مسرح

الشايب والشاب

مسرحية قصيرة

من أعمال التشكيلي الليبي خالد بن سلمه


ذات مساء في آواخر ايام الخريف، عجوز يجلس على مقعد قديم، جاوز السبعين من العمر، يضرب شعره الشيب وقد تمكن منه، على عينيه نظارة اطارها بني مصرية الصنع، بيده مجلد من أعمال يوسف ادريس يقرأ بتركيز متأجج قصة” بيت من لحم”، يرتدي جلباباً اندلسياً على وجهه ابتسامة هادئة، قبالته نافذة واسعة يظهر من خلفها القمر وبستان من شجر البرتقال والرمان، بجوارالعجوز طاولة عليها مصباح كهربائ مزخرف بشتى الألوان  يشع بنور خافت، تحت النافذة هناك مكتبة رفوفها مزدحمة بالكتب، فوق سطح المكتبة صورة لطه حسين و أخرى لنجيب محفوظ،  بين المكتبة وجدار الغرفة الأيمن هناك كنبة كبيرة فوقها بعض الكتب والمجلات ألأدبية والشعرية، هناك باب كبير يفتح على صالة خلف الجدار الأيسر، في نهاية الصالة مطبخ تعبق منه رائحة حبق الحساء وبخور الصندل و”الوشق”، بالغرفة سجادة فارسية قديمة قدم بيته العتيق، فصل الشتاء على الأبواب، ليلة الخميس، موسيقى كلاسيكية لـ ” رحمانوف” تسري في الغرفة، العجوز متفائل كعادته، يحدث نفسه: كل شيء على ما يرام، هذا مساء رائع.. يدخل للغرفة شاب فارع الطول، حليق الرأس على النمط الحديث، يحمل نقال بيده ، صوته قوي، يتكلم بسرعة لا تكاد تُفهم، مشدود القامة،يجلس على مقعدٍ يقابل مقعد العجوز، منهمك في نقر شاشة نقاله، انتبه له العجوز و حيّاه، للعجوز صوت عميق مبحوح طوال الوقت. توقع الشاب في الحال حديثاً مع جده .

> العجوز: (بصوتٍ خافت مَبْحوح) أنست، كيف أحوالك؟

– الشاب: (دون النظر إلى العجوز).. بخير، رائحة الريحان منعشة.

> العجوز: يبدو أنّ يومك كان رائعاً أم هو الريحان؟

– الشاب: ماشي الحال بخير والحمد لله، رائحة الحبق تفتح الشهية.

> العجوز: (ينظر باهتمام إلى النقال الذي يحمله الشاب بين يديه)أجل تبعث على الجوع، جدّتُكَ الحاجة لا يعلو شيء على حساها.

– الشاب: ربي يحفظها ويرعاها ويحفظك يا جدي.

> العجوز: تسلم (يتابع النظر على النقال)  أعرف أنّك شغوف بالذي بين يديك!

– الشاب: ( يقين أن حدسه صدق ) طبعاً، مثل بقية الناس هذه الأيام.

> العجوز: لا بأس، كن كبقية الناس، ولكن لا تكن أحمقاً.

– الشاب: ولكن، ولكن (ضاحكا وفي ارتياح) كلمتك الأثيرة، طيب ولكن؟

> العجوز: (يضع الكتاب على الطاولة المجاورة) ولكن لا تدع نقرات أصابعك تخدعك حتى لا تشعر بالإنفصام والإنفصال عن ذاتك. ( يضيف على نحو مرير) تسجنك بين الشبهة والتحقق.

– الشاب: ( بصوت هادئ) ماذا تعني، لا أفهم.

> العجوز: الصور الكلمات المقالات اليوتوب الدعايات الزخرف الأحرف الملونة ، الإدراك الإفتراضي ، المقولات المحتجبة المناقشات العامة التي لا تقول أيما شيء، حسناوات التمثيل من كل مكان ، أمر يشتبه فيها أمر العراقة والتماسك.

– الشاب: ( بثقة كبيرة كأنه محتج) ماذا عنها، عادي، لا غرابة في ذلك، عالمٌ بهيج، خارق للعادة يزحف على قلب الإنسان وروحه ، انبلاج الجمال وسط الزحام.

> العجوز: ( ضاحكاً بحرارة ) لا غرابة، لا بأس، غير أنّ ثمة غرابة، العالم البهج متصادم في زحفه المتسارع. ألا تخشى من فقدان الوجدان والضمير والذوق والحياء؟ّ

– الشاب: (مقاطعاً كلام العجوز بأدبٍ ) كيف غرابة ولا غرابة في آنٍ وما التصادم وما الوجدان والذوق والضمير ، نحن نعيش مع سائر الفنون المتداولة؟

> العجوز: (يسعل عدة سعلات) كل ما تراه متاح في كفك وبين يديك، ما تقرأه ما تسمعه ما تشاهده وليد لحظته ثم يختفي وينتهي نظل نزدرد كل خاطرة وشاردة واحياناً ما لا يُعقل ، ألم تقل إنّه زحف ؟ ( يضيف بنبرة حادة) ننشغل بلحظة واحدة تتبعها كثرة اللحظات فتتلاشى.

