دراسات

نجم الدين غالب الكيب: المغامرُ في الاتجاهات كافة

نجم الدين غالب الكيب
نجم الدين غالب الكيب

أولاً: مقدمة:

شهدت ليبيا إثر استقلالها في 24 ديسمبر 1951م حركة مجتمعية نشطة وواسعة برزت فيها العديد من الإسهامات والكتابات والمناشط الأدبية والفنية لعدد من الشخصيات التي أثرت المشهد الثقافي وتركت بصماتها واضحة في الحياة المجتمعية، حيث بدأ التوجه الحكومي خلال بداية الستينيات بعد تصدير النفط سنة 1961م في وضع الخطط التنموية لخوض عملية تطوير واسعة في جميع المجالات تشمل كل البلاد لتحديث المجتمع بجميع مكوناته وشرائحه.

ولما كان التنفيذ العملي لهذه الخطط التنموية يتطلب التهيئة التوعوية والتمهيد الفكري والثقافي والاجتماعي، فقد قاد هذه الحركة نخبة من الأدباء والكتاب والمثقفين كان من بينهم الأديب الراحل نجم الدين غالب الكيب الذي أسهم بفاعلية زاخرة وتنوع غزير بكتاباته التي تناول فيها الكثير من الأجناس الأدبية والموضوعات الفكرية والفنية ولازال تأثيرها وصداها الإيجابي في المشهد الأدبي والنقدي العلمي مستمراً حتى اليوم حيث نجد دراسة بحثية سنة 2022م بعنوان (التوجه النقدي عند نجم الدين غالب الكيب، كتابه “في النقد الأدبي” أنموذجاً) أعدها الدكتور عثمان سعد عمر الأستاذ بقسم اللغة العربية بكلية التربية بمدينة المرج وقدمها في الملتقى الوطني الدولي الأول للأدب والنقد في ليبيا في دروته الثالثة التي عقدت بجامعة بنغازي خلال الفترة من 14 -15 مارس 2022م ونشرت ضمن إصدارات الملتقى(1)، وهذا يؤكد بأن إسهامات الأديب الراحل نجم الدين غالب الديب لازالت تتفاعل في حياتنا، وستظل تضيء الدروب لهداية عشاق الكلمة والنقد والأدب وتقدم الرأي والفكر للأجيال التالية.

ثانياً: مولد الأديب الكيب وتنشئته

ولد الأديب الراحل نجم الدين غالب الكيب بتاريخ 20 مايو 1934م بمدينة قليبية الساحلية بتونس، وعاش عقوداً من عمره في المهجر خارج ليبيا أثناء إقامة والده المجاهد محمد غالب الكيب الفتحلي في تونس، هرباً من تنفيذ حكم المحكمة الايطالية بإعدامه سنة 1921م، ونال قسطاً من التعليم بمدارسها ومؤسساتها التربوية والتعليمية، ويبدو أن تنشئته في ربوع البلاد التونسية قد بثت في كيانه الوجداني والفكري بعد رجوع أسرته لأرض الوطن سنة 1955م حباً عظيماً، وعطاءً متدفقاً، ومحركاً محفزاً، وربما مستفزاً له بشأن الهوية والجنسية والمواطنة، للتفاني وبذل الكثير من الجهد العظيم والجد والمثابرة الحثيثة الدائمة من أجل إثبات جذور ليبيته وعمق انتمائه الحقيقي لوطنه الأصلي ليبيا، وقد تمثل هذا في الكم الهائل مما أنجزه من دراسات ونقود وبحوث ومقالات صحفية عديدة في أجناس مختلفة، وإصدار كتب ودراسات حول تاريخ ليبيا وقصة اكتشافها في العصر الحديث، ولمحات عن الحياة العسكرية في ليبيا، والحرب البحرية بين آيالة طرابلس وأمريكا وغيرها، مما يؤكد هذا المذهب، وتبرهن هذه الغزارة المتنوعة أن أديبنا الراحل نجم الدين غالب الكيب هو أحد الرواد المؤسسين للنهضة الأدبية والفكرية الحديثة التي أعقبت استقلال ليبيا وبداية بروز الإبداعات الليبية التي ساهمت في تطوير المجتمع الليبي وظهور النخب الوطنية المثقفة ذات البعد الوطني والفكر الحداثوي في مجالات التنمية كافة.

