مختارات

سكان مدينة طرابلس من مطلع القرن العشرين

المدينة القديمة – قوس الصرارعي، كما تتذكره ابنته بدرية علي الجمل

استهلال

هذه مجرد محاولة لبيان سكان مدينة طرابلس من مطلع القرن العشرين وتقوم على روايات شهود حيث يروي كل شاهد أيام طفولته وصباه فيها وقد تم تقسيم طرابلس في هذه المحاولة الى:

1. المدينة القديمة

2. محلة بالخير

3. محلة ميزران

4. محلة الظهرة

5. محلة شارع الزاوية

6. محلة زاوية الدهماني

6. النوفلين

7. محلة أبوستة

8. محلة سيدي المصري

9. محلة قرقارش

ثم ريف طرابلس وضواحيها وهي تاجوراء سوق الجمعة ورشفانة وجنزور.

إن السيدة بدرية علي الجمل أول من استجاب وبادر بالمحاولة وقدمت مشكورة ما أمكنها تقديمه بشكل حماسي وتفاني فاق التوقع وتجشمت في سبيل ذلك مشقة زيارتها عش أسرتها وحاضن طفولتها لتجتر ذكرياتها وتعايشها بالصور، ونقدر تلك المشاعر الإنسانية التي رقرقت الدمعة في مقلتيها ثم انسابت على وجنتيها لحظة دخولها للحوش الذي ولدت فيه ولا تملك أسرة تحرير المجلة إلا ان تسجل هنا فائق تقديرها وعرفانها للسيدة بدرية مكبرة فبها هذه الروح العاشقة لمدينتها أطال الله عمرها ومتعها بالصحة والعافية.

لمن يدخل باب الحرية من شارع عمر المختار اليوم، والذي فتحه العثمانيون في سور طرابلس العتيق سنة 1909، يرى على اليمين محلات كتاب وطباعين عموميين، مازالت أصوات تكتكات آلاتهم تدق في ذاكرتي، مطعم البرعي كان ومازال يقع على اليسار، حيث مازال يقدم الوجبات الشعبية، قبل ذلك كان ملك عمتي زهرة بنت عليا الجمل، هي في الحقيقة ابنة عم أبي، إلا أنها ربته وربتني وأخواتي بعد رحيل أمي، لهذا سماها أبي أختي وسميناها نحن عمتي من بعده، رحمها الله تضحياتها الهائلة معنا لا تقارن بأي عمل خيري آخر عرفناه، كانت مثالا للطيبة والتواضع رغم ثرائها، كانت تملك الكثير من العقارات ورثتها عن أبيها.

لم توفق عمتي في زيجتيها، فلم تنجب، فكرست جهدها وباقي حياتها وثروتها لتربية أبي وبناته من بعده، بل وحتى أبنائنا، إلى أن توفيت في 1969م رحمها الله ودفنت بمقبرة العائلة في جزء مقبرة سيدي مندر الذي عرف بمقبرة سيدي العرضاوي، التي تحولت إلى المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية الآن، حيث فقدنا كل مقابر الأسرة هناك، رحمها الله كانت تردد دائما في حياتها: إن شاء الله ما نلقى شريك في القبر، لكن ها هي وجدته نتيجة عدم احترامنا لقبور موتانا وذكراهم.

بعد مطعم البرعي بعدة خطوات يقابلنا على اليمين دكان عمي فاتح النعال، كان يبيع اللبن والتمر وحلوة الشاكار ويسكن فوق دكانه هذا، عرفناه فنان موشحات، كثيرا ما سمعت ابداعاته وأنا صغيرة عبر أثير الإذاعة الليبية، أبي في طفولته كان يقصد دكانه بعد صلاة العصر ليتعلم الصنعة، علمت بوفاته في 1993 رحمه الله، جامع سيدي عطية الفلاح العتيق المعروف قبل القرمانليين يقع على يمين أول تقاطع 4 شوارع، حيث يفتح مدخله على الزقاق الأيمن الذي يؤدي إلى سوق المشير، دكان جدي عليا عم أبي كان يقع على اليسار مقابل الجامع بالضبط، أي أن الجامع ودكان جدي يشكلان بداية شارع قوس الصرارعي، كان دكان جدي بواجهتين، واجهة على أول شارع قوس الصرارعي وواجهة على الزنقة قبله المتفرعة إلى اليسار التي تؤدي إلى محلات العطارة الكثيرة هناك، وطبعا الزنقة هي الزقاق في الفصحى، أي الشويرع الصغير المتفرع من الشارع الرئيس، وهو هنا شارع قوس الصرار عي.

