النقد

قراءة في عالم نجوى بن شتوان الفكري – الجزء الثاني

رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) للروائية نجوى بن شتوان
رواية (كونشيرتو قورينا إدواردو) للروائية نجوى بن شتوان


تأويلات مختلفة

ريم واختها التؤام طفلتان تعيشان في اسرة ثرية من اسر الارستقراطية الليبية التي عرفتها الحياة الليبية قبل العام 1978م، ولكنهما تعيشان لحظة قرار النظام بتصفية هذه الطبقة لصالح طبقات أخرى افقر، وان بدا هذه القرار غير مبرر على لسان جد ريم الذي اعتبر ان البلاد غنية بماي كفي لتجنب اتخاذ قرار تصفية طبقة لصالح طبقة أخرى، وسريعا تعمد الكاتبة الى وضع بطلتها السارد الرئيسية في أجواء تحدي المستحيل، عائلة ضد نظام كامل بجيشه واعلامه وامنه ورجاله الخ، فتتلقى العائلة صفعات متتالية اشبه بصفعات القدر فمن هو الفرد في العالم الثالث ليستطيع مواجهة نظام حكم مواجهة دولة، الفرد هنا لا شيء ليس قادرا الا على تلقي الضربات، يتحول النظام الى قدر اعمى الخطى وتتحول حياة العائلة الى سلسلة متواصلة من تلقي الضربات الضربة تلو الأخرى من تأميم المصنع الى القبض على الاب الى قتل الاب الى افتكاك عمارة الجد الى لا تتوقف الضربات التي يوجهها النظام بشكل يبدو متعمدا نحو العائلة ولا تتوقف العائلة عن الإحساس بالضعف وقلة الحيلة والكره والبغض ضد نظام أمم المصنع وافتك العمارة وقتل الاب لكنه مع ذلك ترك الجد حيا وترك الام حيه فشكل هذا الثنائي حصنا للبنتين واختهما امينة الأكبر سنا واخيهما أيوب وصمم الجد الذي اصبح أبا بديلا ان يوفر فرصة دراسية لابنته في إيطاليا في الاثار وتكبر البنت فعلا وتذهب لإيطاليا للدراسة وتتزوج إيطاليا وتقرر ان تعود لتفسر لامها زواجها من الإيطالي فتعود  اثناء فترة الحرب في بنغازي في العام2016 م وتموت وهي في الطريق لمصر لتعود الى زوجها وابنتها قبل ان تخبر أمها وتفسرها لها وتبرر!!!

تلك هي الفابيولا، الحكاية ملخصة في ثلاث محطات رئيسة، بنت مضطهدة تفر لإيطاليا ثم تعود لتموت في بلدها.

أي باختصار نحن امام مأساة بكل معنى الكلمة امام كونشيرتو لكنه حزين جدا!

لحظة القراءة الأولى: ما قبل حاجز ال صفحة187

حتى الصفحة 187 لن تجد في رواية كونشيرتو قورينا إدواردو اية إجابة عن سؤال من هي قورينا إدواردو هذه، ولكن يمكنك مع عدد الصدمات التي مرت بها العائلة الصدمات المتتالية والمتلاحقة ان تقدر ان هذا الصوت الذي لا يتوقف بل يتعالى تدريجيا بلحن حزين مأساوي هو   لاشي الا كونشيرتو متطاول قد لا يتوقف .!!-

من هي قورينا هذه؟ هل هي قورينا المدينة؟ وان كانت المدينة فلما تدعى باسم رجل إدواردو ما علاقة إدواردو بقورينا وبالرواية وبريم التي تحكي احداث الرواية ؟!

لن تجد إجابات فورية جاهزة سوف يكون عليك انتظار قراءة بقية الرواية لتعرف وتفهم وتفسر ومع ذلك وعند هذه النقطة بالذات يمكنك ان تتمركز وتتوقف عن القراءة ومحاولة التقاط ايماءات هذا الجزء من الرواية، محاولا فهم نفسية الطفلة ريم لربما يسهل هذا فهم المرأة التي سوف تقابلها بعد صفحة بيضاء او هكذا يمكنك على الأقل ان تسوغ هذا التوقف غير المبرر ان تفسر لنفسك قطع الاستمتاع برواية تمهيدا للفهم، اكاد اجزم ان اي قاري لن يخاطر بقطع سيال المتعة هذا مقابل شيء عسير وغامض ويبدو ضبابيا جدا يدعى الفهم!

لكن قدر كل ناقد ان يلعب اللعبة الثلاثية هذه ان يعيد كتابة الرواية بعد كاتبها وان يقرأها كقارئ عادي وأيضا ان يفهم ويفسر ويؤل!