ثالثاً: الأديب الكيب والبحث عن الذات:

تمثل خمسينات القرن الماضي عقب عودة أسرة الأديب الراحل نجم الدين غالب الكيب إلى وطنه ليبيا بداية النشاط الأدبي والتكوين الفكري لديه حيث تنوعت أعماله الأدبية بين الكتابة والدراسات الأدبية والتاريخية، والمشاركة في تأسيس وتحرير العديد من الصحف والمجلات التي من أهمها مجلة (ليبيا الحديثة) المنوعة، التي عمل سكرتيراً لتحريرها خلال سنتي 1963-1964م، ثم كُلف بتأسيس مجلة (الرواد) الأدبية التي شغل في بداية صدروها منصب سكرتير تحريرها ثم رئيسها لمدة ستة سنوات منذ عام 1964 وحتى 1970م. كما ساهم في الكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية وتولى الإشراف على تنظيم الكثير منها، وترأس عدداً من الوفود الليبية المشاركة بالندوات والمؤتمرات الأدبية خارج ليبيا، مواصلاً العطاء والمساهمة بفكره وقلمه في شتى فروع الأدب حتى وفاته يوم 21 فبراير 1988م بطرابلس

ومن خلال التنقيب في أرشيفنا الوطني نجد أن الأديب الراحل نجم الدين غالب الكيب قد أسهم في معظم الجوانب الأدبية والفكرية في ليبيا، وهذا ما يؤكده لنا إرثه الإبداعي وما تركه من نتاج صحفي وفير، يكتسي قيمة وطنية لازالت تتوهج وتترسخ أهميته حتى بعد رحيله، فنجد الراحل قد نشر في جريدة “طرابلس الغرب” وصحيفة “الفجر الجديد” وصحيفة “الأسبوع الثقافي” ومجلات “كل الفنون” و”الرواد” و”ليبيا الحديثة” و”الفصول الأربعة” وغيرها.

ولعل أبرز ما ترصده هذه الورقة يمثل ما نشره الأديب الراحل خاصة بمجلة (الفصول الأربعة) الصادرة عن رابطة الأدباء والكتاب الليبين والتي تولى إدارة تحريرها خلال بداية صدورها سنة 1978م برئاسة الدكتور علي فهمي خشيم. ويكشف أرشيف أعداد تلك المجلة العريقة أن الأديب نجم الدين غالب الكيب قد نشر على صفحاتها الدراسة البحثية، والمقالة الأدبية، والنقد الثقافي، والتراجم للأعلام والشخصيات الأدبية والشعرية الليبية، وعرض الكتب والإصدارات الأدبية، والدراسات التاريخية، والمتابعات الصحفية للمناشط الفنية، وغيرها من الإسهامات التي سلط فيها الضوء على الحياة الأدبية والفنية في ليبيا خلال فترة زمنية ثرية بالأحداث الثقافية، بل أزعم أنه لم يترك مجالاً أو جنساً أدبياً لم يكتب فيه ويسهم مع زملائه في تسليط الضوء عليه، أو إثارته على صفحات الجرائد والمجلات الوطنية، وهو بهذا التنوع الغزير كأنه يبحث عن ذاته الوطنية في الكتابة بالمطبوعات والإصدارات الإعلامية لكي يختار التخصص والمجال الذي يناسب قدراته، أو كأنه يسخر كل طاقاته الإبداعية لأجل التعبير عن الإنتماء الحقيقي الصادق لوطنه وتعويضه ما فاته أثناء سنوات المهجر. فحين نتتبع كتابات الأديب الراحل وإسهاماته بمجلة (الفصول الأربعة) نكتشف أنه تناول النقد الروائي حين نشر مقالته المطولة(2) حول رواية (الممر) للروائي السوري ياسين رفاعية، وكتب النقد الثقافي حين أثار في مقالة مطولة سؤاله الجدلي الكبير الذي جعله عنواناً لمقالته وهو (هل هناك أزمة حقيقية في الثقافة العربية)(3)، وأعد الدراسات البحثية الأدبية المعنونة (عبدالله القويري: بصمةٌ واضحةٌ على الأدب الليبي المعاصر)(4) و(الأدبُ العربي والمناهج النقدية المستوردة)(5) و(إرهاصاتُ الوحدةِ العربية في الشعر الليبي المعاصر)(6)، و(الشعرُ الليبي والرابطة الإسلامية)(7)، و(جذورُ القومية العربية في الشعر الليبي)(8) و(النموذجُ الأمريكي في المنظور العام)(9).

