ترجمات

معنى ودلالة الخطاب القانوني[1]

(Sens et signification du discours juridique)

من أعمال التشكيلي الليبي محمد نجيب
من أعمال التشكيلي الليبي محمد نجيب

ليست اللغة القانونية المتخصصة سوى مجموعة فرعية من المجموعة الشاملة التي تشكل اللغة. وهي في حد ذاتها نظام خاص تحكمه قوانينه الداخلية، وهي -مع ذلك- جزء من النظام اللغوي العام الذي لا يمكن تجريدها منه. فهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. لا يمكن أن نتصور وجود قانون من دون لغة. في حين، يمكن (بسهولة كبيرة) أن تستمر اللغة من دون قانون، كما قال بذلك “غلانفيل لويلين ويليامز”  (Glanville Llewellyn Williams)  [1911-1997][4].

ثم إن فكرة «لغة القانون» نفسها، يمكن أن تُضلّل القارئ غير المطلع على الاعتقاد بأن القانون يتم التعبير عنه ككل، وبصوت واحد، في حين أن القانون، مثل أي خطاب متخصص، متعدد الأشكال ومتعددة الأصوات. والتعبير عن رسالته، يفترض العديد من المسارات المتباينة كما يتخذ أشكالا لا حصر لها. إن تصنيف النصوص القانونية المبينة بإيجاز في مواضع أخرى يعد دليلا على ذلك[5]. يتضمن النص القانوني أربعة أشكال رئيسة للتعبير، يمكن تقسيم كل شكل من هذه الأشكال إلى عدد من المجموعات الفرعية. يمكن القول -في الواقع- إن هناك أنواعا عديدة من النصوص مثل الوضعيات القانونية. ما الإجراء المشترك بين النصوص التشريعية وبين دستور بلد ما، والقانون الأسمى الذي ينظم مسار مؤسساته، ونص قانون يتعلق بإنارة شوارع مدينة معينة بواسطة أنابيب الغاز؟ إضافة إلى ذلك، فإن المشرع والقاضي والموثق لا يعبرون عن أنفسهم بالكيفية نفسها، ولا يخاطبون الأشخاص أنفسهم (مواطنون، مديرون، متقاضون، أفراد). وأخيرا، في القانون كما في المجالات الأخرى، يمكن أن يكون النص إعلاميا أو تقنيا أو علميا أو تثقيفيا بدلا من أن يكون براجماتيا/تداوليا أو جماليا فقط. فبناء على الحالة، ستكون طرائق التعبير مشروطة وسيكون النص متضمّنا لأقوال تمثيلية، وتوجيهية، وتوافقية، وتعبيرية، وتصريحية، إلخ. وبناء على ذلك، سيختلف أسلوب النص القانوني وتركيبه ومعجمه بشكل كبير. أما بالنسبة إلى الدلالة، فستتبع الوظيفة الأساسية الأولى للنص، كما هي الحال في الجانب العام المراد أعلاه، سيتم التعبير عنها بالطريقة نفسها كما هي الحال بالنسبة إلى أي لغة متخصصة أخرى: من المعنى إلى الدلالة. إن تأويل هذه الدلالة هو أحد أكثر المهام الحساسة الموكلة إلى القاضي، بصفته المؤول الرئيس للغة القانون.

لقد رأينا أن العنصر الأساسي أو الأول للمعنى -سكون المصطلح- هو الوسيلة الرئيسية لمفاهيم مجال معين. لكن، لكي ينبض -هذا المصطلح- بالحياة، يجب أن يستند إلى مفردات شبه قانونية (معجم الدعم أو الأحداث المتساوقة)، وأخيرا مفردات عامة. ومن ثم، فإن الفعل التأويلي للمعنى، ثم الدلالة، سيتبع هذه المراحل الثلاث؛ فالنسبة إلى أي قارئ، حيث يكون الفهم الغليظ من صفة الشخص العادي، بينما تظل الدقة من اختصاص المتخصص. وبين الاثنين -من الناحية النظرية- مجموعة كاملة من التأويلات الممكنة.

على رأس الهرمية القانونية، يتلفظ المشرع معنى لغة القانون، في حين أن القاضي هو الذي يحدد دلالتها، وذلك عندما يتم المناداة عليه لتأويل نص غامض متنازع عليه ومقدَّم إليه من طرف الأطراف. ماذا يفعل مؤوِّل القانون هذا؟ يعود إلى المعنى العادي للكلمات من خلال استشارة المعاجم العامة! يميل هذا النهج إلى إثبات أن لغة القانون، في النهاية، لا تختلف كثيرا عن اللغة المشتركة، حتى أنها تندمج معها، على الأقل فيما يتعلق بكلمات المفردات الداعمة والمفردات العامة، أي الغالبية العظمى من معجم اللغة، مقابل أقلية صغيرة من المصطلحات التقنية.

