الذكرى الثانية عشر لرحيل الشاعر الليبي صلاح عجينة
حاوره: محمد القذافي مسعود
تجرأ وتجاوز واستطاع خلق مناخ معاكس لحالة الاحباط المزمنة التي تمكنت واستشرت في نفوس الكثير من المثقفين الليبيين، فكان هو، وكان نصه وخطابه دعما لنهضة ثقافية تبني في مقابل أصوات سلطوية أيديولوجية متخلفة تهدم، سعي مع آخرين من جيله لخلخلة الثوابت وهز أركان المؤسسة الشِعرية التقليدية، يقترح كتابة نصه ويأمل وجود اقتراح نقدي نظيرا له، هذا هو الشَاعر صلاح عجينـة وهو يطرح وجهة نظره بجرأة من خلال هذا الحوار.
يتضح من خلال مجموعتك الشِعرية (قريبا من ناصية البئر والتحول) أنك تمارس التجريب علي اللغة في مغامرة مستمرة نحو هدم وبناء، ألم تصل الي لغة ترضيك وبالتالي تمثلك؟
كنت ـ ولا زلت ـ أحلم بلغة سليلة عتقٍ ما وآنية معا، لغة لها امكانية الاحتمالات جميعا، لغة علي رأس أجندتها احتواء فكريَ الشِعري، أقصد لها هذا الطموح، وأثناء حلمي لا أكف عن نيل مساحات ممكنة من لغتي الحلم، لذا ليس بوسعي الا طرق باب التجريب الي النهاية، فالتجريب في أصله ثورة الفن الذاتية التي تجدد دمه من الداخل وبنسق قانون طبيعي غامض. في كراسي الشِعري (قريبا من ناصية البئر والتحول) رحلة صوب هذا الطموح أو الأصل. انني أشعر وأنا أقرأ نص كراسي المذكور وبعدما مرت فترة الاحتفاء بصدوره أي بعدما اتخذ سبيله نحو التعتق رويدا رويدا شأن أي كائن يبعث الي هذا الوجود ـ قلت ـ أشعر بلذة اكتشاف مكامن كانت تسكن مخيالي الشِعري الذي يحوي بالضرورة نظريتي كانسان متفاعل مع موجودات المحيط التي تحاصر وجوده.
وأحب هنا اضافة أن قراءاتي للنص الذي أيمم شطره أمارس التجريب أيضا في قراءته كفعل قراءة قادر علي استيعاب اشكالية الكتابة باستمرار. ان التجريب في فعل القراءة مهمازي الأصيل في مسألة الفن.
ألا تكون متعصبا لرأيك أحيانا ولا تلتفت لما يقوله النقاد؟
ماذا يقول النقاد؟ أود أن أسأل، علي نحو ما يمكنني القول ـ مثلا ـ يحلمون بكتابة نصٍ نقديٍ للنص الشِعري وبالتالي ـ في رأيي الخاص ـ ان الحلم أستاذ الطرفين ونقطة لقائهما وأول دروسه تقبل الآخر الي النهاية شريطة أن يكون الفن هو الأصل. وبالنسبة للتعصب لرأيٍ ما أين كان هو أسلوب يقع فيه الكثيرون وهو أسلوب قديم قد تجاوزته ضرورات حوار المعرفة المعاصرة. وعلي في هذا الصدد أن أطرح السؤال الآتي، لماذا اختفت النَظريات الكبري في المعرفة الانسانية المعاصرة؟ أعتقد ـ وهذا الاعتقاد ليس بالضرورة إجابة علي السؤال السابق بقدر ما هو تهميش يخصه ـ أن انحسارا كبيرا قد طال التعصب الي فكر بعينه وأن اشتراط الحوار كأسلوب معرفي كان كفيلا بتبديد الكثير من مثل هذه الارتباطات القديمة وعلي رأسها بالطبع التعصب لفكر معين بعقل التعصب. أنا تحديدا أريد أن أقول إن النص الشِعري اقتراح والنص النَقدي اقتراح نظير. من هذا المنطلق أنا شخصيا أمارس فعل الكتابة ومنه أيضا أمارس فعل القراءة ـ التلقي.
من هو الشَاعر الذي تشعر بأنه الأقرب لك من غيره؟
كل من يكتب قصيدا له سمة الولوج في أسئلتي التي هي ذاكرتي الآنية والمتخيلة-اللاحقة، من يأتي لعقلي الشِعري بالأثر، بمفهومات جديدة للأشياء، بعلائق جديدة قد تكون قديمة لكنها متخفية أو غامضة، بمداخلة حيوية لفن الشِعر. فأحيانا يهيأ لي أنه ليس ثمَة شاعر يحقق هذا الطموح الي النهاية وحده، ان كل شاعر يولد ليكتب علي هيكل الشِعر حرفا من كلمة عشق لم نقرأها بعد وذلك أن ثمَة شعراء سيأتون الي الأرض ليكتبوا باقي الحروف.