إذا دخلنا الشارع تاركين جامع سيدي عطية ورائنا نجد على اليمين محل سنفاز كنت دائما أشتري منه سنفزة لي وواحدة أخرى صغيرة يصنع لي السنفاز في داخلها كعكة صغيرة بالعجين لأختي كميلة، دائما!

زنقة حمام النسي تقع على اليمين قليلا بعد السنفاز، سميت على الحمام العام فيها الذي كان ومازال مخصصا للنساء، كانت هذه الزنقة تبدأ من تحت أول “ساباط” بعد باب الحرية، وهو سقف مقوس فوق الطريق، مبني عليه غرفة تتبع أحد البيتين الأيمن أو الأيسر المطلين على الطريق، إذا سرنا قليلا في الزنقة يقابلنا على اليمين ساحة مربعة صغيرة يطل عليها مرابط ثم حوش فطومة الشيشكو، ثم بيت على اليسار قبل موقع الحمام بقليل كانت تسكنه عمة أبي نيسة الجمل، زوجة بن عثمان، حوش لكلوك يأتي بعد ذلك على يسار الشارع، قبل زنقتنا، ويقع دكان عمي المحجوب قبله مباشرة على اليسار، كان يبيع في الأردية ( الحوالي ).

حوش الأمير يقابل بداية زنقتنا على اليمين، وهو حوش عمي محمد ، ابنهما الكاتب المسرحي والإذاعي المعروف مصطفى، ابنته بدرية صديقة أختي كميلة والعائلة إلى اليوم، كان عندهم ببغاء وياما تسلينا معه ودهشنا لتقليده ، كان تحت حوش الأمير محل حلاق صاحبه إسمه حميصة، قبله كان حوش الجبالية، كنت أستغرب البرنوص الذي كانت ترتديه بنته الذي يغطي رأسها وكتفيها، كما كنت أستغرب من طول ونحافة وبياض أبيها.

زنقة بعيرة هي زنقتنا، وخلفنا كوشة الصفار، في شوكة زنقتنا على اليسار كانت على ما أذكر مغازة أبوحجر ببابيها، والمغازة مصطلح ساد في طرابلس زمان وانحصر اليوم في تونس، كان على شوكة هذه المغازة (التي هي في نفس الوقت شوكة زنقتنا اليسرى) وطوال واجهتها سياج حديدي خاص كانت تربط فيه أعنة الخيول، وياما كنت العب فيه بالانحشار ما بينه والجدار خلفه!!

حوش سيالة هو أول حياش زنقتنا على اليسار، لكنه كان علي، وهذا مصطلح معماري معروف في المدينة القديمة يقصد به الدور العلوي للحوش العربي التقليدي حينما يكون له مدخل منفصل من الشارع عن المدخل المعتاد للدور الأرضي، أظن مغازة بوحجر كانت الدور الأرضي لعلي حوش سيالة، بنتهم مفيدة، متزوجة من ولد عمها الدكتور فاروق وتسكن حاليا في بن عاشور، التقينا بعد سنوات وتبين أن السنوات وتغير ملامحنا لم تنس إحدانا الأخرى!

حوش مرمش كان علي هو كذلك، مدخله في بداية زنقتنا على اليمين يطل على شارع قوس الصرارعي، أبناؤه: محي الدين وبهيجة وفوزية وليلى، حوش إجقنة بعده على اليمين، بناته نجاة وعيشة، عندهم شقيق نسيت إسمه كان يخدم في النول، كنت دائما أسمعه يغني ببعض الكلمات، يؤنس نفسه بها، من نافذة الغرفة التي كانت فوق ساباط قبل نهاية زنقتنا، أي قبل ساحتها الصغيرة التي تنتهي بها، التقت مرة أختاي ببنات اجقنة بعد سنوات ومن الجميل أنهن سألن عني ولم ينسوني بعد كل هذه السنوات!

