الطيوب : استطلاع / مهنّد سليمان
صرنا خلال العقود الأخيرة نشهد تناقصا كبيرا وتراجعا ملحوظا في عدد المكتبات الخاصة فالكثير منهما إما أغلق بالكامل أو تغيّر نشاطها التجاري، وفي مقابل ذلك اختفت تماما المكتبات العامة والمراكز الثقافية فلم نعد نرى ولو مصادفة أية مكتبة عامة ولو كانت صغيرة أو محدودة لاسيما في المدن الكبرى كطرابلس وبنغازي وسبها حتى بعض ما تبق من المراكز الثقافية ظل عُرضةً للنهب والسرقة، وفي أفضل الأحوال للاهمال وملاذ مريح للعناكب والحشرات، ولعل بواكير هذا الغياب أو لنقل التغييب ارتبط بشكل مباشر بسياسات النظام السابق البوليسية الذي كان لديه توجس مزمن من اجتماع الأفراد داخل الأماكن والفضاءات المفتوحة ليتخذ إجراءات تعسفية طالت المقاهي والمطاعم وصولا للمكتبة العامة والمراكز والمنتديات الثقافية فترسخت لدى شرائح واسعة من الليبيين والليبيات ثقافة اللامبالاة تزامنا مع تفشي ثقافة الاستهلاك التي أدت ولازالت تؤدي إلى حالة شرسة من الهوس بجمع الأموال بأية وسيلة كانت، وبالتالي لاغرو في ألا يحتل الكتاب نفسه المنزلة المُثلى حتى بين أوساط المتعلمين وخريجي الجامعات والمعاهد العليا اللذين نشأوا على استسهال كل شيء والاستهانة بالقيم العليا بينما تمارس الأجهزة والمؤسسات التابعة للدولة دور المتفرج الأصم والأعمى، ما حذا بنا عبر هذا الاستطلاع للإضاءة على آراء نخبة من الكتّاب والناشرين والوقوف على وجهات نظرهم.
الإنترنت جعل الناس تعزف عن المطالعة
سراج الدين سالم بطيخ : مدير دار السراج للنشر والتوزيع
حيث يُعزي الناشر الليبي الشاب “سراج الدين سالم بطيخ ” غياب المكتبات العامة إلى جملة من الأسباب أولها عدم إهتمام الجهات المسؤولة عن هذا القطاع، وسوء وزارة الثقافة والمدارس والجامعات والمعاهد، وعدم إهتمام أفراد المجتمع والطلبة بالمطالعة والتثقيف وغياب مادة المطالعة في المدارس كل ذلك في رأيي بطيخ جعل من المكتبات شيئ ليس ذو أهمية لدى الكثير من الطلبة مؤكدا بأن للظروف الاقتصادية والاجتماعية دور في هذا التراجع، ولكن ليس بالمطلق فالقراءة والمطالعة وحب المعرفة شيء يُربّى في نفوس النشء من الصغر فحب الكتاب يترسخ منذ المراحل الأولى للتربية والرعاية، ويتطور مع الطفل في مراحل حياته وليس هناك شك في أن للظروف الاقتصادية دور في التخفيف من إمكانية إقتناء الكتاب، ولكن هذا لا يلغي أهميته مهما كانت الظروف. والمجتمع ساهم إلى ما وصل إليه المشهد الثقافي والحركة الثقافية، كون أن الناس تتوهم بأن الإنترنت أصبح هو النافدة الثقافية المطلقة وفي نظري الإنترنت لم يقدم الكثير بل جعل الناس تعزف عن مطالعة الكتب، وتظل القيمة الفكرية المتحصل عليها من الكتاب لا تضاهيها قيمة أخرى من جهة أخرى يشير بطيخ إلى أن إهمال وجود المكتبات ودعم القائم منها جعل عدم رؤية الناس للكتب أمر مألوف، وبالتالي غيب الشغف والمنافسة على القراءة وإقتناء العناوين الجديدة، ومع مرور السنين أصبحت عادة عدم القراءة أمرا معتادا ويُنظر إليه بأنه شيء غير مهم.