كيف تنظر الي مسألة تصنيف الشعراء في ليبيا الي أجيال؟
لست من المتورطين كثيرا في لعن نظرية التجييل ولست في ذات الوقت من المنهمين بها، فالجيل الأدبي في رأيي هو الحنين الخرافي لظروف وأبجديات وأزمنة ملتبسة مر بها شاعر ما ولها الفاعلية والانتاج والخلق في كيانه الثقافي. فالشَاعر الذي يحلم للعالم وبه يكتب يقدس القوي التي أكدته والتي لفظته ويلعنها في آن. بهذا التضاد يمكنني القول بين تنصيص صغير ان الجيل الأدبي هو حرص البداية علي النهوض وحرص النهاية للتأريخ لهذا النهوض الذي في معناه القصيد الحلم والفكر الأمل الذي نتمنى علي أنفسنا كتابتهما كما نتمنى ممارسة ما يرتبط بهما من طقوس منطبعة في ذاكرتنا ونحن أطفالٌ.
في ليبيا يمكن تلمس حادثة الجيل ظاهرتيا لكنك لا تستطيع الذهاب أكثر من هذا. الجيل الأدبي في ليبيا لا يعني معايير نصية مميزة لجيلٍ عن آخر بقدر ما هو التأريخ للحظة ولادة الأدباء الليبيين.
ماذا تقول عن جيلك من شعراء التسعينيات في ليبيا؟
أحبهم بالمعني الأثيري، وأقرأهم عن قرب، وليس بإمكاني أن أضيف أكثر في اللحظة الراهنة.
هل صحيح أنك كنت ترغب في قيادة مجموعة لتكوين جيل يسمي (التسعينيون) يوازي في قوته وخطابه الأجيال السابقة ويتناقض في طرحه وأسلوب تناوله لقضايا الثَقافة والعصر مع ما جاءت به تلك الأجيال؟
أكون مخادعا لو تنصلت من خطوات ومواقف تغذي دورا شبيها بالدور الذي نعتني به ولكن لم يكن أبدا في أحلامي طموح لعب مثل هذا الدور وانَما قد وقعت فيه لضرورات تخص الكتابة والثَقافة في عمومها، وقد كلفني القيام بأدوار كهذه دفع أثمان مستحقة.
أن تقوم بالذود عن ذائقة ما وملامح فنية معينة يعني أنك لا بد وأن تكون مستعدا للمواجهة الحقة مع أنظمة معرفية مغايرة قد تتجسد في جيل قديم أو في جيل جديد ينطوي علي كلس بائد، يعني أنك قد تواجه ذائقة جمعية متردية تقرأ النص من الخارج ولا تستطع استبطانه، انني أقولها وبصراحة وهذا الكلام يخص كراسي الشِعري (قريبا من ناصية البئر والتحول) مثلا ـ فبالرَغم من بعض الكتابات الاحتفائية والمقاربات النَقدية التي خصته الا انها ظلت بعيدا عن الذائقة والمعرفة التي صاغته، انني أحيانا أعيد النَظر في مفهوم بأسره وأحيانا أقتص من جدران سميكة تقف حيال حلمي من هنا- ومن النص ذاته ينبع التحدي الحقيقي وبهذا الكيان تتجسد ذات المثقف الذي يملك خاصِيَة الحركة الواعية في مجتمعه لأنَه في حالة قراءة دائمة للأشياء والمفاهيم، انه يتحرك معها وبها منتجا فكرا شِعريا يوازيها، فان كنت قائدا لجيل ثقافي أو أقف في مقدمته كما قرأتني أنت وغيرك من المهتمين ذلك -لربَما- لكوني الأكثر حضورا سواء من عدد كتبي وجدَة ما أطرحه خلالها أو من أعمالي الأخرى التي ظلت رافدا لتجربتي الثَقافية أو من حضوري في رابطة الأدباء والكتاب من خلال رئاستي لها في مدينة الزاوية ثالث أو رابع المدن الليبية ولا سيما أنني من جيل التسعين فذلك أمر متروك لك وللآخرين، أمَا أنا فمنشغل حتَي الاعياء في القراءة والكتابة وبهموم الثَقافة والعمل الأهلي أولا وثانيا والنقابي الثقافي أخيرا ولي في ذلك رأي ورؤية وأحمد الله علي أنني أنبذ بالفطرة الظهور المجاني أو الذي بثمن كما أنبذ التعامل مع ظاهر الأشياء ربَما لأن زهدي ظل منهلي الأول بما مدني به من قناعة واكتفاء وعزيمة وتأمل مستمر رغم كل الظروف المرعبة التي يمر بها مثقف عصامي.
أريد أن أقول لَكَمْ أتمني أن يتأسس في ليبيا جيلٌ أو دفعة أو زمرة أو أيَة كلمة تدل علي أكثر من اثنين يحمل مبدأ المبادرة ولأجل الثَقافة في مفهومها الانساني الشامل في ليبيا وأن يكون معافي من الأتراح والعقد النفسية والصراع من أجل الريادة ـ الهيمنة في رأيي ـ فليس ثمَة من ريادة خارج النص والأسماء التي صنعتها مؤسسات الثَقافة هي أسماء ادارة وليست حالات ثقافية، هم لقطاء الثَقافة اذ لا يخصهم النص في معناه الأبدي الذي هو بالضرورة ابداعي.
