتشدّني أو شعر التفعيلة المقفاة تحتاج إلى عصفٍ ذهني محدود الزمن، ضعف ما تحتاجه الرواية، التي قد تستهلك شهورا وربما أكثر كي تنضج، وهذا ينفي أن الرواية أشد رهبة وأكثر شدًّا للكاتب، أما النص الشعري فهو مقيد بحالةٍ وجدانية وعاطفية لها حيّزٌ زماني مقيد.
وأقول أيضا أن العلاقة التواصلية الشعرية، هي الصبغة التي قد تؤدي إلى احتدام السرد وتنامي الحبكة الروائية التي تؤثّثُ لبناء فكرة قد تصنع نقلة مثالية تشد بقوة عناصر نشوء الأحداث الزمكانية والتي هي بوصلة الكاتب التي تقوده إلى ما يصبو إليه ليشد القارئ بصدمة جمالية تفوق في حدّتها الإبهار والإعجاز والإسقاط في بناء السرد الشعري وذاك تحولاً لا يستسيغه النقاد الصامدون وراء جُدُر البنائية التراكمية الكلاسيكية التقليدية وربّما قد نجد لهم عذرا دون أن نتغاضى عن الرؤى الشعرية الساحرة تلك الأخيلية التي تنساب أبعادها الفلسفية إلى خيال القارئ حيث أنها تسطع في بساطة الحوارية وكثافة اللغة الجديدة وهي بدورها تقيم عتباتٍ دالة على نشوء الوعي الشعري الذي أراه من الأهمية بمكان أن يمكّن الشاعر من صهوة جواد الرواية دون المساس بالشاعرية ودون أن تحبسه عن الشعر بل يوظف شاعريته في بناء تراكمي لرواية شعرية هي محط أنظار زبانية الرواية وملوكها في الشرق والغرب وآخرها رواية (تغريبة القافر) لزهران القاسمي من سلطنة عمان رواية شاعرية مائية بامتياز .. الرواية حاصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية.
أهمية المكانة الأدبية هل هي للشّعر أم للرّواية؟
عزة رجب
من الصّعب البحث عن المصطلح المناسب لهذه العلاقة (التواليدية) لأنّ تفسير هذه العلاقة يبدأ بالإجابة أولاً عن أهمية المكانة الأدبية هل هي للشّعر أم للرّواية؟ تقول النّظريات القديمة بأنّ الشعر جاء قبل الرواية، وفقد أهميته عندما بدأ عصر التكنولوجيا والثورات الصّناعية التي رأت بأنّ الشعر لا يقدم شيئاً في ظل تطوُّرات العصر، وأنّ الرواية أخذت في يدها مفتاح التّعريف بالحياة، والتحامها بحياة البشر، فأصبح موضوعها هو موضوعنا، وكانت رواية (دون كيخوت) بداية انطلاق المفاهيم البحثة الدلالية عن تحديد مدى تأثير هذا الجنس في حياتنا.
لكنّ ثمة من يقول: (أنّ الشعر هو روح المعرفة الشّفيفة والتّعبير العاطفي المرسم على وجه كل العلوم)، وقال (شلي) (إن الشعر شيء إلهي، وهو مركز المعرفة ومحيطها، إنه ذاك الذي يشتمل على العلم كله، والذي يرد إليه كل العلم، إنه في الوقت ذاته جذر الفكر وبرعمه).
هذا يعني أنّ تفسير هذه العلاقة نابع من تواجدية الشعر كمعنى دال على المعرفة الشّفافة للوجود، وأنّ الرواية هي من تقودنا إلى فهم هذه الدّوال المعرفية، لاستنباط الوجود وفهم عوالمه وذواتنا.
مالذي يجده الشاعر في الرّواية حتى يكتبها وتحبسه عن الشّعر؟
شخصياً لم أكن أبحث عن الرّواية لأكتبها، أعتقد أنها قادتني إليها، وليست لديّ رغبة في الابتعاد عن عوالم الشّعر بسبب الرّواية، وإن كنتُ أرى أنّ عوالم السّرد تستنزف القوى الشّعرية.