كما نجده قد أولى اهتماماً خاصاً بالدراسات التاريخية فنشر (ملامحٌ مشتركةٌ من الحياة الثقافية بين المغرب وليبيا “القرن 14-15 ميلادية“)(10) وهي محاضرة ألقاها في التظاهرة الثقافية بالعاصمة المغربية الرباط بتاريخ 23 مارس 1985م، وكذلك دراسته المعنونة (مدينةُ طرابلس بمدخليها الغربي والشرقي في رسائل إلى الأهل)(11) التي استعرض فيها الكتاب المشترك للفتاتين الأمريكيتين “لوينس سميت” و”هيلين لويد بريستون” بعنوان (Tripoli days and knights طرابلس: أيام وفرسان) الصادر سنة 1930 بباريس في فرنسا، والذي ترجمه الدكتور الهادي أبولقمة الأستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة بنغازي وأصدره سنة 1980م في كتاب عن المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والاعلان، وكذلك مقالته (ما يجبُ أن يُقال: والجهودُ تُستنفرُ لكتابة تريخنا العربي)(12) تعليقاً حول اجتماع اتحاد المؤرخين العرب في العاصمة العراقية بغداد خلال شهر سبتمبر 1985م، وتحقيقه الصحفي المنشور بمجلة (كل الفنون) حول الشريط السينمائي الأمريكي (موسى وشريعة الصحراء) الذي ترجم بعض المعلومات حوله من اللغة الايطالية(13).

ولم يكتفي أديبنا الراحل بنشر المقالات والدراسات القيمة بل خاض مبكراً منذ سنة 1967م مغامرة إصدار الكتب حتى وصلت كتبه إلى حوالي عشرين كتاباً من أبرزها:

  1. لمحات ٌعن الحياة العسكرية في ليبيا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1967م.
  2. دراساتٌ من الأدب والفن، دار مكتبة الأندلس، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1968م.
  3. قصةُ اكتشاف ليبيا في العصر الحديث، دار الفكر، طرابلس – ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1968م.
  4. شخصياتٌ من الشرق والغرب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1969م.
  5. مدينةُ طرابلس عبر التاريخ، دار الجيل، طرابلس – ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1970م.
  6. الحربُ البحرية بين نيابة طرابلس وأمريكا، المطبعة العصرية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1971م.
  7. علي مصطفى المصراتي الباحث والأديب، وزارة الإعلام، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1973م.
  8. علي صدقي عبدالقادر شاعر الشباب، دار النشر العصرية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1974م.
  9. صورٌ قلمية، دار النشر العصرية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1975م.
  10. في الأدبِ والنقد، الإدارة العامة للثقافة، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1975م.
  11. ذكرياتُ مسافر، الدار العربية للكتاب، تونس – ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1977م.
  12. مدينةُ صبراته في فلك التاريخ، الدار العربية للكتاب، تونس – ليبيا، الطبعة الأولى سنة 1975م.
  13. خطواتٌ على الدرب، المنشأة الشعبية العامة للنشر والتوزيع والإعلان، سلسلة كتاب الشعب رقم 2، الطبعة الأولى سنة 1980م.
  14. فصولٌ في التاريخ الليبي، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، الطبعة الأولى، سنة 1982م
  15. لبدة الإسم والنشأة، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1984م.
  16. نظراتٌ في الخيالة، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس ليبيا، الطبعة الأولى، سنة 1986م.
  17. جذورُ القومية العربية في الشعر الليبي الحديث، الدار العربية للكتاب، تونس ليبيا، الطبعة الأولى، 1987م.

