محمد البنا | مصر
النص: حقيقة ما حدث
للأديبة الليبية: أسماء القرقني
عندما توقفتِ السَّيَّارةُ أمامَ دارِ النشرِ سحبت بشكلٍ لا إراديٍّ القبَّعةَ التي أرتديها لتغطِّي جبيني وجزءًا من وجنتي، نظرت إلى المرآةِ الجانبيَّةِ ببعض الرضا، النظَّارة السوداء الكبيرة تخفي عيني، ، لحيثي الكثة توراي معالم ذقني ،
مرت في ذهني تلك الايام الخوالي سراعاً، كيف كنت وكيف اصبحت ؟ زفرت زفرة حارة ” الرجل الثاني” لا شيء يدوم.
لم أتخلَّ عن حذري، وكلِّ القلقِ الذي يُلازمني إلَّا عندما رأيت الكتاب، لم أصدِّق أنه أصبح حقيقة، لقد أوفت دار النشر بوعدها بعد أن رفضتني كل دور النشر الأُخرى، كلُّ شيءٍ كما أردتُ، الورقَ، صورةَ الغلافِ، والأهمَّ من هذا كله العنوان اللافت (حقيقة ما حدث)، بهكذا عنوانٍ سأستدرجهم للقراءة وتوصيل ما أريد أن يصل، أمحو بعض افعالي، أزيحُ عن كاهلي إرثاً ثقيلًا، أمر في الشوارع دون خوف، أتمكن من السفر وألتقي عائلتي، ووووو…
بدَّد المسؤولون في الدار مخاوفي، بدوا واثقين عندما دحضوا اعتراضي وأصرُّوا على أهمية حضوري توقيع الكتاب:
– سندعو قلةً نثق بهم، سيكون لهم دورٌ مهمٌّ في نشر الكتاب وترويجه، لا تنسَ الموعدَ.
“كيف أنساهُ وهو حلمي طيلة السنوات التي قضيتها في السجن أتلقَّى شتَّى صنوف التعذيب والإهانات، أنتظر اليوم الذي أخرج فيه لأكتب الحقيقة .
(الحقيقة !!) عليَّ أن أعترفَ أني لم أكتب كلَّ الحقيقة، بل لم أكتب سوى جزءٍ تافهٍ منها، هناك أشياءُ لا تقالٌ، لكنِّي على الأقل ذكرت موقفين أو ثلاثة من المواقف المصيرية دون تزييفٍ، شيء لم يجرؤ أيٌّ من رجاله الآخرين على فعله..
في الليلة السابقة للموعد، فتحت الكتاب، قلبت صفحاته في عجلة، توقفت عند الفصول الأخيرة، جلُّها مواقف شخصية بيني وبين الزعيم، بدوت فيها رافضًا لتصرُّفاته، شاجبًا لأفعاله ، قرأت وأنا منتفخ كفقاعة:
(لا تفارق يده عصا من الأبنوس الأسود اللامع في مقدمتها رأسُ أسدٍ ذهبي، يقول إن هذه العصا تعبِّر عن قوته وغضبه، يلوّح بها لمن اقتربت نهايته، أغلب الوقت يرتدي بزةً عسكريَّةً بيضاءَ اللونِ مزدحمة بالأوسمة والنياشين، يحذِّرنا جميعًا ألاّ نرتدي ملابس تشبه ملابسه أو حتى مطابقة لها في اللون عندما نكون معًا في اجتماع أو ملتقى، مازلت أتذكَّرُ جيِّدًا كيف رفضت للمرة الأَولى طلبه بتغيير ملابسي، لم آبه لغضبه الشديد، عوَّدته منذ ذلك اليوم أني لن أخضعَ لرغباته، كنتُ الوحيدَ من حاشيته الذي لا يخاف بطشه وجنونه، ويرفض آراءَهُ صراحةً ودون خوف، الوحيدَ الذي يُجاهرُ باستنكا….)
انسدلت جفنايَ، استسلمت لنومٍ مضطربٍ متقطِّعٍ مزدحمٍ بالكوابيس.
اصطحبني حارسي الشخصي في الموعد المحدد، في الطريق فتحتُ حسابي على الفيسبوك، تفاجأتُ بخبرٍ على إحدى الصفحات المغمورة:
(الطاغية حيٌّ يرزقُ، سيرجعُ قريباً إلى بلاده التي عمتها الفوضى بعده لسنوات طويلة ، وسيكون تحت حماية إحدى الدول الكبرى).
سَرَتْ في جسدي ارتجافةٌ قويَّةٌ عزَيتها لبُرودةِ المُكيف.
