دراسات

آخر أيام عرب صقلية

الذكرى الـ14 لرحيل الكاتب الليبي، رائد القصة الليبية وهبي البوري

وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي
وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي

لا خلاف في أن رواسب الفتح الاسلامي لأوروبا، والحروب الصليبية التي دارت على مدى قرون بين الدول الاسلامية والمسيحية في البحر المتوسط، قد ولدت جميعها في نفوس الشعوب الأوروبية شعورا عميقا يتميز بالعداء والكراهية للإسلام والعرب، لا تزال آثاره بادية حتى يومنا هذا، رغم التطور الكبير الذي احدثه العصر في العلاقات ما بين الشعوب، ورغم ما يبذله بعض المفكرين من جهد لإلقاء ضوء جديد على العلاقات العربية الأوروبية، وعلى المساهمة الكبيرة التي قدمها العرب للحضارة الانسانية، من خلال الوجود العربي في اسبانيا وايطاليا. وقد جاء في محاضرة للأستاذ الجليل جارودي القاها مؤخرا في الكويت بأن عصر الإحياء الأوروبي لم ينشأ في ايطاليا وانما في الأندلس العربية.

اذا كانت الأندلس قد فرضت نفسها على التاريخ بتراثها وعلمائها ومفكريها رغم التعتيم الأوروبي المتعمد، فان تاريخ صقلية العربية ظل على هامش التاريخ العربي ولم يحظ بالكثير من البحث والتحقيق وبدأت في إيطاليا منذ القرن الماضي محاولة لإعادة بناء حقبة التاريخ العربي في صقلية باعتبارها جزءا من تاريخ إيطاليا القومي. وكان رائد هذه الحركة المؤرخ المشهور ميكيلي أماري Michele Amari الذي قضى سنوات كثيرة في البحث والتثقيب ليضع كتابه الشهير (تاريخ المسلمين في صقلية) الذي يعتبر الى يومنا هذا أهم مرجع لكل باحث في تاريخ العرب في صقلية. وقد اعتمد أماري بصورة كبيرة على ابن الاثير وابن حوقل وابن جبير، من المصادر العربية، وعلى الوثائق والوسائل والبراءات التي صدرت خلال الحكم الاسلامي وفي العهد النورماني، وعلى الوثائق اليونانية واللاتينية. واقتفى اثره الكثيرون من المؤرخين الايطاليين، ومعظمهم من أبناء صقلية، الذين أغنوا المكتبة التاريخية الايطالية بالعديد من المؤلفات العصرية التي تناولت معظم مراحل الفتح العربي في صقلية وجنوب ايطاليا، والامارات العربية التي قامت في جنوب ووسط ايطاليا، واخبار الغارات العربية على مدن شمالي ايطاليا وسردينيا. وتناولوا كذلك بالبحث الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية في صقلية وجنوب ايطاليا وتأثير الثقافة والعلوم والفن الاسلامي في معظم ايطاليا الجنوبية والوسطى. وكتب أحد هؤلاء الكتاب أن وجود العرب في جنوب ايطاليا قد مكن البلاد من الانفتاح على العالم الخارجي اقتصاديا وأنه حيثما حل العرب حل معهم الازدهار والتطور والتقدم الزراعي نتيجة لتجزئة الاقطاع وتوزيع الملكية على الأفراد(1).

مجد وحضارة ومأساة

ان الوجود العربي في صقلية، الذي دام ٢٧٢ عاما، يمثل صفحة مشرقة في تاريخ العرب والاسلام، صفحة عامرة بالبطولة والتضحية والاستماتة في سبيل المبدأ والعقيدة، وان لم تخل من نكسات حالت دون العرب ومواصلة زحفهم في اوروبا وكانت من الاسباب الرئيسية في انحسار العروبة عن وسط اوروبا.

ولعل تاريخ الفتوح الاسلامية لم يعرف فتحا اعنف واقسى وأشق من فتح صقلية التي لم يسيطر العرب عليها سيطرة كاملة الا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على نزول أسد بن الفرات ورجاله إلی مرسی مزارا في جنوب غرب صقلية يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212 هـ الموافق 17 يونيه 827م.