وباستعراض وتفحص عناوين هذه الإصدارات نستنتج أولاً غزارة الإنتاج الفكري للأديب الكيب، وثانياً تنوع المواضيع التي تناولها، حيث نجد الشعر والفكر والفن والأمكنة والخيالة ورواد الأدب، كما نلاحظ التركيز الملحوظ على التاريخ الوطني قديمه، وحديثه، وتتبع سير الأعلام والشخصيات، وهو ما يجعلنا نبحث فيما وراء دوافع هذا الشغف بالتاريخ ونطرح سؤالنا: هل وجد الأديب الراحل نجم الدين غالب الكيب ذاته الإبداعية في مجال التاريخ؟ ويأتي طرح هذا السؤال من خلال رصد عناوين الدراسات التاريخية والكتب الصادرة له، وهي من أبرز الجوانب التي نالت اهتمامه بشكل موسع، مع عدم التقليل من جهوده الأخرى في غيرها من الاهتمامات المتعددة والمتنوعة.

رابعاً: الكيب ومفهوم الكتابة التاريخية

حول مفهوم الكتابة التاريخية وآلية التعاطي مع المصادر التوثيقية والاستفادة منها كتب الأديب نجم الدين غالب الكيب في أول مقالة نشرها بعنوان (نقدُ وتقييمُ المصادر المعتمدة في تاريخ ليبيا) التي صدَّرها كتابه (خطواتٌ على الدرب) يقول (.. المعرفة التاريخية هي – بدون شك – نتاج الفكر النير الذي يعي – بحق – كيف يتعامل مع المصادر التاريخية، فهذه المصادر مهما كانت جيدة وموثوقاً بها لا يمكن أن تكون ذات فائدة للمؤرخ  إلاّ إذا استطاع أن يخضعها إلى أعمال الدرس والتمحيص، وأن يقلبها على محك العقل والنقد، وفي رأي – على الأقل – أن مصادر التاريخ جميعها يجب ألاّ تتجاوز مهمتها الإرشادية، ودورها الأولي في تنوير سبيل المؤرخ الذي لا ينبغي أن يثق بها ثقة عمياء، وأن يودعها كامل اطمئنانه في بحثه عن الحقائق، فمصدر واحد – مثلاً- لا يكفي، ورأي واحد لا يفي بالحاجة، كما أن شاهداً واحداً لا يمكنه أن يعطينا القول الفصل في أي شأن من الشؤون مهما كان صغيراً وتافهاً. والحقيقة فإن المؤرخ محتاج إلى أن يستعين بنخبة من المصادر وعدد من الأراء وجملة من الروايات، لمقابلتها بعضها ببعض قبل أن يستخلص منها الرأي الخاص به والذي يعتمده لنفسه وهذه أمور بديهية، وهي على ما اعتقد من أولويات مسائل البحث، وهي ألف باء المعرفة)(14).

إن هذا المنهج البحثي الجاد والأسلوب العملي الدقيق الذي يورده الأديب نجم الدين غالب الكيب في مقالته المتسمة بالحث على تتبع الخطوات العلمية في البحث التاريخي يجعلنا نطمئن كثيراً إلى كتاباته وآراءه ونقوده التاريخية في الشأن الليبي، كما يمنح ما أنجزه  في هذا المجال قيمة مضافة لاعتماده مهنية دقيقة صارمة تنبع من معرفة وعلاقة وطيدة بالتاريخ، والحرص بكل عناية للاستفادة من الوثائق التاريخية في مجال البحث التاريخي.