لنعترف أنّ الرّواية أضعفت من روح الشّعر بشكلٍ عام، وجعلته كمن يبدو في درجةٍ ثانية، ولعل أحد الأسباب التي قادتْ الشاعر إلى الرواية هو التكرار والتآلف في مواضيع الشّعر، و التّشابه في طريقة التّناول خاصة في الشّعر القديم، كما أنّ الشعر لا يتيح المساحة التي تتيحها الرّواية في الكتابة، فهو يقع ضمن معايير ومحاذير لا يمكن تجاوز نطاقها بعكس ما تمنحه الرواية من عوالم شاسعة لا فضاء يحدّها ولا بحور شعر تحاصرها، هذا قد يحبس الشّاعر عن كتابة الشّعر وقد يكون سبباً في هجره للكتابة الشّعرية التي يراها رصداً دقيقاً للحظات الحياة وصورة صادقة لتفسير معطياتها .
الشاعر في ظني يملك العدسة الأكثر دقة
ليلى النيهوم
قد تصبح القصيدة في لحظة فارقة أصغر من أن تحتمل رغبة شاعر في القول المستفيض، تداهمه أزمان صاخبة تحتاج سرد متواتر دقيق أوسع مزيداً من قصيدة النثر مثلاً برغم كل براحاتها و لا حدوديتها. . سيأخذه سردها من الشعر لأنها ستستنفذ مخزون شعريته و قد يضيع في عوالمها الواسعة ولن يعرف سبيل العودة إلى ومضية الشعر وقد يمل سرديتها فلا يكملها، و ستجد روايته حال إنجزها مرغوبة لمن يستعذب لغة الشعراء فلديهم مخيلة فوتوغرافية لغوية واسعة القواميس و ذربة التعابير. و لنستدرك القول إن الروائي أيضاً لديه هذه الملكات وهذه الفوتوغرافية الحادة في تصور العالم و تدبيجه حبر على أوراق روائية أيضاً، غير أن الشاعر في ظني يملك العدسة الأكثر دقة، عدسة المايكرو التي تخترق اللغة حتى عمقها التفصيلي، ثم نظرة الشاعر وشعرية فلسفته الحياتية ستنسبغ على السرد تماماً. في مقال عن سردية الشاعر قال كاتبها إنه يستلذ قراءة روايات الشعراء ففي سردهم طعم مختلف وبه ضوء.
أغلب الشعراء الذين تحوّلوا إلى كتابة الرواية فعلوا ذلك متأخّراً
عبدالحفيظ العابد
لم تعد الحدود صارمة بين الشعر والرواية، فقد شهدنا في ضوء انزياحها تداخلاً بين الشعر والسرد منشؤه رغبة ملحاحة عند الشاعر في التخلّص من أحادية الصوت والغنائية الفجّة وكتابة قصيدة لا يقول الشاعر فيها أنا هروباً من مأزق القراءة الذي ظلّ ومازال في كثير من الأحيان يماثل بين الأنا الشعري والأنا الاجتماعي، أي بين الذات الشاعرة والذات الاجتماعية، ومن ثم يبحث الشاعر عن نوع يتيح له أن يقدّم رؤاه المعرفية والفكرية دون أن يكون حاضراً على نحو مباشر في ذهن القارئ، ومن غير أن تُسند الأقوال إليه مباشرة، لهذا يجد الشاعر في الرواية براحاً ليقول ما يشاء متقنّعاً بالسارد أو إحدى الشخصيّات الرئيسة، هذا التقنّع مغوٍ وهو ما يدف الشاعر إلى كتابة قصيدة مخضعها لبعض شروط السرد، أو التحوّل إلى كتابة الرواية التي تهبه إمكانية التقنّع والكتابة بلغة شعرية في الآن ذاته، ينضاف إلى كلّ ما ذكر وهو ما يمكن أن نعدّه سبباً للتحوّل إلى كتابة الرواية أن الرواية تسمح لكاتبها أن يقدّم خطاباً معرفيّاً وأن يعرض رؤيته في الوجود والحياة عبر أصوات متعدّدة لا تحيل عليه بشكل مباشر.