– الشاب: ( بإهتمام بالغ) حقاً ، قلتُ هذا .. لا أفهم  لحظات تتلاشى (منهمكاً في النقر على نقاله) كلماتك لا تخلو من الغموض ، معذرةً.

> العجوز: ( يواصل في ارتياح) عذرك مقبول ..  أنت تلاحق ما مضى وتعود اليه، كل شيء يخدعك، الأراء تخدعك، الأخبار تخدعك، الثقافة تخدعك ، السياسة تخدعك ، الفن يخدعك (يتنفس بعمق) الفن يخدعك في ضوء معاكسته لكلمة الفن ذاتها (يدير العجوز وجهه نحو النافذة ويتنفس بعمقٍ مرة أخرى ويسأل في دفعة واحدة ) هل بوسعك أنْ تنتبه لجريان الزمن؟

– الشاب: مهلاً لقد زدت الأمر تعقيداً (يوجّه كل اِنتباهه للعجوز) فما الذي اِذن يخطر بالذهن إذا لم ننتبه لجريان الزمن ؟ ( يتابع بسؤالٍ آخر) هل صدام بين الذهن والزمن؟

> العجوز: ذاك يقينك النقالي (يعتدل في جلسته ببطء) يقينك مخادع لإنك لا تفكر من ذاتك، النت يمنعك من التفكير ، وهذا كما قلت صدام ذهنك مع زمنك، يقين نقالك يخدعك يجعلك تجدف خلف سراب لا تبتغي له بدلا (يسعل بصعوبة ثم يتابع) الغريب أننا في اِغفالٍ للتأمل بإفراطٍ وتفريط. لا شك أنّها غفلة عذبة لك وقصة شائقة وعسيرة لي؟ّ!

– الشاب: (على نحو سريع وبصوت عميق) غير صحيح ، ليس هناك غفلة بل يقظة، كل شيء في متناول الناس في أقل من ثانية أستطيع أن أعرف مثلاً ماذا فعل الرئيس بوتن وأتامل فيما يحدث في الكون من تطور وتغير.

> العجوز: ( بجهج جهيد وتحمس بين الكدر والصفو) يمكنك أنْ تعرف ذلك لكن لا تعرف من هو بوتن والكون الإفتراضي يوحي ولا يصرح ومعانيه تتلاشى وتتبخر وقد يصعب على التاويل.

– الشاب: (متحمساً أكثر) يا جدي الكريم إنّك تزيد الأمر تعقيداً ( بصوت ملئ بالثقة)  قوقل يساعدني لمعرفة من هو في لمح البصر (بصوت أقوى وأعمق) لا غنى لنا عن استعماله إذا أردنا أن نعرف أيّ شيء. ( يتابع بحرارة ويقترب بكرسيه من جده أكثر ) زمنكم القديم ذهب بغير رجعة والناس يزداد عددها تعلقاً بالنت يبحثون دائماً إلى فريدٍ من أحدث التطبيقات.

> العجوز: ( في غاية من الإهتمام) هذا ما أعنيه، يبتلعك النت بكل مرفقعاته وتطبيقاته المفيدة وغير المجدية، فتغلو فيه وتفرط، فالمعلومة قد تعاكس فكرة الواقع ويتحول المذنب بريئاً والبريْ مذنباً (يلتقط الكتاب من فوق المنضدة المجاورة) في هذا الكتاب قصة ليوسف ادريس عنوانها بيت من لحم، أتمنى أن تقرأها.

– الشاب: (مقاطعاً) من يوسف ادريس هذا؟

> العجوز: (ضاحكاً وليس ساخراً) قوقلها فستعرف كل شيء عنه!

– الشاب: نحن في عصر مختلف ومتطور والمعلومة نتحصل عليها في ثوانٍ، ألا ترى بأنك تخاصم هذا العصر وتقف ضده. والله يا جدي في النت تجد جميع اللذاذات والمعلومات.

> العجوز: ( يضحك بصوت عالٍ ) تمييز لطيف بين المتعة والمعلومة ( يندفع في كلامه دون توقف ) لا أقف ضده، أحاول أن أراه، فلا أراه، يفر مني، يكاد يبتلعني، أراه كسلطة مُوجهة تحدد مسار ما ينبغي أن أعرف. إنّه قوة مضادة مستمرة لكينونتي ، أعترف بذلك!