خامساً: كتابُ (قصةُ اكتشاف ليبيا في العصر الحديث)

1 – العنوان:

(قصةُ اكتشافِ ليبيا في العصر الحديث) هذا هو العنوان الخارجي للكتاب الصادر للأديب نجم الدين غالب الكيب في طبعته الأولى سنة 1968م، وللوهلة الأولى ينقلنا العنوان إلى أحد الأجناس السردية الأدبية التي تعنى بالقصص والحكايات، ولكننا لا نجد فيه اللغة البلاغية المكثفة، ولا الصور الفنية الجميلة، ولا الأخيلة الرحبة، ولا يحكي قصة اكتشاف بعينها أو تواريخ محددة، بل جاء ليجمع مجموعة مقالات تتناول أحداثاً تاريخية متنوعة. وقد كتب مقدمة هذا الكتاب الأديب الراحل الدكتور علي فهمي خشيم التي يقول فيها (.. لقد سعدتُ حين أنبأني الصديق نجم الدين أنه يعتزم إصدار مجموعة مقالاته التي نشر بعضها ولم ينشر بعضها الآخر، في ضميمة واحدة تجمع شتاتها وتوحد بينها .. وذلك لأني كنتُ قرأتُ بعض هذه الدراسات من قبلُ وكنتُ أتمنى على المؤلف ألاّ يهمل أمرها..)(15).

ويضيف الدكتور خشيم قائلاً (.. لستُ الآن في مجال النقد والتقويم لمجموعة الدراسات هذه التي بين أيدينا فإن هذا شأن آخر .. لكنني أعرفُ أن المؤلف بذل جهداً كبيراً في أن “يكتشف” حركة الكشف في بلادنا، وكان موفقاً في التمهيد لموضوعه عن أهمية كتب الرحلات في كتابة تاريخنا القومي والنوايا التي تستتر وراء حركة الكشف والريادة. ثم نراه يقدم نماذجاً للكشف العربي وما توالى بعده من حملات الانجليز والفرنسيين والألمان والطليان وهو يربط ربطاً جيداً بين حركة الكشف والصراع السياسي الاستعماري بين الدول الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهو لم ينسَ ما قدمه الرحالة والصحفيون الشرفاء لبلادنا إبآن العدوان الايطالي الاستعماري الغاشم، ونوه بدور أهل البلاد في مساعدة المستكشفين الرحالة، ولولا هذه المساعدة لما نالوا كل أو بعض النجاح.)(16) وبهذه الشهادة القيمة والتعريف الملخص للكتاب يضيف الدكتور علي فهمي خشيم إطمئناناً، ويعزز الثقة في قيمة الكتابة التاريخية للأديب نجم الدين الكيب ويزيد درجة التشويق والجاذبية لمعرفة محتويات الكتاب.

2 – المحتويات:

جاء كتاب (قصةُ اكتشاف ليبيا في العصر الحديث) في مائةٍ وخمسةٍ وثلاثين صفحة من الحجم الصغير متضمناً ستة مقالات تحوي معلومات ودراسات وأحداث تاريخية متنوعة، بالإضافة إلى عرض سير وحكايات بعض الرحالة الأجانب والعرب، وقد تسلسلت عناوينه كالتالي: (جهودُ الكشف في خدمة التاريخ) و(ماذا وراء حركة الكشف من نوايا؟) و(الليبيون في خضم الكشف الجغرافي) و(دورُ العربِ التمهيدي في كشف أفريقيا) وفيه استعرض دور ثلاثة من الرحالة العرب هم “ابن بطوطة” و”محمد حسن الوزان” المشهور ب”ليون الإفريقي” و”محمد العبدري البلنسي”. ثم خصص جانباً للدور الأوروبي في الاكتشافات الافريقية جاء بعنوان (أوروبا تلقي بنفسها في خضم الكشف الافريقي).

