كنت صغيراً يوم تُوفّي أبي، لكنني أتذكر أنه دُفن مع امرأة غريبة كانت لفظت انفاسها في نفس الفجر الذي صعدت فيه روح أبي، قيل إن المرأة التي حضر في معية جثمانها ثلاثة رجال فقط توفيت وهي في حالة ولادة، الوليد ايضاً لم ينجُ، لا أدري لماذا قرّر حفّار القبور – والذي يسكن غير بعيد عنا، أن يجعل لثلاثتهم قبراً واحداً، ولا كيف فصّل ذلك الحفّار الماهر- أو الماكر- بأدواته البدائية خريطة القبر، هل باعد بين أبي وتلك المرأة أم جعل لكل منهما لحداً خاصاً من الأساس ولم تكن الشواهد الحجرية المتقاربة والتي وضعوها على عَجل فوق التراب الذي اهالوه عليهما إلا رمزاً لذلك القرب، لكنً ما اكدّه الجميع هو أن المرأة دُفِنت وهي تحتضن وليدها. أذكر أيضاً أن نساء الحيّ أعدن هذه القصة مرارا على مسمع أمي بشكل لا يخلو من استثارة غيرتها من خلال الهمز واللمز المصاحب لحديثهن..
هل حقاً كانت أمي تغار على أبي – اقصد على جثة أبي – من جثة امرأة وضعت معه؟! وبِمَ كانت تشعر وهي تستمع لقول النسوة قبل أن تنهي كل ذلك بابتسامة باهتة لا روح فيها؟ وكيف كانت تفكر في أبي بعد ذلك لأكثر من عشرين سنة وهو يشارك غيرها في مسكنه ومقامه ليل نهار!!
كنت حريصاً على أن أرد الاعتبار لأمي وأن أعيدها لأبي حال فاضت روحها..
كنت ازور قبر ابي كلما أتحيت لي فرصة مرافقا لجنازة راحل أو راحلة من أقاربنا، وما أظنّ تلك الزيارات كانت فقط لقراءة الفاتحة على روحه بقدر ماكنت فيها أفكر في تجهيز مخططي، كيف وأين سأضع أمي، هل سيقبل الحفار بأن يفتح القبر مجددا ليدسّ جسدها النحيل بجانب والدي؟ سأحاول أن اجزي له العطاء ليفعل.. لكن كيف أقنع الناس بذلك ..
ثم ماذا لو أنني مِتُّ قبل أمي ، من سيتكفل بإتمام مشروعي هذا؟ ليس من الحكمة أن اوصي به لأحد .. سيعتبرونه جنوناً.. لا سيما وأنا ألاحظ اكتظاظ المقبرة بوافدين جدد بعد كل زيارة.. المنطقة المحيطة بالقبر الثلاثي صارت تضيق أكثر فأكثر.. وفي كل مرة أحاول أن أضع شيئا كعلامة لما يسمونه في القانون اليوم ب”وضع اليد” لأحجز به مكانا اقرب لأمي أجدهم في المرة التي تليها رموا به بعيداً، وأجد المكان قد احتل من قبل ساكن جديد..
توفيت أمي ولم أكن حاضرا على كل حال، وفي بادرة حاول فيها ان يعبر عن بِره بها طلب أخي من الحفار نفسه ان يجد لأمي مكانا قريبا من ابيها وأخويها واختها وكان له ما أراد ، وحين وقفت على قبرها تمنيت لو انتزعتها من بينهم.
لا شك أن المهمة صارت اليوم اكثر تعقيدا.. كيف سأنقل رفات إلى رفات، هذا أصعب بكثير من دفن مَيْتٍ جديد في مكانٍ مختار..
المسافة بقيت شاسعة بينهما، ففي حين يحرس أبي والمرأة الغريبة وطفلها المقبرة من ناحيتها الجنوبية الغربية، تنام أمي وسط أهلها أقصى شمال المقبرة..