ولهذا يمكن أن نرد بعض أسباب التحوّل إلى كتابة الرواية إلى طبيعة الخطاب الشعري والخطاب الروائي، يبدأ الإنسان شاعراً لأنّ جذوة الشعر تنقدح مبكّراً يغذّيها زيت تجربة ذاتية، وكلما تقدّم الإنسان في المعرفة وصارت له رؤاه الخاصة في القضايا الكبرى وجد الشعر بشروطه القديمة لا يتسع لخطابه المعرفي، ولهذا أغلب الشعراء الذين تحوّلوا إلى كتابة الرواية فعلوا ذلك متأخّراً.
المجد للرواية على كلّ حال
يوسف إبراهيم

كلاهما عمل إبداعيّ، وجوهر الإبداع هو الاختيار، فيختار الكاتبُ المتمكّن من الجنسين أحدهما ليقدّم من خلاله فكرة طرأت على عالمه المليء بالأفكار حدّ التشوّش أو ليعبّر عن لحظة وجدانيّة حرّكت بركة من بِرك مشاعر راكدة.
وقد يكون الشاعر روائيّاً دون أن ندري؛ ذلك أنّه يتمكّن بسهولة من نشر نصّ شعريّ في صحيفة أو قد يحظى بفرصة لإلقاء نصّ في أمسيّة فيُعرف كشاعر ويلتصق به هذا الوشم، في ذات الوقت الّذي يكون فيه مكابداً لكتابة رواية لم تكتمل أو رواية لم يجد لها ناشراً أو رواية فيها ما يكشف مجتمعه عارياً أو ما يُصادم السلطة فلا يجرؤ على نشرها؛ فيبدو الأمر للمؤرّخ أنّ تحوّلاً حدث من الشعر إلى الرواية غير أن العكس قد يكون هو الصحيح.
الرواية تحدّ، هي تحدّ في خلق عالمها وتحدّ في بناء شخصيّاتها وتحدّ في حبكة أحداثها وتحدّ في زمن كتابتها وتحدّ في الانضباط أثناء كتابتها وتحدّ في سفورها وفضيحتها. الرواية عمل عملاق يشبه الوظيفة اليوميّة المنتظمة المرّة بروتينها والحلوة بثمرتها، والقصيدة لا تعدو كونها قيام الموظَّف بمسح نظّارته ليستأنف العمل.
والشعر وقدة، وقدة في الشعور ولمحة في الفكر ولحظة في الكتابة، وعالمه هو عالم كاتبه الأليف، وشخصيّته الرئيسة الوحيدة هي الشاعر ذاته، والشعر دفقات قد لا تحتاج إلى ترتيب ولا تشابك منطقيّ، وقد تُكتب قصيدة في دقائق معدودات، وقد لا تُكتب أصلاً دون أن يكون لذلك أيّ أثر، فضلاً عن أنّ النصّ الشعريّ لغز في حدّ ذاته قد يستعصي عن الحل ولا يُفصح ولا يَفضح إلّا في ما ندر.
والمجد للرواية على كلّ حال؛ لكونها فنّا إمبرياليّاً يستحوذ على الأجناس الأخرى فتجد في الرواية القصيدة والأقصوصة بل والمسرحيّة، ولكونها مرآةً للقارئ الساذج –وهو الغالب الأعمّ- يرى فيها نفسه ومجتمعه، ويرى الشاعرَ في القصيدة، فيُقبل –إن أقبل- على الرواية لأنّه يرى فيها نفسه ومَن حوله، ويُعرض عن القصيدة لأنّه لا يراها –بسبب سطحيّته- إلّا انعكاساً لقائلها جهلاً منه أنّ جوهره وجوهر الشاعر واحد هو الإنسانيّة، لا البهيميّة الّتي يتبنّاها.