المكتبات العامة ..مكانة ..غياب وتأثير
فهيمة الشريف : قاصة
فيما تشير القاصة الشابة “فهيمة الشريف” إلى أن المكتبات العامة تلعب دورا هاما ورئيسا في ثقافة الفرد والمجتمع ..فهي الواجهة الثقافية للبلدان ،ومنها تكتسب الشعوب معارفها ،وتوسع بالكتاب مداركها وتتعرف من خلالها على ثقافات الشعوب من حولها ،وما جرى من أحداث سياسية وتاريخية وآداب الحقب الماضية التي تم حفظها في وثائق ومخطوطات واكتنزتها أرفف المكتبات كالدرر المكنونة ويتوارثها الجيل بعد الجيل، وليبيا كأي بلد لايخلو من المثقفين ومحبي القراءة ورواد المكتبات العامة والتجارية منها ..فالمكتبات العامة نراها تحتل مكانة مهمة في المجتمع الليبي منذ تولي الحكم العثماني زمام الأمر والحكم ،حيث نجد هذه المكتبات في المساجد والزوايا ،حاوية على الوثائق والمخطوطات الدينية والأدبية والتاريخية والسير ..وفي حقبة الغزو الإيطالي حافظت ثلة من المفكرين والمثقفين على وجود مكتبة الأوقاف العامة حتى أربعينيات القرن الماضي كما كان الكتاب يباع ويشترى جديدا ومستعملا في الأسواق الشعبية بأسعار زهيدة ،وتهافت القراء عليه في الستينيات ومابعدها شجع على وجود بعض المكتبات كمكتبة بنغازي العامة والمكتبة الحكومية ،وكان رافد المكتبات هو الكتاب العربي والصحف والمجلات العربية والعالمية مضيفة بالقول : شهدت المدارس وطلابها فترة تثقيفية مكثفة من خلال إنشاء مكتبات فيها كتب متنوعة ،وقد تم إدراجها في البرنامج الدراسي مما خلق جيلا مثقفا نهما للكتاب وسعة الإطلاع ..هذا النشاط الذي يعزز في نفس الفرد قيمته ويربطه بحب القراءة والمعرفة منذ سن النشء ،ويفتح أمامه آفاق الإبداع..هذا النشاط الذي افتقدناه منذ سنوات القذافي حيث نلاحظ اختفاء معظم المكتبات العامة وفق سياسة ممنهجة ،إذ تم دمج بعض المكتبات في وحدة تنتمي لسلطة الدولة ،وممارسة سلطة الرقابة على الكتب وتقنينها ،مما جعل الكتب ومريديها يلجأوون إلى عملية التهريب ،واقتصرت المكتبات العامة على الكتب المختصة والأبحاث والدراسات العلمية والأكاديمية ويرتادها طلاب الدراسات العليا كما هو الحال نلمحه في هذه السنوات من بعد ثورة فبراير هي قلة من المكتبات العامة تنحسر أرففها على أمهات الكتب .
ومع انتشار المكتبات التجارية الخاصة ،وارتفاع تكلفة الكتب وتناقص افتقار الفرد لروح القراءة منذ الصغر ،وتعدد سبل التواصل والمعرفة والابتكار أصبح الكتاب وسيلة ثانوية قد يستغنى عنها للمعرفة ،وقد يستخدم لقطع الملل ..هي القلة التي ترتاد المكتبات لتلحق بكل ماهو جديد ..وتلاقي أنسها ومتعتها في صحبة الكتاب ..أولئك فقط من يبحثون بين الأرفف عن صداقات فكرية واسعة ،ويقتطعون من وقتهم وأموالهم الكثير للحصول عليه لعلنا لانستطيع حصر محبي القراءة خصوصا من فضل الوصول إلى الكتاب بطريق أيسر وسريع من خلال الشبكة العنكبوتية ورقمنة الكتب جعل مرتادي المكتبات يتقلص ،ويجد بعض أصحاب هذه المكتبات أن لامعنى لوجودهم ..والقراءة لاتوكل عيش ..فبذلك تحولت بعضها لمطاعم تملأ البطون شبعا ، وأوضحت قائلة : إننا بحاجة لتخطيط ثقافي على مستوى بحيث يتم وضع الفرد منذ الطفولة تحت أطر التنمية الفكرية وإعداد مكتبات مصغرة في المدارس والبيوت ،وتشجيعهم على قراءة الكثير من الكتب ..وخلق روح التنافس بين القراء ،والمساهمة في انشاء نوادي للقراءة الحرة ..إنشاء ورش للتعريف بالمكتبات العامة وأهميتها في التحصيل المعرفي ،وإعادة فتح وإصلاح المكتبات القديمة .وجلب الكتب المختلفة وتدريب موظفي المكتبات على فن التعامل مع القارئ وتسهيل كل الأمور له وتوفير سبل راحته.