ويلي تلك المقالات استعراضُ سيرِ ثمانية رحالة أجانب تحت العناوين التالية (فريدريك هورنمان وسياحته عبر الصحراء الليبية 1797-1800م) ويتناول مغامرة الألماني الشاب هورنمان ورحلته للصحراء الكبرى، و(رحلة القبطان جورج فرانسيس ليون 1818-1819م) انطلاقاً من جزيرة مالطا، و(المستكشف الدكتور باولو ديلا شيلا 1817-1818م) الذي وصل ولاية برقة سنة 1817م، و(هانريخ بارت 1845-1847م) مؤسس الدراسات الافريقية ورحلته لليبيا ثم عبرها إلى السودان، و(المستكشف إدوارد راي 1877م) صاحب كتاب (طرابلس، لبدة، القيروان في القرن التاسع عشر 1877م) الذي نشره بعد وقت قصير من إتمام رحلته، و(الميجر غوردن لاينج 1825م) الاسكتلندي  الذي أعدته وزارة المستعمرات البريطانية للسفر إلى دول ما وراء الصحراء انطلاقاً من طرابلس ثم غدامس، و(الرحالة الطبيب أرنست ه. جريفين 1912م) الذي وصل الى طرابلس سنة 1912م كمبعوث لجمعية الصليب الاحمر البريطانية، و(فردريك هانمر وارنجتون) القنصل الانجليزي في نيابةِ طرابلس سنة 1814م.

ولم يغب عن كاتبنا جهود المراسلين الصحفيين ومغامراتهم في الرحلات والاكتشافات التاريخية فضمَّن الكتاب فصلاً  بعنوان (صحفيون ومراسلون رحالة) للتعريف بدور ثلاثة من الصحفيين وسرد حكاياتهم القصيرة وهم: (الصحفي الانجليزي جـ. ف. أبوت) والصحفي الدنماركي (كنود هلمبو) الذي أسلم في شمال أفريقيا وتعلم العربية بالمغرب وأصدر كتاباً حول الصحراء الكبرى، ثم المراسل الصحفي البريطاني (فرانسيس ماكولا) الذي شهد بعض معارك الغزو الايطالي لليبيا ونشر أخبارها في الصحف الانجليزية ثم أصدر كتاباً بعنوان (حربُ إيطاليا من أجل الصحراء)(17).

وتتضمن معظم موضوعات الكتاب إشارات عديدة إلى أهمية رسائل الرحالة والصور والوثائق المنشورة والكتب الصادرة لهم عقب إنتهاء رحلاتهم وتسجيل ملاحظاتهم وتجاربهم فيها، مع تأكيده بأن هذه الرحلات الاستكشافية الممولة من جمعيات ومؤسسات غربية سواء دينية أو غيرها، لا يقتصر دورها على الجانب العلمي المعلن فحسب، بل لها أهداف ومرامي وغايات أخرى سياسية ودينية بعيدة.

وهكذا نلاحظ أنه حتى محتويات كتاب (قصةُ اكتشاف ليبيا في العصر الحديث) قد جاءت متنوعةً في موضوعاتها على غرار تنوع كتابات الأديب نجم الدين غالب الكيب نفسها، وإن كانت تحت سياق واحد يتناول ولايات ليبيا والاكتشافات التاريخية أثناء أزمنة مختلفة، ولم ترتقي إلى مستوى الدراسة التاريخية الشاملة أو البحثية التفصيلية من حيث المنهجية والفرضية العلمية، والتحليل الدقيق، والاستنتاج النهائي، ولكنها استعرضت ووثقت أحداثٍ وشخصياتٍ متعددة أسهمت بدور مهم في الاكتشافات التاريخية، وهي بقدر ما تبعث تشويقاً في القاريء لمطالعتها فإنها تحفزه كذلك على البحث عن المزيد من المعرفة والمعلومات التفصيلية حولها.

سادساً: الخاتمة:

في مقالته (الأدبُ الليبي: مائةُ عامٍ من العزلة) يطرح الأديب منصور بوشناف مشروعاً وطنياً توثيقياً وتعريفياً مهماً أطلق عليه (مقاومة النسيان) يهدف إلى ضرورة (البدء في مراجعة إنتاجنا الثقافي عبر هذا القرن) ويقولمطالباً (إنَّ “النيهوم” و”القويري” و”المصراتي” و”خشيم” وغيرهم كثيرون قد أنتجوا كماً مُهماً من الثقافة لم تراجعه لا أجيالهم ولا الأجيال التي تلتهم، علينا أن نقف الآن لمراجعته واستيعابه، بروح موضوعية وبعيداً عن القدح والمدح. إنها الخطوة الضرورية الأولى لمغادرة هذه المائة عام من العزلة)(18) .