– الشاب: ماذا تعني بقوة مضادة ؟ (يعود إلى النقر على شاشة نقاله باحثاً عن معلومات عن يوسف ادريس مواصلاً كلامه) .. كيف يحدد مسار ما ينبغي أنْ نعرف؟

> العجوز: ماذا ترى من حولك في هذه الغرفة، في هذه اللحظة هذا عالمك، نقالك يخرجك من هذا العالم ، حكاية تمرّ بك تلتقطها خلسة ثمّ تفر منك وتنساها ، أعني يبتلعك دون أن تدري، أليس في هذا تحديد لمسارك حتى الذي تفكر فيه الآن والقادم من شتات الكلمات الرقمية!

– الشاب: كلامك غير مفهوم (يشير إلى أنّه وجد معلومات كثيرة عن يوسف ادريس) لقد وجدت يوسف ادريس أعدك بأن أقرأ عنه وعن ” بيت من لحم”.

> العجوز: (مبتسماً وقد أعطى الكتاب للشاب) إذا سنح الوقت تصفح هذا الكتاب ولن تندم.

– الشاب: (مُتحمساً) سأقرأ ذلك فيما بعد على النت.

> العجوز: (يقول بثقة) يبتلعك فضاء النت، سباق محموم في كل شيء، تنافس للوصول إلى أقصى حالات ” الليكات” المغشوشة كأنما هو هدف الحياة، قلق، صور لا تنتهي، حروب، ورقص، وأزياء،اللحظة الآنية تفر منك، صور تغالب الصور (يدخل في صمت عميق، يقف ويتجه نحو رفوف الكتب، يلتقط كتاباً، إشارات التوحيدي، يعود إلى مقعده متثاقلاً). 

– الشاب: (ينظر باهتمام للعجوز وقد جلب كتاباً) عادي نحب أنْ نتابع كل ماهو مختلف ومشهور ومثير على كل مصادر النت، حسناً ما هذا الكتاب، يبدو عتيقاً ؟

> العجوز: دعك من هذا الكتاب فهو رائع المغزى والآن ليس آونه، أحب قرأته كل مساء (العجوز يأخذ مكانه على المقعد ، تفشى صمت عميق لفترة).

– الشاب: (مُلحا وقد خرج عن صمتهً) في هذه الأيام لا وجود لنا من غير النت.

> العجوز: (منافحاً من دون غضبٍ يكرر بعض كلمات الشاب) لا وجود لنا من غير النت صحيح ولكنه خادع ، ملئ بالغموض والتشظي، الملائكة والشياطين، المجرم والبرئ، الحرية، والعدمية، الثورة والعبثية، صور متناثرة تخدعك، رسائل الكترونية تخدعك، كل الذي تقرأه من أعتى المثقفين يخدعك، كل يبحث عن نوعٍ من البطولة، يزيد الحاح الناس في معرفة شؤون الناس، تنطلق الكلمات في قوة تشبه السهم النافذ المنطلق السريع (يتوقف عن الكلام ويتنفس بعمق وضيف بصعوبة) النت يُعرض مجموع الثقافة للتهديد.

– الشاب: (يبدو حائراً ومُشككاً فيما يسمع) حسب رأيك أنا شخص مخدوع طول الوقت ربما تائه في ثنايا معاني النت ربما متردداً مرتاباً!  

> العجوز: أجل أنت تائه حيران بمعزلٍ عن أيّ فكرة حيوية تتعلق بكينونتك، إلا في حالة واحدة عندما تعترف لذاتك ، أجل، تعترف أنك ونقالك بيدك لا تستطيع أن تتذكر ذاتك لدقيقة واحدة، عندما تعترف بأن النقال يبتلعك بسهولة ويسر عندها يتسنى لك التفكير.

– الشاب: (يُقرب مقعده من العجوز أكثر ويقفل نقاله)  لم يخطر هذا على بالي من قبل، سأحاول، ولكن كيف أكون أخدع ذاتي إذا كنتُ لا أستطيع أن أتذكرها لحظة (يحك رأسه في عجلة) هل سلطة النقال مختبئة إلى هذا الحد؟

> العجوز: (بحرارة) أجل سلطة مختبئة، أحسنت القول، لإنك تكررذاتك في نسيان ذاتك، إنها يا عزيزي سلطة تومئ إلى نفسها من وراء ستار! أجل تُوهمك بأنك حرّ وأنت مُستعبد.

– الشاب: (على نحوٍ مدهوشٍ) لمن تؤمئ؟ و مُستعبد ( مُتحيراً ) كيف؟

> العجوز : إقرأ رواية ” عالم جديد شجاع ”  لـ ……

صوت من الصالة المجاورة ينادي أنّ وجبة العشاء جاهزة، وقف العجوز ساعده الشاب على الوقوف غادر معاً الغرفة و توجها للصالة التي صدر عنها الصوت ، صورتا طه حسين ونجيب محفوظ تبتسمان .

ستار ينسدل

مقالات ذات علاقة

آراء في .. مسرحية بكاء الموناليزا

المشرف العام

مسرحية بلا عنوان

حواء القمودي الحافي

مشهد أول عن البشر.. ومشهد ثان عن الحجر والشجر

أحمد إبراهيم الفقيه

اترك تعليق