حكايات وذكريات – سيرة قلم 41
كنت ومنذ الصغر من أشد المعجبين بالصادق النيهوم.. أتتبع أخباره وأحرص على جمع كتبه ومقالاته وأحفظ العديد من جمله وعباراته عن ظهر قلب.. واستمتع جدا بما كان يرويه أصدقاؤه المقربون منه.. عن طفولته وشبابه وغربته.. وعن عباراته الغريبة الجميلة.
وكم كانت سعادتي كبيرة.. عندما تحصلت ذات يوم على عدد خاص من مجلة جيل ورسالة.. خصصته أسرة تحريرها للأديب الصادق النيهوم.. ضم العديد من المقالات التي كتبت عنه.. كمقالة: النيهوم شاعرا.. ومقالة: النيهوم رساما.. ومقالة أخرى رائعة كتبها الشاعر علي الفزاني عن ذكرياته معه.. بالإضافة إلى مجموعة مختارة من مقالات النيهوم المميزة.. وقد نال ذلك العدد الخاص إعجابي الشديد.. كررت قراءته لمرات ومرات.. واحتفظت به في مكتبتي ككنز ثمين.
وبتأثير كبير مما قرأت له أو عنه.. كتبت في تلك الفترة المبكرة من حياتي.. إحدى محاولاتي الأولى في مجال الكتابة.. وقد كانت خاطرة عن النيهوم وبعثت بها إلى صحيفة الجهاد.. وانتظرت بشغف شديد كي أرى تلك الخاطرة منشورة على إحدى صفحاتها.. لكن ذلك لم يحدث.. فلم ينشروا الخاطرة.. يبدو أنها لم تنل إعجابهم.. أو أنها وقعت في اليد الخطأ.. فقد رفضوا فكرة مخاطبة النيهوم من خلال صحيفتهم.. ولم يعجبوا بكل ذاك التقدير الذي كنت أكنه له وضمنته بتلك الخاطرة.. عرفت كل ذلك من تلك الملاحظة البسيطة التي وجهت إلي من خلال الصحيفة.. والتي يقولون فيها:
(الأخ سعيد العريبي / الذي يشيد بالنيهوم كثيرا ويثني عليه وعلى أدبه.. ويتطلع لعودته إلى بنغازي.. ننصحك بإرسال ما كتبت إلى المعني مباشرة).
في ذلك الوقت لم يدر بخلدي أنني سوف ألتقيه في بنغازي.. وتتوطد علاقتي به.. ويمنحني توكيلا قانونيا.. لطباعة كتبه في داخل البلاد وخارجها.
وأثناء دراستي الجامعية.. كنت أجلس لساعات طوال بقسم المطبوعات الليبية.. أتصفح الأعداد القديمة من جريدة الحقيقة.. لمطالعة مقالاته ودراساته التي كان ينشرها في فترة الستينيات وبداية السبعينيات.. وقد كنت حينها صغيرا ولم يكن الأدب أو الصحف والمجالات.. من اهتماماتي في ذلك الوقت.
ــــ هذا ما اشرت إليه باقتضاب في الجزء الـ 14 من حديث الذكريات.. وها أنذا أقدم لكم الحكاية من بدايتها.. وعبر ثمانية أجزاء كاملة.
زيارة النيهوم لــ بنغازي
بدأت حكايتي مع الأديب الصادق النيهوم في النصف الثاني من عام 1984.. حينما كنت أعمل بمجلة الثقافة العربية.. التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الأستاذ محمد حسن البرغثي.. سفير بلادنا بالأردن الآن.
ففي أواخر شهر يوليو من عام: 1984.. زار الأستاذ الصادق النيهوم مدينته بنغازي ونزل بفندق الجزيرة.. ففكرت بإجراء مقابلة معه لمجلة الثقافة العربية.. لم يكن بيننا تنسيق مسبق.. كانت مجرد محاولة من جانبي.. أطمح من خلالها أن أجلس مع أديبنا المفضل على أقل تقدير.
أخذت قلما وبعضا من الأوراق وتوجهت ــ دون علم زملائي بالمجلة ــ إلى الفندق الذي يقيم فيه.. وحينما وصلت إلى هناك.. كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف.. من صباح يوم الأربعاء.. الموافق من الأول من أغسطس من ذلك العام.
سألت عنه أحد موظفي الاستقبال.. قلت له: أنا أحد الصحفيين العاملين بمجلة الثقافة العربية.. أرغب في إجراء مقابلة مع الأديب الصادق النيهوم.. فاتصل به فوافق بلا تردد.. وسمح لي بالصعود إليه.
سلمت عليه بحرارة.. وسلم علي بتواضع يليق به.. واصطحبني إلى الشرفة.. مفضلا أن تكون جلستنا بمكان جميل مطل على البحر.
قلت له في بداية الحديث: فرصة طيبة ننتهزها لإجراء مقابلة معك.. لمجلة الثقافة العربية بصفة خاصة.. ولمحبي النيهوم بصفة عامة.
فقال لي: أهلا وسهلا بك وبمجلة الثقافة وبقرائها.. لكن أرجو أن تعذرني.. فليست لدي رغبة الآن.. في إجراء المقابلات الصحفية.. وهذا لا يمنع بالطبع من أن نجلس معا.. ونتحاور حوارا بعيدا عن الصحف والمجلات.. وسأجيبك عن أي سؤال تطرحه علي.
استغربت من الوهلة الأولى.. أنا الصحفي الصغير الذي لم يسمع عنه النيهوم من قبل.. أن يستقبلني بحفاوة وكأنه يعرفني من قبل.. ويخاطبني بتواضع كبير.. لم أعهده من مدعي الثقافة والأدب في بلادنا.. ويعاملني بأدب رفيع.. لا يكون إلا من أدباء كبار وقامات كبيرة.
امتدت تلك الجلسة التي كنت أحسبها ستنهي سريعا.. حينما رفض إجراء المقابلة.. إلى الساعة الثانية عشر ظهرا.. حينها استأذنته بالانصراف كي أعود للمجلة.. فقال لي: ما رأيك أن نلتقي غدا وفي نفس الموعد.. فوافقته على ذلك مسروراً.. وغادرت الفندق وأنا أكاد أطير من الفرح.
كنت بحق في غاية السرور والسعادة.. ولم لا.. وقد تحققت أمنيتي بالجلوس مع النيهوم لساعات طوال.. وليس هذا وحسب بل وطلب مني أن نلتقي مجددا.. وقد اعتبرت كل ذلك مكسبا كبيرا لصحفي صغير ومغمور ومبتدئ مثلي…… (يتبع).