“ما هذا الهراء؟ جثته رآها العالم بأسره ، شائعاتٌ سخيفة”
حان دوري لإلقاء كلمتي، تنفَّستُ بعمقٍ لأقضي على التوتر المتشبِّث بي، الخبر الذي قرأتُه زعزع طمأنينتي رغم يقيني أنه مستحيل، وقفتُ على المنبر وسط فضول وغضب ، اوشكت على البدء ، شدَّ انتباهي شخصٌ يجلسُ في الصف الأول للحضور، يرتدي بزةً عسكريةً بيضاء اللون، يمسكُ في يده عصا أبنوسيَّة، يضعُ وردةً سوداءَ كبيرةَ الحجم في عروة سترته، لم أتبيَّن وجهه فقد كانت قبعتُهُ تخفي جزءًا كبيرًا منه، قبل أنْ أسحبَ نظري بعيدًا عنه رفعَ رأسَه وحدَّقَ بي، تلاقت أعينُنَا للحظاتٍ خلتها دهرًا، شعرتُ أن قدميَّ تخوران ولا تقويان على حملي، فركتُ عيني بقوةٍ غيرِ مصدِّقٍ، (الرجل مات وشبع موتًا؛ كيف لي أن أصدِّقَ شائعاتِ الفيسبوك وأكاذيبه؟
لا لا، ليته كان كلامًا على الفيسبوك، (هو)، لا مجالَ للَّبْسِ، لا يمكن أنْ أُخطئه.)
شعرتُ بعرقٍ باردٍ غزيرٍ يتصبَّبُ من جسدي، نضبَ ريقي وجفَّ عندما توجَّهَ نحوي ولوَّحَ لي بالعصا، اقتربَ منِّي، مَدَّ كفَّهُ باتِّجاهي، أغمضتُ عينيَّ بقوَّةٍ، …..عندما فتحتهما لم أجده..!
شعرتُ وكأنِّي على وشكِ الإغماء.. الحضورُ يحدِّقونَ بي، ينتظرونَ مداخلتي، الكلمات تحجَّرت في فمي، وقفتُ متسمِّرًا كتمثال، بالكاد خرج صوتي عندما اعتذرتُ متحجِّجًا بحاجتي إلى دخول دورة المياه، دونَ أنْ أفكرَ اتَّجهتُ إلى الخارج، لم أبحثْ عن حارسي الشخصيِّ، استوقفتُ تاكسي على عجل وأنفاسي تتسارع كما لو كنتُ في سباقٍ للركضِ:
– أبعدني عن هذا المكان بسرعة.
لم تتوقف اتصالاتُ دارُ النشر بي طَوَالَ الطريق، لم أقوَ على الردِّ.. ضجيجٌ في رأسي يكاد يقتلني.
(هل أثَّرت في عقلي تلك السنوات ؟؟ قطعًا لا، كلها هلوساتٌ، لم يتحرَّكْ أحدٌ منَ الحضورِ من مقعده، لم تحدث أيةُ ضجَّةٍ، لم يرَهُ أحدٌ غيري وإلاَّ لانقلبت القاعةُ رأسًا على عقبٍ) شعرتُ بالهدوء، انتظمتْ أنفاسي المضطربة رويدًا رويدًا. تمالكتُ نفسي .
وضعت يدي في جيب سترتي لأخرج علبة سجائري، شيءٌ ما وخز أصابعي بقوَّةٍ، عاد قلبي يدقُ بعنفٍ ..
بينَ متعلَّقاتي وأوراقي تمدَّدَتْ وردةٌ سوداءُ كبيرةُ الحجمِ..!
أسماء القرقني / البيضاء، ليبيا
القراءة :
* لنبدأ بالمساحات الفارغة أولًا حتى تكتمل المشهدية الكلية للنص، ولنعرف ما الذي حدث في الحقيقة للرجل الثاني/ بطل القصة، وتوابع صراعه السياسي – معارضته – مع الرجل الأول / الزعيم ذي البزة العسكرية البيضاء والعصا الأبنوسية والوردة السوداء، وبترتيب الفقرات زمنيًا نخلص إلى أن بطل قصتنا استمر بل واستمرأ تحديه العلني للزعيم إلى أن نفد صبره عليه، فسجنه، ومن بعدها- أثناء السجن- تغيرت الأوضاع وأُطيح بالزعيم ومن ثم قتله عيانًا بيانًا…هذا يكفيني كمدخل لسبر الأعماق المتخفية داخل سراديب المتن المخاتل، والمربك أحيانًا، ولا أقول المرتبك.
* مات الزعيم الطاغية واقعًا مشهودُا لا لبس فيه، ولكن هل مات أثره داخل وجدان بطل قصتنا؟
عندنا في مصر مثل شعبي يقول ” اللي يخاف م العفريت يطلع له “، والسؤال هنا ..هل كان بطلنا المعارض دائمًا الفخور بتفرده في ذلك..يخاف من الزعيم ؟ ليقفز من داخله متمثلًا كحقيقة مادية تراها عيناه وترتعد لها مفاصله!