وتعود الصعوبات التي واجهها العرب خلال فتحهم لصقلية الى وعورة طبيعة الجزيرة الجبلية، وقربها من اراضي الامبراطورية البيزنطية والدول المسيحية الاوروبية، التي لم تتوان عن تغذية المقاومة ضد العرب ومهاجمة الثغور العربية لإدراكها مدى خطورة اتخاذ العرب لصقلية كقاعدة للتوسع والانتشار في اوروبا. يضاف الى ذلك ما كانت تتعرض له الجزيرة من خلافات وثورات وحروب اهلية اثرت في صراع العرب مع بيزنطا. كما إن الصراعات السياسية في الوطن العربي الافريقي والصراعات المستمرة بين المذاهب والاسر الحاكمة كانت تنعكس بصورة سلبية على الاوضاع في الجزيرة وعلى علاقاتها ببيزنطا والدول المسيحية المجاورة لها.

وبرز من خلال الصراع العربي في صقلية ابطال اسطوريون انحنى أمامهم العدو احتراما وتقديرا واشادت الرواية الاوروبية بصلابة ارادتهم، وحسن قيادتهم، وتأثيرهم الشخصي على سير الأحداث، وفي طليعة هؤلاء اسد بن الفرات قاضي القيروان والعالم الجليل الذي بلغ السبعين من عمره وتطوع لقيادة اول حملة لفتح صقلية، ولولا ايمان وصبر هذا القائد وتأثيره القوي في جنوده لما تحقق الفتح ولعاد العرب الى افريقيا(2). انبهر المؤرخ الايطالي اماري بشخصية اسد وزهده وايمانه وقال عنه انه رجل يتطلع الى ما وراء هذا العالم ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ غايته (3). ومن بين المجاهدين الابطال كذلك ابراهيم الثاني الأغلبي الذي تخلى عن الملك لابته عبدالله وجاء الى صقلية مجاهدا زاهدا يبغي مجد الإسلام ورضاء الله. وقد استطاع بحزمه وايمانه ان يحقق للعرب السيطرة الكاملة على الجزيرة بعد اقتحام قلعة طبر مينه المنيعة (Taormina) في عام 289هـ الموافق 209م، وطرد آخر بيزنطي من صقلية، واجتاز بعد ذلك، على رأس قواته، مضيق مسينا واحتل كالابريا وعاصمتها كوسنزا في شبه الجزيرة الايطالية. وكان ابراهيم يرمي الى مواصلة التقدم في ايطاليا شمالا، والوصول الى روما وما وراءها. الا ان المرض لم يمهله لتحقيق حلمه، فقضى نحبه قرب اسوار مدينة كوسنزا (Cosenza).

والشخصية الثالثة التي نالت تقدير الاعداء واحترامهم هي شخصية عباس بن الفضل الذي قاد جيوش ابي الاغلب ابراهيم، امير صقلية والذي تولى الامارة من بعده، وكان له الفضل في استيلاء العرب على قصريافه trogivanni Cas التي كانت تعتبر من اهم معاقل البيزنطيين الدفاعية (244 هـ – 859م)، وفي الحاق هزيمة نكراء بأسطول بيزنطة قرب سيراكوزا. واعتبر المؤرخون الأوروبيون الفضل بن العباس من أمهر وألمع القادة العرب الذي واجهتهم بيزنطا في صقلية.

وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربير
وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي

ابن عباد

وكان آخر الابطال الاسطوريين في تاريخ صقلية العربية بطل تحدثت عنه الرواية الأوروبية واطلقت عليه اسم Bonavert ويعتقد غابريللي أنه تحريف لاسم بن عباد. وقد برز ابن عباد في سهل نوتو بجنوب شرق الجزيرة واستولى على امارة ابن ثمة، الذي سيأتي ذكره، ووقف في وجه الغزو النورماني، وحاصر سيراكوزه في العام الذي كان يحتضر فيه الحكم العربي (1086م)، واشترك في معركة بحرية كبرى مع الاسطول النورماني في مياه سيراكوزه، واستشهد خلال المعركة عندما حاول ان يقفز من مركب الى آخر فسقط في البحر بكامل عدته الحربية (4).

أصبح العرب منذ انتصارات ابراهيم الثاني حتى بداية الغزو النورماني اسيادا بدون منازع لجزيرة صقلية لمدة مئة وخمسين عاما تخللتها معارك وغارات وحملات متبادلة بين المسلمين والدول المسيحية، واضطرابات وثورات داخلية. وقد تأثرت الجزيرة ايضا خلال هذه الفترة بالأحداث في الوطن العربي الافريقي التي كانت تتعكس عليها سلبا أو أيجابا. ومع ذلك ظلت صقلية طيلة هذه الفترة ارضا اسلامية يسكنها قرابة النصف مليون مسلم، وما بين مليون ومليوني مسيحي. واعتنق الكثير من اهل البلاد الدين الاسلامي، وانخرطوا في الجهاد وشاركوا في احتلال مالطا، وبرز منهم كثير من الرجال الذين تبوؤا مناصب هامة في صقلية نفسها وفي افريقيا والاندلس. ويكفي ان نذكر منهم جوهر الصقلي الذي وطد اركان الدولة الفاطمية من المغرب الى القاهرة.

ويعتبر المؤرخون الاوروبيون التسعين عاما التي حكمت الجزيرة خلالها الاسرة الكلبية الموالية للفاطميين، العصر الذهبي لصقلية من حيث انتشار العلوم والفنون والثقافة، ومن حيث استقرار الحكم في اسرة واحدة، ومن حيث ازدياد القوة العسكرية وحماية الجزيرة من الهجمات والغارات المعادية. الا ان آخر حكام الكلبيين لم يكونوا في مستوى اسلافهم، وشاء القدر ان تكون بداية المأساة بسبب عجزهم وسوء تصرفهم وان تشهد صقلية في عهد هذه الاسرة قمة مجدها ومنتهى اذلالها.

بحيرة عربية

وقد انهى الفتح العربي لصقلية سيطرة بيزنطا على البحر المتوسط الذي اصبح بحيرة تحت السيادة العربية الكاملة، واصبحت صقلية قاعدة تنطلق منها الحملات والغزوات العربية التي شملت جميع انحاء ايطاليا من البندقية وجنوا الى روما وباري وعلى طول ساحل البحر الادرياتيكي والتيرين. واقام العرب امارات في جنوب ايطاليا من بينها امارة باري التي حكموها من عام 847 الى 871، وقاريليانو الى الشمال من نابولي من عام 883 الى 915، وريجو وبرنديسي وتارانتو وعيرها من مدن الجنوب والوسط الايطالي والتي ظلت عمليا في نطاق النفوذ والهيمنة العربية حتى زوال الدولة العربية من صقلية(5).

وكانت بالرمو عاصمة مزدهرة تغص بمختلف الاجناس، وازدهرت فيها الحياة الاقتصادية والزراعية والتجارية، كما كانت صقلية من اهم مراكز التجارة في العالم الاسلامي. وقد ادخل العرب الى صقلية. نباتات لم تكن معروفة، وحسنوا اساليب الزراعة، وحفروا القنوات والترع، واصلحوا الأراضي غير المزروعة، ونموا الصناعة والحرف اليدوية، وقضوا على الاقطاع عن طريق تجزئة ملكية الاراضي. وكانت الجزيرة في فترة الحكم العربي مظهرا رائعا للحضارة والتقدم في أوربا الوسطى كما جلب انتعاشها الاقتصادي الخير والرخاء للوطن العربي في افريقيا. وعرفت أوروبا الطب والفلسفة والعلوم والفن المعماري الجيد والحرير المطرز والتحف والنفائس عن طريق صقلية التي ظلت تأثيراتها وآثارها بادية في متاحف ايطاليا وكنائسها وقصورها، وظل التراث العربي قائما حتى يومنا هذا في اللغة الايطالية وفي العائلات الصقلية التي لا تزال تحمل اسماء عربية مثل علي ومصطفى وسعيد (Saetta) ومظفر (Modafferi) ومرابط (Morabito) وفائز (Lofaso) والعليبي (Taibi) وغيرها.

وكتب اماري: (كانت حياة الطبقة المسيحية المغلوبة في صقلية في ظل المسلمين خيرا من حياة الايطاليين المسيحيين الاخرين الذين كانوا يعيشون في ظل حكم بيزنطة والفرنجة)(6). واشار غابريللي الى ان معاملة مسلمي صقلية للمسيحيين واليهود كان طابعها التسامح حيث كانوا احرارا في ممارسة عقيدتهم، واحرارا في تجارتهم واملاكهم، وكانوا يتبعون قوانينهم فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية والدينية وكانت علاقات بعضهم جيدة بالسلطات الاسلامية، ولم يظهر وجود لأي شكل من اشكال عدم التسامح او التعصب بين المسلمين وغيرهم(7).

بداية المأساة

كانت صقلية في اواخر الحكم الكلبي مسرحا للاضطرابات والفوضى والتناحر بين القادة والامراء الاخوة. وقد فقدت الدولة المركزية سيطرتها على الجزيرة، وبلغت الحالة درجة من التدهور دفعت بأميرها الاكحل الكلبي الى الاستعانة بعدوه التقليدي البيزنطي لمساعدته على اعدائه في الداخل(8). واستعان خصومه في الوقت نفسه بالدولة الزيرية في افريقيا، التي ارسل اميرها المعز، ابنه عبدالله، لوضع الامور في نصابها في الجزيرة.

وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي
وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي

وقد قتل الامير الاكحل في قصر الخالصة وتولى بدله اخوه حسن الصمصام الذي سرعان ما عزله رعاياه عن الحكم حوالي عام 1053م فانتهى بذلك الحكم الكلبي بصورة غير مشرفة. وقامت في بالرمو شبه جمهورية تحكمها جماعة من اعيان المسلمين. ومن المؤسف ان هذه الفترة ظلت غامضة في تاريخ صقلية، وان كان من الثابت ان عدة امارات تكونت واستقلت عن المركز على غرار ملوك الطوائف الذي عرفتهم الاندلس فيما بعد، فقد اقام عبدالله ابن منقوط امارة على الساحل الشرقي من الجزيرة ضمت طرابنش (Trapani) ومرسى علي -Marsa) (la ومازارا والشقة (Sciacca)واقام القائد علي بن نعمه الشهير بابن الحواس امارة في قلب الجزيرة مؤلفة من قصريانه (Castrogiovanni) وجرجنت، وكان هناك ثالث يدعى ابن المقلطي الذي استأثر بحكم قطانيا، الا أن قائدا آخر هو ابن ثمة اطاح به واستولى على الحکم في قطانيا وسيراكوزا. ويبدو ان الامير عبد الله الزيري وجد ان وضع الجزيرة أصبح ميئوسا منه فعاد إلى افريقيا بقواته.

ومما عجل بنهاية المسلمين في صقلية وقوع حادث شبيه بما حدث مع الكونت جوليانا قبل عبور طارق الى الاندلس، وبما حدث مع اوفيميوس قائد اسطول بيزنطة في صقلية الذي شجع بني الاغلب على احتلال الجزيرة. الا ان الخائن في هذه المرة كان ابن ثمة، صاحب قطانيا وسيراكوزا، الذي دخل في صراع مع ابن الحواس صاحب قصريانة وجرجنت بسبب امرأة وحين منى ابن ثمة بالهزيمة اتصل بروجير النورماني وعرض عليه احتلال صقلية على امل ان يقدم له المسيحي المنتصر، حسب تعبير اماري، الجزيرة هدية خالصة بعد ان يحررها من العرب. كان ذلك عام؟١١٣٦م. وهو بداية الغزو النورماني. ويقول ابن الاثير ان مسلمي صقلية ارسلوا وفدا الى المعز بن باديس لطلب النجدة، فأعد اسطولا وقوات كبيرة ثم وجهها الى صقلية الا انها تعرضت الى عاصفة عاتية قرب بانتللريا فاغرقتها.

وبعد وفاة المعز وفقا لرواية ابن الأثير، ارسل ابنه تميم، نجدة الى صقلية بقيادة ولديه ايوب وعلي. وقد استضاف ابن الحواس ايوب في جرجنت وعندما رأى ميل سكان المدينة اليه دخل معه في معركة قتل خلالها ابن الحواس.

ووقعت بعد ذلك معارك بين عبيد تميم ومسلمي جرجنت ادت الى انسحاب الامير علي والامير ايوب والعودة بقواتهما الى افريقيا التي كان حكامها في حاجة اليها في تلك الفترة. وبالرغم من الخلافات التي كانت تنخر المجتمع الاسلامي في صقلية، وبالرغم من ضعف القيادات ووهتها وانصراف الدول الاسلامية الأخرى عن الاهتمام بأمرها، فقد استغرق النورمان واحدا وثلاثين عاما لكي يقضوا على المقاومة العربية ويسيطروا على الجزيرة وقد سقطت بالرمو بعد أحد عشر عاما من بداية الغزو النورماني وبعد ان ظلت 240 سنة عاصمة اسلامية.

ما بعد الهزيمة

صاحبت الغزو النورماني لصقلية هجرة عربية واسعة الى افريقيا والاندلس ومصر وغيرها من البلدان العربية. وعندما سيطر النورمانيون على الجزيرة قدر عدد المسلمين الذين ظلوا بصقلية ما بين المئة والثلاثمائة الف مسلم من العرب والبربر والصقليين الذين اعتنقوا الاسلام. وقد تجمع القسم الاكبر منهم في بالمرمو وساحل مازارا وسهولها. وقد اختلفت معاملة الدولة النورمانية لهم وارتبطت اوضاعهم الاجتماعية والقانونية بالطريقة التي تم بها الاستيلاء على المدن والاراضي. فالاستسلام المشروط، وهو ما تم في معظم مدن صقلية، كان يتضمن الحرية الشخصية والاحتفاظ بالممتلكات الخاصة وحرية التجارة والعمل. اما الاحتلال بالعنف فترتبت عليه انواع من العبودية، منها العبودية الكاملة التي كانت مصير اسرى الحرب، وعبودية الارض وهي تتفاوت بين العبيد (الحرش) الذين يرتبطون بالإقطاعي صاحب الأرض برباط تبعية شخصية تتضمن بعض الحقوق المحددة التي تميزهم عن بقية العبيد، والعبيد (الملس) وهم مزارعون احرار يرتبطون بالمالك بشروط معينة لزراعة ارضه وتنتهي علاقتهم به بانتهاء هذه الشروط. وهناك طبقة ثالثة وهم من كان يطلق عليهم (اهل المحلات) الذين كانوا يعيشون في اطراف المدن، ويقومون بخدمة الاقطاعيين والاديرة والكنائس ويخضعون لبعض القيود(9). وكان الجميع يدفعون الجزية ويعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، وقد فرضت عليهم قيود كمنعهم من تأدية صلاة الجمعة وغير ذلك. وقد أجمعت الروايات العربية والأوروبية على ان ملوك النورمان كانوا متسامحين مع العرب، وتركوا لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية واستعمال لغتهم وثقافتهم. ولعل ابن جبير، الرحالة الاندلسي الذي القت به العاصفة على سواحل مسينا في عام 1184م واخترق معظم الجزيرة، هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب بدقة ويصف احوال المسلمين في صقلية في عهد غليوم الثاني واعجب ابن جبير ببالرمو وبحياة العرب واسواقهم وبكثرة مساجدهم ومدارسهم وباستعانة الملك بهم في البلاط وشئون الدولة. ووصف بلاط غليوم بأنه شبيه بأي بلاط شرقي آخر. والواقع ان النورمان عندما دخلوا بالرمو وجدوا امامهم حضارة وادارات منظمة وبلاطا مترفا كما وجدوا في صقلية أنواعا من الرفاهية والبذخ والترف الذي لم يعرفوه من قبل فحاولوا باستثناء المسائل الدينية، ان يقلدوا امراء العرب في حياتهم ومسلكهم وخدمهم وحشمهم ولباسهم ومراسمهم ويقول ابن جبير، نقلا عن الفتيان المسلمين الذين كانوا يعملون بقصر الملك، ان غليوم كان يجيد العربية كلاما وكتابة. وظلت اللغة العربية لفترة طويلة لغة رسمية الى جانب اللاتينية تصدر بها الوثائق والبراءات وتخاطب بها الدول العربية المجاورة. وظلت المسكوكات تكتب باللغة العربية الى جانب اللاتينية حتى آخر عهد النورمان. ولقب روجير بالمعتز بالله، ولقب غليوم الأول بالهادي بأمر الله، ولقب غليوم الثاني بالمستعز بالله. وتظهر كتابة هذه الالقاب في الوثائق الرسمية والمسكوكات.

وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي
وهبي البوري (آخر أيام عرب صقلية) مجلة العربي

ويقول غابريللي ان المسلمين كانوا يؤلفون طائفة او حزبا له وزته في حياة الجزيرة واحداثها. وشاهدت صقلية اول مذبحة للمسلمين بعد وفاة روجير الثاني عام 1161 حيث قتل عدد كبير منهم ونهيت أموالهم ومتاجرهم ودمرت أحياءهم السكنية. وشهد عام 1189 و1190 زوال الوجود العربي والاسلامي من بالرمو ومن معظم المدن الصقلية وان ظل يقيم بها أفراد غيروا اسماءهم واعتنقوا المسيحية.

نهاية بطل

وازاء هذا العدوان الصارخ هب ما تبقى من العرب والمسلمين للدفاع عن أرواحهم. وعقيدتهم وتزعم الحركة عدة قواد برز من بينهم محمد بن عباد الذين عرفته الرواية الاوروبية باسم Mirabeto وقام بثورته ما بين العقدين الثاني والثالث من القرن الثالث عشر وشغل قوات فردريك في معارك قاسية رغم يقينه ان معركته ميؤوس منها وانه يقودها دون سند ولا معين في الوقت الذي كانت تمتد حوله ثلاث امبراطوريات عربية : الفاطمية والاموية والعباسية التي لم تلتفت ولم تسمع حشرجة الموت في رقاب من تبقى من المدافعين عن الدولة الاسلامية في صقلية.

وحاصر الامبراطور فردريك، ابن عباد في عنتيلا -En tella وضيق عليه الخناق حتى استسلم بشرط ان يتمكن مع اولاده وامواله من النزوح الى افريقيا. ووعده فريدريك بذلك الا انه غدر به ونقله الى بالرمو حيث اعدمه مع اثنين من اولاده(10) وواصلت من بعده الصراع اينته التي لم تذكر الروايات اسمها. واورد الحميري قصة مقاومة محمد بن عباد وابنته في عنتيلا بشكل آخر، حيث قال ان فردريك وعد ابن عباد بأن يسمح له بالسفر الى افريقيا اذا ما استسلم. الا ان اينته، التي لم تذكر الروايات اسمها، نصحت والدها بعدم الاستسلام، وعندما رفض العمل بنصيحتها فضلت البقاء في القلعة ومعرفة ما سوف ينتهي اليه امر والدها.

وغدر فردريك بابن عباد، فقد سمح له بالسفر وامر رجاله بإغراقه في البحر. وعندما علمت ابنته بذلك واصلت المقاومة والخروج برجالها والاغارة على المسيحيين (619هـ 1222 – 1223م)، وصممت على الانتقام لوالدها. وذات يوم ارسلت الى فردريك تعلمه انها تريد الاستسلام ولكنها تخشى ممانعة رجالها، ولذلك فانها تطلب منه ارسال ثلاثمائة فارس من خيرة رجاله ليلا واخبرته انها سوف تفتح لهم القلعة وتمكنهم من الاستيلاء عليها. وسر فردريك من الفكرة وارسل فرسانه الى القلعة. وفي الصباح توجه الى عنتيلا ليرى اعلامه ترفرف عليها وقد استعدت لاستقباله، الا انه فوجئ برؤية رؤوس فرسانه تتدلى من فوق الاسوار. وحاول فردريك استدراجها بالحيلة والاغراء فأمنها على حياتها اذا استسلمت ووعدها بالزواج الا انها رفضت وظلت تقاوم مع رجالها الحصار الطويل حتى نفدت المؤن واشتدت بها وبرجالها الحال فانتحرت قبل ان يقتحم فردريك القلعة ويستولي عليها(11). واختتم الفصل الاخير من قصة العرب في صقلية بهذه الصفحة الرائعة من بطولة فتاة عربية ضربت اروع مثل في الشجاعة والاباء والتضحية وسط سلسلة من التخاذل والخيانة والانانية وقصر النظر التي قضت على الدولة الاسلامية الثانية في اوروبا.