كونشيرتو الصفعات هذا تبدو فيه الطفلة وعائلتها بمواجهة نتيجتها محسومة سلفا، فمع كل صفعة يتأكد أكثر فأكثر ان الرواية هي من نوع الماسي الاغريقية، تلتصق ريم أكثر فأكثر بتوأمها وان كانت التؤام هذه في ال 187 هذه لا تكاد تتحدث الا بقدر يسير وهذا سوف يتغير لاحقا، ويمكن حتى مع هذا الجزء المقتطع القول ان ريم وتوأمها هما شخصية واحدة لكن ريم تمثل الجزء السلبي الصامت ولينا الجزء الإيجابي الفعال، لكن ريم التي تمارس الصمت على مستوى داخل الحدث الروائي نفسه هي من تمارس الحكي هي المتحدث الرئيسي الينا كقراء نحن نرى كل هذا العالم الروائي عبر عينيها وعبر التقاطاها وعبر كلماتها، فيما التؤام الأخرى لا تحكي بل تكتفي بدورها داخل النص كمتنبئة بالأحداث التي سوف تقع لاحقا، بالماسي القادمة.

البطلة ريم التي تحكي لنا تعاني التأتأة في داخل الحكاية لكنها مع ذلك ستظل تحكي لنا كل الرواية او على الأقل حتى هذه الصفحة الهوة السوداء المفتوحة على العدم.

خلال هذا الجزء الذي نمارس قراءته قبل اكتمال الاحداث، لن نقع على شخصية إيجابية قادرة على الفعل ولا حتى شخصية وحيدة كل الشخصيات تعاني العجز التام عن الفعل تمارس الاستسلام لأقدارها.

عبر إجراءات النظام الثوري التي تنطلق مع ال عام1973م ولا تتوقف مع حقن الأطفال بالإيدز في العام 1992م بالرغم من انه تمت محاكمة الطبيب والممرضات المسؤولين عن القضية الا ان البطلة التي تحكي كما لوكان من قتل ابيها هو نفسه من حقن الأطفال طبعا هنا لا وجود لمحامي يمثل وجهة نظر النظام الذي أصبح اليوم وهنا قادرا على كتابة مأساة تخصه يلعب فيها دور البطل المأساوي الذي تلقى صفعات التآمر الدولي والداخلي وظل واقفا صامدا فلكل روايته ولكل فكرته عن نظام قد ذهب!

بالنسبة لي قرات في هذا الجزء الذي اتعمد التوقف عنده و معه قرات مواقفا ابعد ما تكون عن مواقفي الفكرية والأيديولوجية لكن متعة الحكي النجووي منعتني من الانحياز لأفكاري المساندة للفكر الاشتراكي و دفعتني  لأكمل القراءة فلا شيء يعادل متعة قراءة رواية مهما كانت بعيدة عن تصوراتك الفكرية او اختياراتك العقلانية، الرواية بهذا المعنى هي خطاب يتجه نحو  القلب نحو دواخلك لا نحو عقلك، لا يمكنك ان تقرا وانت تحاكم أفكار البطلة بل ان تسمع وتشاهد وتتذوق ما يحدث معها وان كان شيئا حزينا قاسيا ذي وقع خاص ومؤثر، للعقلانيات – ان قبلنا القسمة الكلاسيك المستهلكة- مقالات وللمتعة ادب وروايات!

الرواية بهذا المعنى ليست الا رواية!

ومع ذلك ثمة تفاصيل أخرى أقرب الى نفسي لا يمكنني الا ان اقر انها تشكل جزءا مما عشته لعقود، فالعلاقة الثنائية عبر الهاتف، مصراتة بنغازي، بنغازي مصراتة ظلت جزءا مما عشته لعقود ولاتزال، وان كانت فترات طفولتي شهدت ثلاثة عشر عاما من الرحلات في السيارة بين المدينتين مع كل عطلة صيف! هذا الملمح الجزئي الذي يوحد بيني كقارئ وبين البطلة ريم يتداخل في ذاكرتي مع رائحة البيض المطبوخ والعصير والشاهي والقهوة التي تحشر جميعا في المرسيدس 200 لكن الذهبية لا البيضاء هذه المرة بل تمتد حتى رائحة الروميس (سيارات البيجو الأجرة التي تقضي عمرها تنهب الأرض نحو مصراتة ثم تعود لبنغازي لتعاود السفر قبل حتى ان يهنا السائق بنومة القايلة المقدسة!

ثمة بضعة تفاصيل تشكل خلفية اللوحة التي تجري ضمنها الاحداث لكنها مع ذلك تسهم في صناعة متعة لاتحد ولا تختبر وقد نفشل حتى في تفسيرها!

يبحث القراء دائما عن نقاط ارتكاز يعزون اليها الإحساس بالمتعة من بينها تذكر بعض احداث الطفولة، وتسهم هذه التفصيلة التقنية الصغيرة في انشاء وتوثيق العلاقة بين القارئ وبين النص، وبالنسبة لي اتقنت نجوى بن شتوان صناعة هذه التفاصيل الروائية الصغيرة الممتعة، فماذا عنك أيها القارئ ايتها القارئة؟!!

عليك بالتأكيد تجربة قراءة رواية كونشيرتو قورينا إدواردو.


مقالات ذات علاقة

جمال التناقضات

غازي القبلاوي

التمنّع في قصة محمد الزنتاني… نص “القرار” نموذجاً

المشرف العام

لماذا تبهرنا كتابات الفـاخري؟*

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق