تاريخ

حكاية هذا الاكتشاف!

الذكرى الـسادسة لرحيل الكاتب والباحث الليبي داود حلاق

كتاب مرقس الإنجيلي
كتاب مرقس الإنجيلي

عندما باشرت عملي بمصلحة الآثار وتم تكليفي برئاسة (قسم التراث ) بمراقبة آثار شحات عام (1985م). كان أول عمل أعد له عدته ما يمكن نعته ( بحملة استكشاف أوشاز أودية الجبل الأخضر) تلك الكهوف المعروفة محليا باسم – المعاليق – وهى مجرد ملاذات يصعب ارتيادها وتصعب مراقيها، الا بشق الأنفس . ولقد لاذ بها الناس عبر ظروف مخيفة وخلال جوائح مهلكة، داهمت المنطقة في فترات متعددة عبر التاريخ، وبالرغم من وجود ظاهر لهذه الأوشاز الشاهقة في رقعة تقدر بأكثر من 5000 خمسة آلاف كيلو متر مربع إلا أنه لا أحد من الباحثين قد تطرق لها بالدراسة من قبل.

ونظرا للأهمية البالغة والقصوى لهذا الأثر الذى استنبطه وأعده اسلافنا في معظم الأودية الصخرية والذى يضع بين أيادينا مدى عبقرية أولئك الأسلاف التي نفذت هذه الاستراتيجية التي كفلت لهم تقويض ما اعترضهم من كوارث وشرور عبر أوقات كئيبة، رأيت من واجبى اعداد حملة لتحرى أوشاز أودية الجبل الأخضر، واماطة اللثام عنها وحددت فترة الحملة بأعوام ثلاثة (1985 – 1987) وقد بذل فريق العمل المتطوع جهودا مضنية ومثمرة وقد تمكنا من الصعود الى حوالى (100) مائة وشز بواسطة استخدام الحبال والبكرات وعدة وسائل أخرى أعدها أعضاء الفريق بأنفسهم، وفرغت من كتابي الأول عن الأوشاز تحت عنوان: (أوشاز الأسلاف) ” دراسة موجزة عن الكهوف المعلقة بالجبل الأخضر”. وصدر ضمن منشورات مصلحة الآثار عام (1989) ثم قضيت وقتا ممتعا مع كافة الأدوات التي تم تجميعها من الأوشاز لأفرغ من اعداد كتاب آخر تحت عنوان: (أوشاز الأسلاف) ” دراسة موجزة عن الفكر الحرفى لدى سكان الأوشاز بالجبل الأخضر”. وكان من الضروري ايضا إعداد دراسة تتعلق بأوشاز مرقس الإنجيلي واستجلاء غوامض كثيرة في سيرته والاعلان عن الشواهد الأثرية التي تم الكشف عنها .

وبهذا نأمل ان يتخذ العمل سلسلة من الدراسات المتواصلة والمتعلقة بموضوع واحد وهو (أوشاز الأسلاف) في هيئة عمل موسوعي يستكمل من قبل المتخصصين في هذا المجال مستقبلا ..

فما هي حكاية اكتشاف مقرات مرقس بالجبل الأخضر؟

الباحث الراحل "داوود الحلاق"
الباحث الراحل “داوود الحلاق”

في حقيقة الأمر يخضع هذا الاكتشاف لمجرد صدفة طيبة وحدها! إذ أننا خلال أعمالنا عبر الأجراف الوعرة والبحث عن مواقع الأوشاز، كنا قد كاتبنا رسميا ادارة قاعدة جوية ما للسلاح الجوي العربي الليبي، بغية مديد العون لنا وتسهيل مهمتنا وذلك بالسماح للفريق بالمرافقة في طائرة مروحية لمسح الأودية وتحديد مواقع الأوشاز. وفى هذا تذليل لكثير من العناء الذى يتطلبه البحث عن مواقع الأوشاز عبر الأودية مشيا على الأقدام، وقد تمت الموافقة وقدم لنا ذلك العون، وهكذا من الجو خلال طيران منخفض وتحليق متزن عبر اتساع أحد الأودية ما بين بلدة ( الأثرون ) ومرفأ (رأس الهلال) شاهدنا مقرا محفورا في واجهة صخرية سحيقة، وكان اتساع المقر وتعدد ادواره يوحى بصورة جلية أنه بقعة أثرية وأنه يختلف عن ما ألفناه من أوشاز، ولهذا كان من الضروري أن نقوم بالوصول الفعلي الى ذلك المقر واستكشافه، ولكننا قد تأخرنا عن ذلك وانشغلنا بتجميع العديد من اللقى المتبقية في أوشاز اخرى بعيدة عن ذلك الموقع واخيرا في منتصف العام الأخير المحدد لإنهاء الحملة قررنا زيارة ذلك المقر الذى شاهدناه من الجو قبل عامين !!