أما فيما يتعلق بتقنية اللغات المتخصصة التي تعادل عند المتخصصين اللغويين وحدة المصطلح التقني، هنا مرة أخرى، يتعين التمييز على غرار “جان بياجيه” (Jean Piaget)، بين ما هو عام (كوني)، وبين ما هو غير كوني. إذْ وَفقا لـ”بياجيه”، فإن العلوم القانونية ليست بالعلوم العامة (Pas nomothétique)، على نقيض علم الاجتماع أو اللسانيات أو الاقتصاد أو الديموغرافيا[6]. وبما أن العلوم القانونية لا تهدف إلى تحديد القوانين، فإنها “تشكل عالما منفصلا، تهيمن عليه المشاكل، وليس الوقائع أو التفسيرات السببية، وإنما المعايير”.[7] ومع ذلك، وكما يعلم الجميع، فإن القاعدة القانونية تتحرك، فهي غير مستقرة بحكم الحد/التعريف، خاصة عندما تكون ذات نظام اجتماعي. والمفردات القانونية تعكس -بدورها- عدم الاستقرار هذا، بغض النظر عما يفكر فيه القانونيين. والنتيجة، هي تعدد المعاني الذي يساعد على تعميق الغموض المحيط بالقانون، والذي ينبع في جزء كبير منه من طابعه النمطي (Solennel) الباطني (Ésotérique): الولادة في مجلس تشريعي، والعقوبة العامة من جانب المحاكم على المخالفة المرتكبة؛ الاحتفال بالقانون من قبل رجال الدين (Les ministres du culte) الذين هم محامون وموثقون.

هذا التعدد الذي يظهر بشكل أو بآخر بحسب المجالات، هو متأصل في اللغة البشرية[8]. إنه مخفي وراء المصطلحات غير الضارة أحيانا. نأخذ على سبيل المثال كلمة عادية جدا مثل “المعلومات” (Information) في اللغة الإنجليزية، فقد ثمّ وصفها في سياق المادة 785 من القانون الجنائي الكندي، حيث لم تعد تعني “المعلومات” (Information) أو “المعلومات” (Renseignements) المبتذلة التي يتوقع أي قارئ العثور عليها هناك، وإنما أصبحت تعني “الشكاية” (Dénonciation)! ونقيس على ذلك أيضا مصطلح واسع الانتشار مثل شركة الأعمال (Business corporation). في كندا، هناك ما لا يقل عن ست مقابلات ممكنة بناء على ما إذا كان سيتم ترجمتها إلى الفرنسية في “الكيبيك” (Québec) أو في “أونتاريو” (Ontario) أو في “نيو-برونزويك” (Nouveau-Brunswick) أو في “أوتاوا” (Ottawa)، سواء أكان النص قبل أم بعد عام 1985! هذان مثالان فقط من بين ألف. يزخر القانون -على ما يبدو- بعبارات “مشتركة” ذات معنى تقني دقيق للغاية. هذه الخصوصية، بالمناسبة، يجب أن تجعل المترجم حذرا بشكل مضاعف عند التعامل مع نص قانوني. وفي هذا الصدد، نذكّر بالمبدأ الأساس الذي أعلن عنه “اللّورد هالسبري” (Lord Halsbury): “كلما زاد عدد الكلمات، زاد عدد الكلمات التي يمكن أن تكون هناك شكوك حولها”[9].

باختصار، إذا نحن بدأنا من فرضية أنه من أجل الوصول إلى “الدلالة”، يجب أن يصعد النص القانوني إلى المحاكم، حيث سيمنحه القضاة تأويله النهائي، ومن ثم، معناه الحقيقي، والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي الاعتراف بأن لغة القانون ليست ثابتة أبدا، وأن اللغة القانونية سريعة الزوال وليست مؤكدة بشكل أساس. كما أن معنى مصطلحاتها محدد، ودلالتها لا يتم تحديدها إلا في موقف محدد للغاية، ويتم تطبيقها على حالة معينة. بعبارة أخرى: إن لغة القانون ليست كاملة أبدا (أو تكاد)، إنها لغة ذاتية الصنع، يتم إدراكها باستمرار، وهذه ليست سوى فئة صغيرة من القضايا مقارنة بالنصوص التي لا تعد ولا تحصى التي لم تخضع للتأويل من قِبَل المحاكم. ونتيجة لذلك، فإن اللغة القانونية لا تختلف عن اللغة العادية في التطور الدلالي المستمر، باستثناء حقيقة أن تطورها أبطأ، على الرغم من ذلك، فإنه تطور لا مفر منه.


