مسرح

ثلاثة أيام في المحيط

(مسرحية من فصل واحد.. من المسرح التجريبي)

قيس عمران اخليف

تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.
تصوير: الشاعرة ليلى النيهوم.

الشخصيات

رجال بعثة استكشافية:

خليل

سعد

سالم

القبطان علي

صياد يقطن القطب الشمالي

ابنة الصياد


المشهد الأول

(صوت رعد قوي، في ليلة حالكة السواد وأمطار غزيرة، وصوت سفينة تغرق وأضواء تظهر وتختفي، وإذا بصوت ارتطام قارب على سطح البحر يتلوه الجو الممطر، ثم يهدأ كل شيء، وتبدأ خيوط الفجر في الظهور ويختفي الظلام رويدا رويدا، ويطلع نور الصباح ليكشف عن خلفية زرقاء وقارب صغير يتمايل يمنة ويسرى وتلوح يد أحد ركابه للخارج، وصوت هدير البحر يملأ المكان)

يظهر راكب آخر ينظر داخل القارب.

الراكب (1) (يصرخ): انهضوا ؛ هيا..خليل، سالم.. استيقظوا لقد نجونا، الله أنقذنا من هذه العاصفة الهوجاء.

(ينهض راكبان آخران في حالة رثة ولا تزال اليد مدلاة )

راكب (2): آه، يالها من ليلة.. كدنا نموت لولا استجابة الله لدعائنا.

راكب (3): إن دعائنا ليس السبب أيها الغبي، فنحن لسنا الوحيدين الذين طلبوا النجاة، لكنه الأجل الذي كتب لكل شخص منا.

راكب (1): هذا صحيح يا خليل، فقد أنقذنا الله من تلك العاصفة وأمدنا بالعمر المديد.

راكب (2) (لاه عن الحوار ينظر للراكب الرابع المدلي بيده خارج القارب): خليل، سعد… أنظرا القبطان علي موجود هنا، لقد نجا من العاصفة.

سعد (يقترب من القبطان ويبدأ في جس نبضه): آه.. يا للهول إنه جثة هامدة، يا إلهي لقد مات القبطان علي ولم يتحمل العاصفة القوية.

خليل: إنه القدر، لقد رحل عنا الرجل الذي كان دائما القدوة للبحارة والذي كان المخطط الأول لهذه الرحلة العظيمة.

سالم: لا تقل إنها عظيمة، أنظر لما نصل إلى القطب الشمالي كما أراد القبطان وتحطمت سفينتنا وفقدنا كل الرجال ولم يبق سوانا من ركاب السفينة، وها نحن هنا (ينظر حوله) في المحيط ننتظر رحمة الأقدار لعل هناك من يساعدنا، أو تأتي عاصفة أخرى لترجعنا لأصدقائنا الذين ماتوا… كلا، إنها بالتأكيد ليست عظيمة.. ليست عظيمة.

سعد: أيها السادة، دعونا نفكر في طريقة للنجاة، فنحن الآن صرنا لوحدنا، والمؤونة هنا قد لا تكفي رحلتنا على هذا القارب الصغير، علينا أن نفكر في الأسلوب الأمثل لقضاء حياتنا على سطح المحيط الواسع.

 خليل: أنت تعلم يا سعد، إنني وسالم لا نجيد سوى تنفيذ الأوامر التي كان يسردها القبطان، أما أنت فإنك كما أعلم كنت تدرس في الأكاديمية البحرية، وبالتأكيد لديك معلومات عن الملاحة البحرية، فإننا نوافق على أن تكون قائدنا خلال هذه الرحلة.

سعد: إن معلوماتي بالتأكيد بسيطة، فقد تركت الأكاديمية البحرية في السنة الثانية والتحقت بالمحاماة، ولكنني سأحاول تذكر بعض ما تعلمته هناك.

(صمت لفترة قصيرة، ثم يقف الثلاثة ويحملون جثة القبطان علي ويرمونها في البحر).