حوش باكير يأتي بعد حوش إجقنة على اليمين في آخر الزقاق، يطل على الساحة الصغيرة جدا التي ينتهي فيها الزقاق، عندهم بنت صبية أكبر مني اسمها نيسة، كثيرا ما كانت تطلب من أمي أن أرافقها في مشاويرها القريبة، كما كانت تحب أخذ أختي فوزية معها إلى لتلعب حينما كانت في سنتها الأولى، سكنت معهم أبلة عافية لوحدها، كانت مأجرة دويرة في السقيفة، كان عندها ولد اسمه محمود، كنت ألعب معه، يبدو أن لديه إصابة في رجله، وكان مؤدبا وخلوقا.

المدخل الذي في واجهة هذه الساحة الصغيرة هو علي حوشنا، وبيتنا يقع بعده على اليسار يطل على هذه الساحة كذلك، مقابل لحوش باكير من الجهة الأخرى، أي أن مدخل العلي يقع ما بين حوشنا وحوش باكير، كان هذا هو بيت أبي علي محمد الطاهر الجمل الذي ولدت فيه سنة 1950، لكنه ملك عمتي زهرة رحمها الله ضمن عقارات أخرى ورثتها من أبيها التاجر الغني رحمه الله، كان يتكون من دور أرضي وعلي، العلي كان يسكنه بالإيجار حمد ولد بن سعد، أمه ابنة عمة أبي عواشة الجمل، كانت تسكن في باب بحر مقابل كنيسة السيدة مريم، زوجته عيشة البنغازية من بنغازي وهي التي سمت أختي فوزية، حينما أصاب عمتي زهرة الروماتيزم نصحها الطبيب بالانتقال بعيدا عن رطوبة المدينة، فبنى أبي بيتنا الجديد في سيدي خليفة، وحينما انتقلنا إليه أجرت عمتي زهرة بيتنا هذا إلى إسماعيل شقيق حمد بن سعد، المتزوج من بنت الباجقني.

أول ما تدخل بيتنا تقابلك ساحة مربعة صغيرة تفتح على مربوعة في الواجهة، وسقيفة على اليمين تؤدي إلى وسط الحوش بباب كنا نغلقه في الليل رغم أننا لم نعرف اللصوص آنذاك، في بداية هذه السقيفة على اليمين الحمام، وفي نهايتها على اليسار نافذة الغرفة التي كانت ما بين المربوعة ووسط الحوش، كان يسكن فيها الخادم الصغير، وياما كان عندي فضول الإطلال من هذه النافذة.

أول غرفة على اليمين كانت المطهرة، حيث نستحمم فيها، ثم غرفة حناي على اليمين، كان بها سدتين، على يمين ويسار بابها نافذتين، في المقابل دار أمي، نافذة على يمين مدخلها وأخرى يساره، ثم على اليسار باب مطلع الدروج الذي يوصل إلى الطابق العلوي، الذي يطل على وسط الحوش بقرقطون تقليدي، كانت هناك مطهرة أخرى قبل الوصول إليه على اليمين فوق دار خزين المطبخ.

أول ما يقابلك على اليسار طبعا غرفة عمتي زهرة، فوق دار أمي، في نهايتها نلف على اليمين فتقابلنا غرفة أخرى فوق دار حناي على اليسار، ثم حمام صغير في نهاية الرواق، كانت هذه الغرفة مغلقة، عمتي زهرة أعطتها لمن سكن العلي بالإيجار، إذا نزلنا وأكملنا دائرة وسط الحوش يقابلنا على اليمين نافذة دار الخزين ثم المطبخ، حيث ندخل إلى دار الخزين من داخل المطبخ، ثم باب يؤدي إلى غرفة الخادم التي تؤدي إلى المربوعة كذلك.