هل تفكر في الطرف الآخر، المتلقي؟
المتلقي مشروع مفترض أضع أساسات الحوار معه ولا استعجله حتي أواصل التنفس بمنأى عن الضجيج!!، فأحيانا يبدو لي أن المتلقي عليه وحده ملاحقتي، أن يهتدي الي وحين يلتقيني سيجدني قد أهديته سلامي منذ البدء منذ كنت طفلا وأنا أحلم بكتابة شيء ما. في مقالاتك التي ضمنتها كتابك (مطالعات وهوامش) ركزت علي الجانب الاجتماعي في تناولك النَقدي لبعض التجارب الي أي مدي يسهم ذلك في انجاح فعل الكتابة كفعل نقدي؟ ان مقالاتي علي نحو ما تحمل اقتراحي الحي الذي به استعيد ذاكرة الثَقافة اليومية ومراجعاتي لما يكتب ويصدر وهي تفقداتي أيضا وأنا من أولئك الذين يقترحون الانطلاق لكتابة نص مبعثه تشابك الثقافي بالاجتماعي، وأنا بحاجة الي القول بأن ما أكتبه هو تهميش علي متن ثقافي هو تجربتي مع سؤال الشِعر، فحتَي وإن طغت كتابتي في النَقد والرصد والاحتفاء فهي في نهاية المطاف لا تعدو أكثر من اجازات تتخلل عملي في حقل الشِعر.
لكن، دعني أضيف أن أهمية الاجتماعي تكمن عندما يتخلل الثقافي في تبديد صرامة هذا الثقافي وجدته وعلي ما يفعله هذا الاجتماعي كإغناء، كحالة جذب للمتلقي الذي يلوذ وجدانه بغيبيات النص، فالمتلقي يحتاج ما يحقق له هذه اللذة وفي مقابل ذلك يذخر استعدادا للتعاطي مع النص في جدته التي هي المتن، أجدني أقول إن علاقة الثقافي بالاجتماعي عندما تتكون في آتون آلية منتجة وخلاقة تكون الأقدر لصياغة كتابة حية وفاعلة، علاقة الاجتماعي بالثقافي ليست لوحة اشهارية عند مفترق طرق بالنسبة للطريق مثلا، بل هي الأرصفة والانارة معا للطريق، فهل يعقل مثلا أن يكون طريقٌ ما بدون هذين الشرطين الحاسمين لمعني الطريق الذي يؤدي مهمة الهداية.
كونك شاعرا تمارس العمل الثقافي بكافة أشكاله ما هي علاقتك بالسلطة؟ وكيف تري علاقة المثقف بالسلطة؟
لكل مفهوم أو كلمة رحلة عبر تاريخه أو تاريخها ينتقل عبر نقاط مفصلية بين دلالات مختلفة – فالسلطة مثلا وعلاقتها بالمثقف لم تعد تعني الانصراف البديهي الي ثنائية المثقف الذي يقبض علي المعرفة وحده أو الذي وقع في المعرفة ونقيضه الحاكم بأمر الله أو بأمر الشيطان، الذي بدوره يمتلك جيشا من الجلادين، أمَا الآن فالمثقف قد يكون الحاكم نفسه أو آلية انتاج الحكم هذا اذا ما اعتمدنا علي وصم من يمتلك معرفة ما بالمثقف. والسلطة في المقابل قد تكون ثقافة وقد يكون مصدرها مثقف فرد. بالنسبة لي أعتبر الأكاديميين والباحثين الكسالى منهم والناشطين علي حد السواء وغيرهم من القطاعات المشتغلة في حقول البحث العلمي ليس من الضروري أن يخصهم مصطلح المثقف الذي في معناه الأصيل الذي يمتلك نظرية رأي أو حراك مصدره الهم الانساني وهو غير الناشط الحقوقي أو قائد المظاهرة، فالمعرفة المعلوماتية نوع من الاشتغال المهني.
أمَا اذا تطرقنا لعلاقة المثقف بالسلطة في مفهومها التقليدي والسائد وانطلاقا من أرضية عربية فأود أن أسجل هذه الأسئلة، هل ثمة من حرية رأي؟ وهل للنص – الثقافي من شفاعة؟ وهل ثمَة من وسائط تعيق محق المثقف، أقصد تحميه؟، ثمَ كم هو عدد السجون والمخبرين والميزانيات المرصودة في عالمنا العربي القائم بوظيفة تدجين الفكر الأحدي، والسؤال الأعمق من المخول بممارسة حق الوصاية الفكرية باسم المفاهيم والعقائد، إنها أرتالٌ من الأسئلة التي تترصد ذاكرة المثقف العربي أينما حل وتضعه دائما في وضع المقارنة بينه وبين الآخر الذي ينتج خارج فلك هذا الرعب الكاسح، علاقة معقدة ومتشابكة لها من التاريخ الحدث المتناقض ولها من الآني الأسئلة المُرة.
القدس العربي | 7 أبريل 2006م