(ستار)


المشهد الثاني

(الليل يلف المكان ويظهر خليل وسالم وسعد، وكل منهم يجدف بهدوء تبعا لنداء سعد،… هيلا هوب. وعلى حين غرة، تظهر زعنفة لسمكة قرش ثم تتلوها أخرى وأخرى، قطيع منها يتجه نحو القارب، وفي الجهة التي يوجد فيها سالم، تقفز واحدة نحو سالم).

يقف خليل ويصرخ: سالم انتبه…القرش خلفك.. انتبه.

(يتنبه سالم ويبتعد)

سعد: أين البندقية يا خليل.

خليل: إنها بجوار قنينة الماء.

(يتجه سعد نحو البندقية ويرفعها ويصوب نحو سمك القرش الذي يدور حول سفينتهم)

سالم: ما لذي تريد ان تفعله يا سعد.

سعد: سأصيب إحداها، فإن تمكنت منه بالرصاصات القليلة التي معي، فإننا سننجو – اليوم على الأقل.. فأنت تعلم أن القرش يتجه نحو رائحة الدم وسيكتفي هذا القطيع بزميلهم الليلة..

(ثم يدور بالبندقية ويصوب نحو واحدة منها).

سعد: لقد اخترت طعام عشائكم أيها القطيع الجائع.

(يطلق النار ولكن السمكة تفلت من الطلقة).

سعد: تبا لم يتبق سوى رصاصتين، سأريك أيتها الملعونة.

(يدور بالبندقية ة يطلق النار مجددا ويصيبها. يظهر اللون الأحمر القاني على سطح البحر).

سعد: لقد أصبتها ؛ اللعينة كادت تفلت مني.

(يتجه القطيع إلى تلك السمكة ثم تختفي زعانفها من على سطح الماء).

خليل: يبدو أنهم أخذوها للأعماق، للاحتفال بعشائهم السمين.

سالم: يا رب السماء، لقد رأيت الموت أمام عيني ليومين متتالين، يا رب لم هذا العذاب، لماذا لا نموت دون هذا العذاب المؤلم.

سعد: تشجع يا سالم، فنحن أمام فنحن أمام محن صعبة، ولا ندري ما يخبئه لنا القدر بعد هذا الحادث، لقد خرجنا كرحالة مستكشفين وعلينا تحمل الصعاب والوقوف في وجهها.

خليل: اجل، فرغم العاصفة وأسماك القرش إلا أن الله أراد لنا أن نحيا ونعيش، فلنتعاون معا لنصل إلى بر الأمان منتصرين.

(هدوء يلف المكان، والقارب يتمايل يمنة ويسارا ويخلد الأربعة للنوم).

(ستار)


المشهد الثالث

(صباح اليوم الثاني وثلاثتهم يجدف متتبعين نداء سعد: هيلا هوب… هيلا هوب).

خليل: إن الهدوء قاتل في هذا المحيط.

سالم: أجل، فلو كنت لوحدي لمت منذ أمد.

سعد: ها ها، يبدو أنكما مللتما التجديف وتريدون الراحة قليلا.

سالم: كلا، ولكن لقد مللنا الهدوء، والمشهد الذي نراه هو نفس المشهد، هذه المياه الزرقاء والسماء وهذه الشمس، لم نعد نستطع الاستمرار.

سعد: أتعرفون يا سادة، نحن هنا نعاني من الهدوء، وعندما كنا في المدينة كنا نعاني من الضجيج فياله من تناقض يميز الإنسان، فهو لا يفتأ أن ينزعج من حياته ولا يقدر جمالها إلا بعد أن يرى المساوئ التي يحملها له القدر.

سالم: هذا صحيح، ولهذا نحن نشكو الهدوء الذي يحيط بنا.

سعد: إننا في منطقة لا توجد فيها تيارات بحرية، لذا سننتظر حتى تعود الرياح فتساعدنا في عملنا.

سالم: وماذا لو كانت الريح في عكس اتجاهنا ؟.

سعد: وليكن، المهم أن تحركنا وتوصلنا إلى بر الأمان.

خليل: إني أدعو الله أن يحدث ما تريد، لنجدف يا رفاق،(يردد بصوت عالي):

هيلا يا واسع…

يردد رفيقاه: هيلا… هيلا.. هيلا.

