أحلام محمد الكميشي
(إن من أعاد لروحي بعض سلامها هذا المساء قادر أن يعيد ليبيا من غيابات الجب).. عبارة متفائلة ختم بها “جمال الزائدي” إحدى حكاياته الخمسين في (هدرزة قهاوي) التي تمثل ما التقطه من مشاهد وأحداث كان شخصيًا أحد رموزها أو شاركه فيها آخرون أو استأثروا بها دونه لكن قلمه لم يغفل توثيقها لعل القارئ يتعرف على طرابلس وأبو سليم بما فيهما من مقاهي وطرق ومواصلات وأماكن عامة وبشر تتقاسمهم طرقاتهما وبيوتهما والمقاهي، تعرفًا يلقيه داخل هذه المنظومة الاجتماعية الثقافية البسيطة غير المنمقة بأقلام بعض المؤرخين الذين يستهويهم القادة والأحداث الكبيرة فيسبغون عليها تاريخًا فوق التاريخ.
قلم “الزائدي” كان مختلفًا إذ قرر الاصطفاف مع العامة وتتبع همومهم واهتماماتهم وحواراتهم، كان قلمًا شعبيًا سرد لقرائه حكايات الأفيكو وسيلة التنقل الشعبية والأتوبيسات واستخلص الفروقات بين ركاب هذه وتلك رغم أنهم جميعًا من ذات الشريحة الاجتماعية ومن طبقة البسطاء، ثم استكمل الحكايات في (هدرزة قهاوي) لتكون كتبه الثلاثة بمثابة مجموعة واحدة تؤرخ لمن لا يكتب عنهم التاريخ عادةً، لكن الأدب في صورتيه القصة والرواية يحتفي بهم أيما احتفاء، وبرأيي أن ما يجعل الأدب يختلف عن التاريخ هو أنه يغوص في التفاصيل وينقلك إلى عمق المشهد حتى تكون أحد شخوصه ويتحدث نيابة عنك ببعض أو كل ما دار في نفسك في مواقف مشابهة لما يقدمه لك وكأنه مرآة تعكس أمامك ما فاتك أن تتوقف عنده.
في (أفيكوات) و(أتوبيسات) يوثق “الزائدي” لأماكن متعددة تمثل خط سير المركبة ومحطات الصعود والنزول والركاب بهيئاتهم وملابسهم وطباعهم ومشترياتهم وسلوكياتهم المتباينة خلال انضمامهم لمجتمع الأفيكو أو الأوتوبيس محل الحكاية، ومن خلال حواراتهم الهادئة أو الهادرة، خفيضة الصوت حد الهمس أو المرتفعة حد الشجار، يقدم مشاهد لحركة الناس التي هي محور حركة التاريخ، ومشهدية عامة للأحداث التي تمر بها البلاد فتترك بصماتها على حوارات الركاب والأماكن التي يقصدونها وتقييم كل منهم لرحلته اليومية، دون أن ينسى تسجيل ما يمر به في طريقه من البيت للانضمام لمجتمع المركبة التي يختارها ثم العودة، وفي (هدرزة قهاوي) يأخذنا معه في جولات بشوارع طرابلس الرئيسية وصولا لميدان الشهداء وقوس ماركوس حيث يتنقل التاريخ بين حقبة وأخرى تاركًا ورائه ما يرشدنا إليه، ويستأثر ميدان الجزائر ومقهى الأورورا بالذكر في حكايات الهدرزة وتحضر رياضة المشي بدل الركوب ومشهدية المقهى أكثر من الطريق، والاستقرار في مكان ثابت بدل الجلوس على مقعد مركبة تستقبل وتودع ركابها ولا تتوقف عن السير طول اليوم.
لعل ما ينقص مسؤولينا أن يجربوا الجلوس على مقاعد أفيكوات وأوتوبيسات “الزائدي” ويحتسوا نفس القهوة من مقاهيه ليتعرفوا على ليبيا التي لا يعرفونها أو التي نسوها بعد الجلوس على الكرسي، حيث تزخر طرابلس بالمقاهي وتتنوع فيها القهوة كما لا يوجد في غيرها من بلدان العالم، وتتعدى المقاهي أن تكون مكانًا للجلوس وتمضية الوقت إلى كونها نوادي اجتماعية وثقافية وحتى سياسية، ومؤخرًا اتخذها كثيرون بديلا عن المربوعة وحجرة الجلوس لاستقبال الضيوف في بلد كانت تعد الجلوس في المقهى قبل عقود دليلا على الفراغ ومجلبة للوم الكبار.
ما يميز ثلاثية “الزائدي” استخدامه مفردات بسيطة للتعبير يمكن للبسطاء الذين يتحدث عنهم قراءتها والتفاعل معها، وعبر هذه المفردات يوصل رسائل لا يخطئ ذهن القارئ المهتم بالتركيز فيما بين السطور والكلمات تلقيها وهو يتجول مع المؤلف في أزقة المجتمع المهمشة في كل ظروف الطقس، حيث يركض البسطاء من الصباح للمساء في الميدان المسموح به للركض بمختلف السرعات حتى ينتهي وقت كل منهم فيغادر الملعب فيما يدخل آخرون، هذا الركض لا ينتبه لتوثيقه إلا قلة خرجوا من رحمه وخبروا قسوته وتعفروا بترابه واستنشقوا غباره، يمكن أن يكتب أي كان على عدد الإنجازات في أي من الشوارع التي تعبرها أفيكوات وأتوبيسات “الزائدي” ويمكن لكاميرات الهواتف النقالة أن تلتقط آلاف الصور للعابرين والمركبات واللافتات ودوريات الأمن والمستشفيات والمحلات التجارية والأسواق….. الخ، لكن حديث النظرات وهمسات الشفاه والأنفاس والزفرات وحتى الضحكات والدموع والحزن الذي تفضحه العيون والخطوات السريعة أو البطيئة بقدمين أو مع عكاز أو بكرسي متحرك، واللهاث وراء لقمة أو دواء أو دينار في آلة سحب مصرفية أو دكان صرافة أو بطيخة أحرقتها الشمس على قارعة الطريق قبل أن تتحول لعشاء باذخ في بيت مواطن فقير نقلها لبيته في أوتوبيس، أو قطعة ملابس ينادي عليها الباعة في سوق شعبي يأتيها صاحب النصيب وهو يتحسس جيبه المثقوب راكبًا في أفيكو تمر على أشهر محلات العاصمة التي تبيع أغلى الماركات.. كل ذلك اجتهد قلم “الزائدي” في تدوينه وهو يحتسي كوب قهوته على كرسي في زاوية هذا المقهى أو ذاك، وقيمة هذا التدوين ربما لن تكون كبيرة اليوم وغالبية الليبيين يعيشون نفس الظروف، لكنها ستغدو مصدرًا مهمًا لدراسة المجتمع وكيف عاش المواطن في هذه الحقبة وكيف تعاطى مع الأحداث المحلية والدولية من كرسيه في أفيكو أو أوتوبيس أو مقهى، وكيف كان يقرأ يومياته وكيف كان يحلم بالتغيير وهو ينتظر ما في الغيب بتسليم مطلق.