[1]– عنوان المحور الرابع من مقال “أسس لغة القانون كلغة متخصصة، معنى وشكل النص القانوني”، المنشور في “المجلة العامة للقانون”، العدد 21 (4)، 1990، ص. 735-737. رابط المقال:https://www.erudit.org  

[2]– “جان كلود جيمار” ((Jean-Claude Gémar، أستاذ فخري في جامعة مونتريال Montréal بكندا (كلية الفنون والعلوم)، وأستاذ فخري أيضا في جامعة جنيفGenève ، متخصص في اللسانيات والترجمة  وتحديدا الترجمة القانونية. صدرت له العديد من الكتب والمقالات في هذا المجال، وكذا في المصطلحات واللسانيات القانونية. كما شغل منصب الأمين العام لهيئة تحرير مجلة ميتا Revue Meta ما بين 1981 و 1995، ومدير مشروع الترجمة والمصطلحات في أوبلف-أوريف Aupelf-Uref  ما بين 1979 و 1989. ومن بين إصداراته العلمية نذكر على سبيل المثال:

  • Gémar, J.-C. (1987) : La traduction juridique : art ou technique d’interprétation ?, in : Revue générale de droit, 18(2), p. 495-514.
  • Gémar, J.-C. (dir.) (1982) : Langage du droit et traduction. Essais de jurilinguistique, Montréal, Conseil de la langue française.
  • Gémar, J.-C. (1983) : Les trois états de la politique linguistique du Québec, Québec, Conseil de la langue française.
  • Gémar, J.-C. (1990) : Les fondements du langage du droit comme langue de spécialité. Du sens et de la forme du texte juridique. Revue générale de droit, 21(4), 717-738.
  • Gémar, J.-C. (1994) : Fonctions de la traduction juridique en milieu bilingue. Le cas du Canada, thèse de doctorat d’Etat ès Lettres (Université de Toulouse le Mirail).       

للمزيد، راجع الموقع الآتي: www.umontreal.ca

[3]– باحث في التّداوليات القانونية وتحليل الخطاب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السّعدي، تطوان، المغرب.

[4]– G.L. Williams, «Language and the law», part – 1, (1945) 61 L.Q.R., p. 71.

– يقول “ويليامز” بخصوص النقاش الدائر حول اللغة والقانون: “القانون ليس سوى قسم خاص من اللغة […] في حين أن تطبيق القانون محدود، واللغة على عكس من ذلك فهي [منتشرة]. ويقول “مارك. ل. ج. كوراي” (L.J. Mark Cooray) في الدراسة التي أعدّها حول لغة القانون في سريلانكا ما يلي: “القانون مرتبط ارتباطا وثيقا باللغة التي يعبّر عنها”.

– L.J.M. Cooray, Changing the Language of the law: The Sri Lanka Experience, Québec, P.U.L., 1985, p. 69.

[5]– J.C. Gémar, «La traduction juridique: art ou technique d’interprétation?», (1987) 18 R.G.D., p. 504.

[6]– Jean Piaget, «Classification des disciplines et connexions interdisciplinaires», (1964) 16 Revue internationale des Sciences sociales, p. 598-616.

[7]– Id., p. 601.

[8]– John Weightman, «Pourquoi je n’ai pas compris Foucault», (1989-90) 23 La lettre internationale, p. 49.

– يقول “جون وايغتمان” في ذات السياق: “الكلمات تعني فقط ما أصبحت تعنيه في السياق التاريخي الذي استخدمت فيه، وغالبا ما يكون لهذا المعنى هامش من الغموض نتيجة الطفرات الدلالية المتكررة التي تحدث ضمن [أو أثناء] صخب الاستخدام”. المرجع نفسه.

[9]– Lord Halsbury, Laws of England, London, Butterworths, 1907, p. CCXVI; cite par P.A. Côté, Interprétation des lois, Cowansville, les Editions Yvon Blais Inc., 1982, p. 44.

مقالات ذات علاقة

استثمار الوقت في الكتابة  

سعيد العريبي

أُمنية… و بئر قديم.

عطية الأوجلي

The Sharp Bend at Al-Bakur

نجوى بن شتوان

اترك تعليق