وسط الحوش كان مبلط في الوسط ببلاطات مربعة سوداء وبيضاء موزعة مثل رقعة الشطرنج، يحيط بالرقعة حزام بلاطات مستطيلة يتوسطها شكل البكلاوة بالأسود وخلفية بيضاء ثم يحيط بالجميع حزام أكثر عرضا من البلاطات ما بينها وجدران غرف وسط الحوش ذات زخرفة بيضاء وسوداء أشبه بزهرة ذات أربع ورقات دائرية، حينما نخرج من باب بيتنا يقابلنا على اليمين مباشرة مدخل حوش الفلاح، ولا أدري إن كان من أحفاد سيدي عطية الفلاح مؤسس الجامع القريب، كان يسكن في طابقه الأرضي عائلة من ساحل سوق الجمعة، عرفت ذلك من غطاء الرأس المميز (العصابة الحمراء الساحلية المميزة) التي كانت ترتديها والدة صاحب الحوش، لم نكن نسمع صوتهم، ولم تكن بيننا زيارات، إلا أنه في الليلة التي انتقلنا فيها إلى بيتنا الجديد في حي سيدي خليفة سلمت علينا وودعتنا بكل طيبة بل ورافقتنا إلى بيتنا الجديد وباتت معنا ليلتنا الأولى هناك، كان هذا أول وآخر لقاء بيننا.

في الطابق العلوي لحوش الفلاح كانت تسكن زهرة بنت الأحول، أبناؤها عبدالرزاق وسويلمة وبنت أخرى نسيت اسمها، وكذلك يسكن عمي عتمان فطح، بنته ربيعة صديقتي، التقيت بها وأنا متزوجة بعد سنوات عديدة في عرس بنت جيراننا في سيدي خليفة فوزية بنت خليل عون في ثمانينيات القرن الماضي، حيث تعرفت عليها أختي كميلة وأتت بها إلي وتعرفت على بناتها وعلمت أنها تسكن الآن قرب سوق القبب بالمدينة السياحية ، قد يكون أخيها الأصغر هو طارق الذي درس مع إبني عبدالحكيم الطويل في الثانوية العامة بمدرسة علي وريث للعام الدراسي 1980/1981م.

حوش الفلاح وحوشنا وعلي حوشنا وحوش باكير هي البيوت الوحيدة التي تطل على الساحة الصغيرة التي تنتهي بها زنقتنا، حينما أخرج من زنقتنا، حيث حوش مرمش في آخرها على اليسار وأتجه يسارا حيث امتداد شارعنا شارع قوس الصرارعي نجد بعد حوش مرمش بـ 6 أبواب دكان عمي بهجات لتصليح ماكينات الخياطة، قبل خطوات من ساباط شار عنا الثاني وزنقة الفنيدقة على اليمين، دكان عمي بهجات له مدخل يطل على الشارع، وبيته يطل على زنقة إلى اليسار، حينما تدخلها تجد فيها حياش مهدمة وبعدين أول زنقة على اليمين هي زنقة قوس المفتي، عمي بهجات ولده واصف وبنته كريمة ولديه أبناء غيرهم نسيتهم.

بعد خطوات على اليمين نجد دكان عمي الجنزوري للمواد الغذائية ينتهي بزنقة الفنيدقة على اليمين وبعدها مباشرة ساباط آخر، تحته دكان عمي الهادي بن كورة بمدخلين، في مقابله من الجهة الأخرى دكان يبيع القاز والبياض والحطب نسيت اسم صاحبه.

تعرفت على عمي الهادي بعد سنوات عديدة في دكانه الجديد في شارع السيدي، حيث علمت منه أن ابنه الوحيد هاجر إلى الولايات المتحدة، وكم تمنى لو زوجه لابنتي الوحيدة لو يعود إلى الوطن! لكنه توفي رحمه الله قبل أن يعود ابنه أو يحقق أمنيته هذه!


مجلة الافكار العدد الخامس ( 36 ) شتاء 2013م

مقالات ذات علاقة

النفط في ليبيا

المشرف العام

الباشا بميدان البلدية

المشرف العام

حكم أدبيّة

الصديق الطيب البخاري

اترك تعليق