وبالإضافة إلى الأسماء التي ذكرها الأديب الكبير منصور بوشناف أضيفُ اسم الكاتب نجم الدين غالب الكيب المغامر في كل اتجاهات الكتابة والبحث والابداع الذي أمل أن ينال إنتاجه الأدبي والفكري الغزير نصيباً من الاهتمام والمطالعة، وأن تنال مقالاته وكتبه التاريخية المزيد من الدراسة الدقيقة والنقد التحليلي العميق وتصويب ما قد نكتشفه فيها حالياً من قصور وذلك بعد تطور المناهج العلمية وتوفر المراجع الحديثة في التاريخ بتفرعاته الزمنية المتعددة، وغيره من التخصصات الأخرى.


ورقة ألقيت بندوة المركز الليبي للأبحاث والدراسات بعنوان (من الذاكرة الثقافية للوطن: نجم الدين غالب الكيب في الذكرى التسعين لميلاده) التي نظمها صباح يوم الأربعاء الموافق 4 سبتمبر 2024م بمقره بحي الأندلس بمدينة طرابلس

الهوامش:

(1) (التوجه النقدي عند نجم الدين غالب الكيب، كتابه “في النقد الأدبي” أنموذجاً) دراسة وصفية تحليلية، أ. عثمان سعد علي عمر، منشورات الملتقى الوطني الدولي الأول للأدب والنقد في ليبيا في دروته الثالثة، كلية التربية بجامعة بنغازي، 14-15 مارس 2022م، ص 714-742

(2)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 4، السنة الأولى، سبتمبر 1978م، ص 136-139

(3)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 16، السنة الرابعة، ديسمبر 1981م، ص 77-81

(4)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 17، السنة الخامسة، مارس 1982م، ص 73-76

(5)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 13، السنة الرابعة، مارس 1981م، ص 161-166

(6)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 26، السنة السابعة، أكتوبر 1984م، ص 125-155

(7)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 28، السنة الثامنة، مارس 1985م، ص 152-161

(8)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 22، السنة السادسة، أغسطس 1982م، ص 58- 66

(9)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 34، السنة التاسعة، سبتمبر 1986م، ص 35-37

 (10) مجلة الفصول الأربعة، العدد 29، السنة الثامنة، يونيو 1985م، ص 56-65

 (11) مجلة الفصول الأربعة، العدد 20، السنة السادسة، ديسمبر 1982م، ص 192-195

(12)  مجلة الفصول الأربعة، العدد 32-33، السنة التاسعة، (مارس، أبريل، مايو 1986م)، 239-248

(13) مجلة (كل الفنون)، العدد رقم 19، الصادر بتاريخ 10 فبراير 1975م، ص 34-36

(14) خطوات على الدرب، نجم الدين غالب الكيب، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 1980م، ص 11 – 12

(15) قصة اكتشاف ليبيا في العصر الحديث، نجم الدين غالب الكيب، منشورات الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع، طرابلس، الطبعة الثالثة، 1981م، ص 13

(16)  المصدر السابق نفسه، ص13-14

(17) حرب إيطاليا من أجل الصحراء، فرانسيس ماكولا، ت. الدكتور عبدالمولى صالح الحرير، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، ط1، 1991م

(18) نشر بموقع الفجر نيوز الالكتروني  https://t.me/s/fajernews، بتاريخ 22 ديسمبر 2007م

—————–

(*) ورقة ألقيت بندوة المركز الليبي للأبحاث والدراسات بعنوان (من الذاكرة الثقافية للوطن: نجم الدين غالب الكيب في الذكرى التسعين لميلاده) التي نظمها صباح يوم الأربعاء الموافق 4 سبتمبر 2024م بمقره بحي الأندلس بمدينة طرابلس

مقالات ذات علاقة

هل حقاً الإسلام في الأسر؟

علي عبدالله

المُقدِّمَة البيان

المشرف العام

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (11) .. الزمن الوجودي في ديوان (عزيف)

المشرف العام

اترك تعليق