انصراف شريحة الشباب عن الاهتمام بالشأن الثقافي
عبد الله زاقوب: شاعر وكاتب
من جانبه يوضح الشاعر “عبد الله زاقوب” أنه مع البدايات الأولى لسنوات الاستقلال ، وتولي وزراء للإعلام والثقافة، على دراية ومعرفة بالمشهد الثقافي الليبي، من أمثال الأستاذ خليفة التليسي وأحمد الصالحين الهوني، اهتما بافتتاح المراكز الثقافية والمكتبات العامة بكل المدن والقرى والعروض السينمائية من حين لآخر والتي تصحبها الأشرطة الوثائقية التوعوية، مُبيّنا بأنه نظراً لانعدام وسائل الترفيه والتواصل الأخرى انكبت شرائح متباينة من أبناء المجتمع للتردد على هذه المكتبات والمراكز حيث كانت تتوفر بها المصادر والمراجع التاريخية والمعاجم اللغوية والتراجم للرواد والاعلام والروايات والقصص القصيرة الدواوين الشعرية المتنوعة.المحاضرات والندوات خاصة بالنوادي علاوة على تنظيم ، وعلل زاقوب أن مسألة ابتعاد كثير من الشرائح العمرية عن امتلاك وقراءة الكتاب مرد ذلك لبضع عوامل أهمها الانصراف المادي لشريحة الشباب وعدم الاهتمام بالشأن الثقافي والاعتقاد السائد لديهم أن المعلومات التي يتلقونها من أجهزة التواصل الاجتماعي كافية ومغذية، لكن ذلك وهم خادع ، وجل ما ينشر معلومات سريعة ومختصرة وكذا التقصير البين والواضح من المنظومات التعليمية والتربوية بالبيت والمؤسسات المعنية الأخرى.
غياب خطة تنموية للدولة
معمر الأمين الزائدي : شاعر وكاتب
وفي سياق متصل يرى الكاتب والشاعر “معمر الأمين الزائدي” أن لغياب المكتبات العامة أسباب عديدة نحاول التطرق إلى أبرزها، وهي الخطة التنموية للدولة بشأن ذلك أولا والأوضاع الاقتصادية ثانيا إضافة لبروز الكتاب الإلكتروني كبديل سريع ومجاني عن الكتاب الورقي مضيفا بالقول : بالنسبة للدولة فقد أنشأت المراكز الثقافية وجعلت إدارتها من ضمن الكوادر الإدارية العادية، وتركت الحبل لهم على إرادتهم لكنّهم لم يكونوا بمستوى الوعي والثقافة المطلوبين لمواكبة السير الثقافي والمناخ المتوفر مهما كان مستواه فتحولت هذه المراكز الثقافية إلى تجمعات لشرب الشاهي والهدرزة في الوقت الذي تراكم التراب والغبار على صفحات الكتب وعقول الأجيال، والمكتبات العامة ينطبق عليها تماما ماينطبق على المراكز الثقافية فعوملت بما نعرفه بعقلية الشعبي عام وبالتدريج انتقلت لبيوت أحمد وحميدة وسادها الكساد والنهب، وهنا اختنقت المكتبات العامة والمراكز الثقافية بأيدي مسؤوليها أولا والخاسر هو المواطن القارئ.
ويعتقد الزائدي أن للعامل الاقتصادي والاجتماعي دور مؤكدا بأنه عندما تكون هذه الظروف ممنهجة ومتسلطة من دولة ليس في منظومتها إلا المادي والمادي فقط . القارئ والمثقف أفراد في المجتمع لديهم التزاماتهم وحقوقهم وواجبات يتوجب عليهم توفيرها . ومن ضمنها الكتاب . الا أنه يتراجع عندما يكون رغيف الخبز هو سيد اللحظة .. بالنسبة لما نمر به ونعيشه الآن في هذه السنوات لم أر دولة تنظر لمواطنيها من خلال خطط تنموية من شأنها توفير أدنى مستويات الاحترام للشعب . في جميع متطلبات الحياة وبمختلف ضروراتها، والكاتب والمثقف والقارئ أليس هو في الحقيقة إنسان له ماله من احترام وعليه ماعليه من التزامات هم أفراد داخل مجتمع إذن لهم حقوقهم وعليهم وأجباتهم، وبالتالي أليس ثمة شيء من الحقوق مع تراكم منهج للواجبات.
فيما أوضح الزائدي أن للمكتبة مكانة في السابق بالتأكيد إذ كنا بالأساس نحب المكتبة ونحب المركز الثقافي، ونحب الذهاب لهما وكان أهالينا يشجعوننا على ذلك والناس يحترمون من يتردد عليها (ماشاء الله فلان ديما يقرا داك راسه بين الكتب الله يبارك) وهكذا ولكن في جميع المجتمعات تجد هناك بذرة سوء. هم من سرقوا الكتب ليزينوا بها بيوتهم وحرمونا منها، وليتهم قرأوها . لقد نهبت وفي كثير من الأحيان بيعت للمكتاب ككتب مستعملة ومؤخرا بعد المجيدة نهبت بالكامل ونهبت مقراتها وانتهت إلى النسيان، واختتم الزائدي قائلا : أنا أعتقد أن الأمر يستوجب الجهاد الشخصي في هذه الفترة حيث لا مال ولا سيولة، وفي غلاء رهيب لجميع الأسعار وتغول التجار حتى تجار الكتاب المستعمل صاروا يتغنون بأرقام فلكية وجنون ليس له مثيل نحن نعيش فعلا في أزمة حقيقية وبجميع مستوياتها.