النهاية

لم تنته المقاومة باستشهاد بطلة عنتيلا، بل استمرت بعض المقاومة المبعثرة وخاصة في جرجنت، الامر الذي دفع بفردريك الى ابعاد جميع العرب والمسلمين عن الجزيرة، واختار لهم مكانا في موقع لوتشيرا Lucera بجنوب ايطاليا. وتم تجميعهم وابعادهم على فترات زمنية امتدت حتى منتصف القرن الثالث عشر. وتقدر الرواية العربية عددهم بمئة وسبعين الف نسمة في حين ان الرواية الاوروبية تقدرهم باقل من مئة الف. واقام العرب مستوطنة في مقرهم الجديد، واعتمدوا في حياتهم على الزراعة والحرف اليدوية والتجارة، والفوا مجلسا من الاعيان للأشراف على شئونهم واسسوا المدارس لتعليم ابنائهم. ويقول إيجيدي، الذي وضع كتابا عن هذه المستوطنة العربية، ان عرب لوتشيرا كان لهم بعض النشاط الثقافي ايضا رغم عزلتهم التامة عن بقية العالم الاسلامي والعربي(12).

وبتولي اسرة انجو Angio الحكم بدأت مضايقة العرب في مستوطنهم، وبدأ الطمع في أراضيهم وممتلكاتهم، وساهم رجال الكنيسة والاقطاعيون المحيطون بالمستوطنة في تغذية روح الكراهية والحقد ضد. المسلمين، واطلقوا فكرة ازالة هذا الدمل من الجسد المسيحي. وكان الملك كارلو الثاني يشجع القائمين على الحملة. وفي اواخر القرن الثالث عشر وبالتحديد في صيف عام 1300، هجم الايطاليون على لوتشيرا، وكانت حملة صليبية اشترك الجميع فيها وفي ذبح وقتل المسلمين رجالا ونساء واطفالا، ونهب أموالهم وممتلكاتهم، ودمروا المستوطنة وتقاسموا اراضيها وقضوا على البقية الباقية من المسلمين، وازيل الوجود العربي نهائيا من ايطاليا بعد ان دام 472 عاما عاش منها العرب أكثر من قرنين ونصف اسيادا والبقية اتباعا وعبيدا. وقد تمت مذبحة المسلمين دون ان تتحرك اية دولة إسلامية لحمايتهم او الدفاع عنهم بل كانت العلاقات بين بعض هذه الدول وملوك ايطاليا جيدة وودية. ومن المعتقد انه خلال المأساة العربية التي دامت قرابة القرنين تنصر العديد من المسلمين وانتشروا في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا واختلطوا بالسكان، ولا يزال تأثيرهم باديا في العادات واللغة والفكر الإيطالي.


مجلة العربي | العدد 295، 1 يونيو 1983م.

هوامش:

(1) Giosue Musca, L’Emirato Di Bari, Dedalo, Bari, 1974, pp. 153-155

(2) د. تقي الدين عارف الدوري، صقلية وعلاقاتها بدول البحر الابيض المتوسط بغداد 1980 ص 54.

(3) Michele Amari, Storia Dei Mussulmani Di Sicilia, Catania 1933 – 1934

(4) غابريللي، المصدر السابق، ص 74.

(5) F. Gabrielli, Taranto Araba, Cenacolo (1974) vh[u

(6) غابريللي، المصدر السابق ص 150.

(7) غابريللي، المصدر السابق، ص 104.

(8) غابريللي المصدر السابق، ص 85.

(9) غابرييلي، المصدر المذكور ص 95.

(10) غابريللي، المصدر السابق، ص 103.

(11) ابو عبدالله الحميري – روض المعارف في خبر الاقطار، تحقيق أ. ليفي بروفنسال لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة ١٩٣٧.

راجع ايضا :

E, Levi Provencal, Une Heroine de la Resistance

Mussulmane en Sicile, Orient Moderno, xxxiv, 1954, 283-88

(12) ب- ايجيدي، المستعمرة العربية في لوتشيرا وتدميرها

P. Egidi, La Colonia S aracena di Lucera el la S ua Distruzione Napoli 1912

مقالات ذات علاقة

المفكرة التاريخية: تأملات حول الولاء والهوية فكرا ومنهجا (4)

مفيدة محمد جبران

ثنائية ابراهيم الكوني الصحراوية

المشرف العام

دراسة نقدية لأسلوب وخصائص شعر الشاعرة أسماء صقر القاسمي

عزة رجب

اترك تعليق