خليل: المركب واسع.

يردد رفيقاه: هيلا.. هيلا.. هيلا.

(و هكذا يرددونها لمرات عديدة).

(ستار)


المشهد الرابع

(وقت الليل، والثلاثة جالسون يتغنون ويسترجعون الذكريات).

خليل: لا.. أنا أعرفه ذلك الموشح، إنه يقول:

جادك الغيث إذا الغيث هما………. يا زمان الوصل بالأندلس

سالم: أجل هو كذلك، إنه من أجمل الموشحات الأندلسية.

سعد: آه، إن العرب كان لهم أثر كبير على تقدم الحضارة في أوروبا، إنه عصر مضى وولى.

 خليل: ألم تسمعوا عن أوبرا عايدا، إنها أحمل ما كتب فيردي، ألا تعرفونه ؛ إنه ايطالي لقد كتبها حبا في مال مصر، في جمال العرب بالتأكيد.

(خلال حديثهم تظهر زعانف أسماك القرش رويدا رويداً، وتحيط بالقارب دون أن يشعروا ودون سابق إنذار تقفز سمكة قرش فتمسك بخليل وتجره إليها وتغوص وإياه، وهو يصرخ ويستنجد، يقف سعد يبحث عن البندقية، فيجدها…يطلق سعد رصاصة خاطئة، لا تصيب السمكة).

سعد: تباً، لقد اكتملت الذخيرة، سالم خذ مجدافك وعلينا بهم، (يهاجم سعد وسالم أسماك القرش الأول يستخدم بندقيته كالعصا والثاني بمجدافه إلا أن سمك القرش يختفي في الأعماق بعد أن اكتفى بفريسته).

سالم (يبكي): إني لا أصدق عيني، لقد سحبته السمكة للبحر، دون أن يبدي أي منا حراكاً.

سعد: رحمه الله، كان رجل قوي، رحماك يا رب.

سالم: لم يا ترى ؟! لماذا كتب علينا هذا العذاب.. لماذا ؟.

سعد: إنه قضاء الله وقدره، فلا مرد لقضائه.

(يعود الهدوء ليلف المكان).

(ستار)


المشهد الخامس

(سعد وسالم يجدفان متتبعين أغنية خليل):

هيلا يا واسع……….. هيلا، هيلا، هيلا.

المركب واسع…….. هيلا، هيلا، هيلا.

(تبدأ الريح تشتد)

سعد: الحمد لله لقد دخلنا إلى منطقة تيارات بحرية، الريح ستتكفل بنقلنا إلى الشاطئ.

سالم: الحمد لله لو كان خليل معنا لفرح كثيرا.

(الريح تشتد، والمركب يتمايل بقوة يمنة ويساراً)

سعد: حافظ على مسار الدفة يا سالم.

سالم: حاضر يا سيدي.

(ظلام شديد يتبعه ضباب).

سعد: إن الريح تشتد والعاصفة قوية، حاول أن تتماسك.

سالم: حسناً يا سيدي.(يبدأ مستوى المياه في الارتفاع وتبدو أنها ستغرق القارب الصغير، الذي يهتز بشدة هنا وهناك).

سعد: سالم.. إني لا أراك، هل تسمعني ؟.

سالم: سيدي، النجدة.. إني أكاد أقع. (يظهر سالم وهو ممسك بمؤخرة القارب، يقترب منه سعد وهو يحمل حبلاً يقوم بربطه على حافة القارب).

سعد: ابق في مكانك ولا تتحرك، سأدير الدفة لوحدي.

(تتصادم الأمواج بالقارب، وتظهر موجة كبيرة وصراخ سعد وسالم ؛ يختفي سعد).

سالم (يصرخ): سعد أين أنت ؟.. سعد، عد يا سعد… سعد لا تتركني لوحدي.

(الهدوء يعود بعد فترة قليلة).

(ستار)


المشهد السادس

(الليل حان وسالم لا يزال مستلقيا في القارب، يفتح عينيه، فيجد نفسه مربوطاً نحو مؤخرة القارب، فيتذكر ما جرى).

