قصة

البـديــــل


 

لأن الموقف لا يستحمل المط والإسهاب، وجملة الحدث تنحصر في مراوغة فعل الموت فاندفاع الكلبة، وبكل مخزوناتها الانفعالية كان تلقائياً، فلم يكن بوسع المسكينة سوى تقبل الموقف المشحون بلحظات فزع رهيبة.

ودون إسراف تركت الكاهن يقطع رجلها اليسرى لتلحق برجلها اليمنى التي قطعت منذ حقبة تاريخية رغم مظاهر الفزع لفعل القطع الفجائي، بيد إن الانتصار على الموت المحدق تهون من أجله كل الخسائر المتتابعة، هكذا يقول النبأ التاريخي لكل تشكيل من شأنه أن يكون تاريخياً.

قطع الرجل اليسرى يعنى فشل اتكاءها على خيار السير الأيسر، معادلة التزحف الكامل أضحت كلمة الواقع الذي لا مفر منه.

هذا القطع في منتهى الحكمة – يقول المؤرخ – ذلك كون هذه الرجل صارت مدعاة للأورام والمرض العضال المتتابع، أما قطع الرجل اليمنى في حقبة مضت هو الخطأ بعينه – رغم احتفال شعر إبط الكلبة بهذا القطع.

السبب الكامل وراء قطع الرجل اليسرى كان وقائياً … قال الكاهن أما قطع اليمنى فكان من قبيل الجهل بعلم المداواة، سببه، مشاكلة غبية بين الأمعاء والشرايين، قطع قديم، في فترة رديئة وكفى!!

حكاية ليست عجيبة، هي التي خطها الكاهن للكلبة الفاقدة لرجليها الأماميتين لأنه، ليس ثمة عجب يلحق بقرارات الآلهة والأرباب.. قال الكاهن الحكاية – هي أمر علوي – أن تستخدم الكلبة أثداءها للمشي عوضاً عن أرجلها المفقودة، وإن لم تشأ فإنها ستودع الحركة والتنقل !!

أمر من شأن الرب، قال الكاهن وتابع بقوله محدثاً إياها:

إن أمر السماء إن قبلتيه فلا مرد له، فليست هناك في السماء مثلاً مفردات غريبة وأخرى ليست غريبة، وإنما هناك سياق ومنطق تعجز عن فهمه الكائنات التي تتلقى أمرها من أعلى.

لم يعد أمام الكلبة البائسة إلا أن تختار: إما أن تكون سفيرة لإمبراطورية العجز لزمن سيأتي، أو تكون جندية مقاتلة لآخر لحظة لخصومات الراهن في سجلات مستقبل قد يكون وضيئاً.

مسايسة القرارات العليا لا يعنى شيئاً، عدم الإسراف في حوارات الهامش كبد الحقيقة، فالرب مهما تهجدت وتبتلت له من يعيد لها أرجلها كي تمشى … تقول الاستقراءات

ليس بمقدور الكاهن – إن أرادت – إلا أن يبلغ أربابه متوسطاً لها كي يصير بمقدورها المشي والحركة لكن عن طريق أثداءها ومباشرة تتنازل عن أدوار كثيرة منها إدرار الحليب وصناعات الأنوثة بالكامل.

أمر مفزع … قالت إحدى الكلبات التي لعقها الروع مما شاهدت

وبلغة يؤرق جبينها التعب، وبوجه مذعور مرعوب، مكتظ بالهموم وبعينين مزدحمتين بلا نظر، بإعياء مطلق وكفى.. سألت الكاهن:

هل أفقد أنوثتي كاملة مقابل كسر شللي ؟

أجابها الكاهن:

لك أن تستخلفي ذرية لكن ليس بمقدورك لن تعيشي أو تعايشي أحداً لحظة لذة واحدة.

ولن يأتيك من مجتمع الذكور إلا فرد فقده نظامه مثلك !!