ظاهر النص يجيبنا جهارًا أن لا، بينما سطوره توحي لنا – كقراء – أن خوفه نشأ لحظة عزله من منصبه، ونما وترعرع حيث كان ماؤه تعذيبًا ومهانة، إلى أن صار الخوف ماردًا يسيطر على حواسه، فأحجم عن ذكر التفاصيل كاملة، بل وتغافل عن عمد ذكر أحداث كثيرة تعرض لها…لم ؟….لأن رهاب الألم والإهانة وتحقير الذات؛ لا يزال الزعيم يعيش داخله رغم موتته الحقيقة المؤكدة، فاختصر الكثير الكثير في مذكراته( الكتاب)، وتمثّل له في أول ظهور علني أمام جمهور؛ في ايحاءٍ مشهدي بتبادل الأدوار بينهما ولو للحظة؛ الرجل الثاني على المنصة والزعيم يتصدر جالسي الصف الأول؛ لم يقو على تحمل تلك الوضعية المخادعة ((كل شيءٍ كما أردتُ، الورقَ، صورةَ الغلافِ، والأهمَّ من هذا كله العنوان اللافت (حقيقة ما حدث)، بهكذا عنوانٍ سأستدرجهم للقراءة وتوصيل ما أريد أن يصل، أمحو بعض أفعالي، أزيحُ عن كاهلي إرثاً ثقيلًا))، لينهار ((شعرتُ بعرقٍ باردٍ غزيرٍ يتصبَّبُ من جسدي، نضبَ ريقي وجفَّ عندما توجَّهَ نحوي ولوَّحَ لي بالعصا، اقتربَ منِّي، مَدَّ كفَّهُ باتِّجاهي)).
* البنية السردية :
* اتخذ المتن الشكل الدائري بتصرف وحنكة، فهو لم ينته حيث بدأ معنويًا ( الحالة النفسية/ انشراح ، ارتعاب)، لكنه انتهى حيث بدأ ماديًا ( الوردة السوداء/ رمزية الزعيم ).
* الأسلوب السردي واللغة :
* تميز الأسلوب السردي بوجدانية أطرت لها الكاتبة بعناية اختيارها للكلمات الدقيقة المعبرة عن الحالة النفسية المتقلبة لبطل قصتها، وقدرتها الملحوظة على بناء الكادر المشهدي بعنصريه الخارجي والداخلي، فبدا السرد ناطقًا نابضًا تتداعى منه لحظات التيه والانشراح متزاملة مع لحظات المعاناة والقهر النفسي، ساعدها في ذلك اقتناصها البارع لشخصيتين حقيقيتين ( القذافي، عبد السلام جلود )، لتنسج من خلافهما الذي كان ظاهرًا أقصوصةً متخيلة؛ كأنها ” حقيقة ما حدث “.
*أما اللغة فجاءت سلسة سهلة خلت من الاستعراض اللغوي، وناسبت تمامًا مجريات الحدث وخوالجه النفسية، وماهيته الظاهرية – المشهد السردي- المعتبرة.
* المعالجة :
* اعتمدت القاصة لمعالجة فكرتها ( الرهاب) المراوحة النفسية بين ماضٍ بعيد( تيه وفخر)، وماضٍ قريب ( سجن وتعذيب) وحاضرٍ انقسم إلى جزئين تلازما برباطٍ وشيج ( إصدار الكتاب)، وهما مكتب دار النشر( حاضر فرح وسعادة )، و مسرح حفل التوقيع( رهاب وارتعاب ).
* التقنية السردية :
* تيار الوعي السردي، وقد وفقت القاصة في اختيار تلك التقنية السردية لأنها الأنجع سرديًا في توثيق الحالة النفسية واضطرابها بترددها المرضي الدائم بين فرح وحزن وانشراح وكبت، وحقيقة ووهم.
* الخلاصة :
* نصٌ سردي ينتمي لنوعية النصوص النفسية حصريًا، وتلك النصوص تتطلب مهارة خاصة لدى الكاتب ليتمكن بجدارة من سبر الاضطراب النفسي للشخصية محور الحدث، إذ ينفرد النص النفسي عن النصوص الأخرى ببطء إيقاعه وتدفقه الأفقي، إذ يستعيض عن الديناميكية السردية المادية بالديناميكية الوجدانية المتصاعدة رأسيًا أو الديناميكية الوجدانية المتأرجحة صعودًا وهبوطا.
القاهرة: في 3 أكتوبر 2024