سالم (يصرخ): سعد أين أنت ؟.. سعد..

 (يفك قيده، يقف لوهلة غير مصدق لما حدث له).

سالم: أنا الذي تمنيت الموت، أبقى حيا أما خليل وسع اللذان يحبان الحياة ويكافحان من أجلها رحلا، ترى كم بقى لي لأرحل أنا الآخر، هل ستأتي أسماك القرش، أم العواصف أم أشياء أخرى لا أعلم بها.

(يجلس قليلا يفكر، ثم يقف وقد اعترته حالة من الهيجان، ويتجه نحو المجداف ويحمله ويبدأ التجديف).

سالم (و هو يغني):

 هيلا يا واسع…. هيلا هيلا هيلا.

المركب واسع….هيلا هيلا هيلا.

(يكررها مرتين ويجدف)

يعود ويغني باكياً:

جادك الغيث إذا الغيث هما…. يا زمان الوصل بالأندلس.

(ثم يحادث نفسه وهو يبكي، إذ يردد ما قاله له رفيقاه):

لقد تركت الأكاديمية البحرية في السنة الثانية، والتحقت بالمحاماة.

(يقهقه)

لقد أصبتها اللعينة كادت تفلت مني.

(يقهقه)

إن الهدوء قاتل في هذا المحيط، لنجدف يا رفاق.

(يقهقه)

إن الله أراد لنا الحياة لنصل إلى بر الأمان منتصرين.

(يقهقه)

ألم تسمعوا عن أوبرا عايدة، لقد كتبها حباً في العرب.

(يقهقه)

(صوت رياح قادمة من بعيد وظلام)

(ستار)


 المشهد السابع

(سالم مستلقي على صخرة كبيرة، خلفية ثلجية ويسمع صوت كلب قادم من بعيد وزلاجة.

يقترب صياد يرتدي ملابس سكان القطب الشمالي مع كلبه وزلاجته بالقرب من سالم).

الصياد (يجس نبض سالم): إنه لا يزال حياً، الحمد لله سأنقله إلى المنزل لعله يستعيد صحته فأعرف من قصته.

(يحمله ويضعه على الزلاجة ويمضي به).

(صوت موسيقى ويختفي الصياد).

(ستار)


المشهد الثامن

(غرفة صغيرة مضيئة يجلس الصياد بقرب المدفأة، بينما ابنته تجلس بجوار سالم على السرير. يصحو سالم ويبدأ بتذكر الأحداث وهو صامت ومن ثم ينهمر الدمع على خديه، تعطيه ابنة الصياد كوباً من الشاي الساخن الذي يتصاعد دخانه بشكل واضح.

يمر وقت مع موسيقى إذ يقوم سالم بتحريك يديه على أنه يروي حكايته).

سالم: وهذه هي قصتي منذ بدأنا هذه الرحلة اللعينة.

الصياد: إن الله أراد لك أن تنجو وتحيا، فلعله سيكون لك شأن عما قريب.

سالم: إنه قضاء الله وقدره…. ولا مرد لقضائه.

ابنة الصياد: إن أبي هو زعيم الصيادون في هذه المنطقة بأكملها وبالتأكيد إنك ستجد في ظله حياة طيبة تعوضك عن الحياة الصعبة التي لاقيتها.

سالم: الحمد لله… آه، لقد كنت الأكثر هلعاً وخوفاً، ولكن هذه الرحلة علمتني أن الخوف والهلع ليس لهما مكان في هذا العالم.

الصياد: أما آن لك أن تنسى، هيا بنا يا سالم سنقوم معاً بأول رحلة صيد لتتعلم هذه المهنة.

سالم: رحلة أخرى، يا رب متى ينتهي العذاب.

الصياد: اطمئن رحلتنا لا وجود فيها لأسماك القرش أو العواصف، إنها متعة وعمل

(يضحك ثلاثتهم).

(ستار)

مقالات ذات علاقة

الشايب والشاب

محمد دربي

ابْصارة حُكّام

عبدالله هارون

مسرحية.. ربــمــا

حواء القمودي

اترك تعليق