طالع: داوود الحلاق…القاص والمستكشف

وهكذا في صيف عام 1987م تم الصعود الفعلي باستخدام الحبال الغلاظ المجدولة وبكرات الفولاذ . وهذا المقر يقع في الجرف الشمال السحيق بوادٍ يسمى منذ القدم باسم (وادى مرقس) وخلال استطلاعنا للمقر عثرنا على صهاريج لحفظ مياه الأمطار داخل المقر المحفور في الصخر وهذه الصهاريج بعضها استخدمت له تلبيسة من مونة تعود للعصر الروماني، ثم اننا عثرنا على مجموعة من الحنيات والحنية أثر مسيحي لا يخلو منه مكان لعبادتهم. ثم عثرنا على أثر يشبه بقية (رأس أسد) لكن هذا الأثر المنحوت قد هشم وأتلف تلفا بالغا، وكنت قد قرأت ذات مرة ((ان مرقس الرسول قد اتخذ الأسد علامة او اشارة له .. )) ولما كان هذا المقر يقع في وادٍ يعرف باسم (وادى مرقس) كان من البديهي الربط بين الأسد ومرقس واسم الوادي !! وهكذا رددنا في تلك الأمسية ونحن شبه مذهولين هذه العبارة:

((لقد وضعنا ايدينا على صرح مرقس الإنجيلي لأول مرة !!))

لقد بذلنا جهدا مريرا بعد ذلك في تتبع سيرة مرقس العربي الليبي الذي ینحدر من جذور كنعانية، كما بذلنا جهودا متواصلة طيلة اعوام في البحث والكشف الأثري عن بقية النقاط والبقاع التي أسست على يدى مرقس في الطرف الشمالي الشرقي من رقعة الجبل الأخضر في ليبيا، وعندما نقول باننا بذلنا جهودا مضنية فإن سبب ذلك، قلة المصادر، وعجزنا عن التمكن من اللغات الأجنبية، وعدم المقدرة على السفر الى بلدان عديدة، لجمع المعلومات، كما أن الأعمال الميدانية طيلة سنوات كانت تتم بالمجهود الذاتي الضيق وعلى نفقة الأعضاء المتطوعين، ومهما تكن من أمور فإن السعادة بإنجاز هذا العمل وبالرغم من أنه أتى مبتسرًا، قد عوضتنا عن كل شيء.

إن هذا العمل مجرد دعوة صادقة لاستكماله.

ولقد رأيت انه من المفيد ان لا يقتصر هذا البحث على البقع الأثرية التي اكتشفناها وحسب، بل وجب أن نسهم بوجهة نظرنا فيما يتعلق بالسرد الذى نراه يلقى بشيء من النور عبر قصة حياة مرقس الإنجيلي . مع لمحة موجزة خاصة عن حالة منطقة برقة خلال العهد الروماني بادئ ذي بدء، معتمدين بالذات على الأمور التي نراها تلزم كل الشرفاء على حمل لواء النضال ضد الغزو الروماني للبلاد .

.

مقالات ذات علاقة

ساعتان في الوسعاية بمدينة طرابلس المحروسة (1265 هـ/ 1849م)

عمار جحيدر

من تاريخ درنة بين سنتي (1630-1711)

المشرف العام

عن سلطان التبو – دَرْدَيْ

عبدالمنعم المحجوب

اترك تعليق