من جديد عاودت السؤال للكاهن:

هل الآلهة أرادت أن تعاقبني ؟

أجابها:

تموت الإجابة عن أسئلة القدر !، هذا قدرك وإن كان هذا عقاب – فلأنك زانية ابنة زنى ولن تنجى سوى الزناة – كما قال مهاجر من ذريتك منكراً ذاته.

وقبل أن تخبره عن موافقتها لتقبل لأن تصير أثداءها هما رجليها، حاولت بمهارة اعتيادية أن تلعب آخر أدوار الأنوثة مع الكاهن نفسه.

دون وعى من الكاهن وجد نفسه يطأها … في اللا وعى سألته بحيلة واحتراف … لماذا الآلهة غضبت علىّ ؟   مسفكاً لقدسية السر ومنشغلاً في فعله، أجابها بقوله: إن الآلهة لم يعد بإمكانها أن تحترمك منذ أن عرفت أن أمعاءك في خصام مع شرايينك منها عرفت أنك لا تستحقي المشي إلى الأمام.

ودون أن يكمل الحديث، قاطعته بسؤال محرج، قالت ها أنت يا سيدي الكاهن تنظم تفعيلات الفسق !!

مخفياً عورته بكومة من الصوف – نهض متعجلاً قائلاً:

ليس من شأنك أن تسألي عن فن العروض عند الكهنة – تعفف الكهنة – وحده – لا يصنع فن التكهن – لا يصنع فناً – العبادة وحدها لا تبتكر فعلاً.. لكن المهم كيف تعبر العبادة عن نفسها – أي كيف يتجلى سياق التكهن بالعبادة – أمراً لا يعنيك مختتماً حواره معها قال:

دون أن تضيف شيئاً انصرفت وقبلت بالقدر، وطفقت تسير على أثداءها.

يا للهول !!.. كل الجارات، الكلبات والليست كلبات قالت.

دون أي توش تلحق بحوارها اليومي مع الحياة صار بإمكانها المشي لكنه حتماً مشى إلى الوراء، ذلك كونها صارت تعتمد على رجليها الخلفيتان كأساس للسير، صارت مؤخرتها مقدمة ومقدمتها مؤخرة وصحيح أن أثداءها صارتا بمثابة أرجل أمامية لكنهما – بإزاحة – أشباه أرجل فليس بمقدورها الانثناء إذ لا مفاصل ولا جهاز حركي لها، مجرد ألياف متصلبة كالعكازين.

لذا صارت تسير إلى مبتغاها بمؤخرتها محاولة أن تدير رأسها المرتبك إلى الأمام كلما سنحت لها الظروف لذلك.

أمر يتعلق باستمرار قراءة معادة للحظة المشي المنصوص عليها في أسفار الخلق الكائناتى.. قالت القراءات.

مفزع حد الفاجعة، أمر هذه الكلبة، لكنه أمر قدر ليكون، فكل مشى جائز الحدوث عندما تضطرب الأجهزة الدورية والتنفسية للكائن.

حتفها أقرب إليها من حياتها.. فالجراثيم لا تفتأ تمتص نخاع عظمها.. لم يعد بإمكانها تحسس الحياة، فخطورة الموقف لا تنبع من كونها رويداً رويداً صارت تفقد أجهزتها الحيوية، الأرجل، الرئتين، العظم، وإنما لكونها صارت تسير نحو بدائية مطلقة.

كل القراءات والمؤرخين والكلبات أنفسهن أجمعوا أن مرض هذه الكلبة غير معدي – أمر شاذ –  يندر تكراره مثار لاحتمالات كثيرة متعددة الأطراف والأغراض شأن هذه الكلبة.

مقالات ذات علاقة

ثلاث مقالات قصيرات

محمد دربي

مـا وراء الحـب

محمد العريشية

ذاكرة زرقاء 1

هدى القرقني

اترك تعليق