دراسات

صدى الصمت: تاريخ المهمشين في ليبيا الاستعمار وما بعدها

کتاب "الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده" للأستاذ علي عبد اللطيف احميدة
کتاب “الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده” للأستاذ علي عبد اللطيف احميدة

یتخذ کتاب “الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده”2 للأستاذ علي عبد اللطيف احميدة من نظرية ما بعد الاستعمار إطارًا عامًا لمعالجة تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر. يهدف من خلال هذا الإطار إلى نقد الرؤية الاستعمارية الأوروبية، وبنفس القدر من الصرامة، نقد رؤية النخُب الوطنية الحاكمة للتاريخ، التي غالبًا ما وظَفته لتمجيد ذاتھا والتغڼّي بانجازاتھا.

تتركز دراسات علي عبد اللطيف احميدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيوايغلاند، على موضوعات النظرية السياسية وعلم الاجتماع التاريخي. وتعدّ أبحاثه رائدة في مجال دراسة منطقة شمال أفریقیا، وبشکل خاص لیبیا، مع التركيز على موضوعات الإبادة الجماعية والمقاومة ضد الاستعمار في المنطقة.

يعيد احميدة في كتابه Forgotten Voices: Power and Agency in Colonial and Postcolonial Libya،  الصادر باللغة الإنجليزية عن دار نشر روتليدج، التفكير في التحليلات الاستعمارية والوطنية لتاریخ ليبیا الحدیث، محاولاً إعادة الاعتبار للأصوات المهمّشة، أي غالبية الأهالي العاديين والأميين من البدو، والفلاحين، والعمال، والمهاجرين، والنساء، والعبيد. تلك الأصوات التي أُهملت أو أُسيئَ استخدامها من قبل النخب الاستعمارية والوطنية، بالرغم من أنها واجهت تناقضات الاستعمار، والإبادة، ونشوء الدولة القومية الحديثة، والاستلاب.

تقوم فرضية الكتاب الرئيسية على أن المنظورات الفردية لا تقل أهمية عن الوثائق الرسمية كمصدر أساسي في عملية صناعة التاريخ. وعلى هذا الأساس، تبحث فصول الكتاب في السيرورات الاجتماعية التي تنتج وتكيّف أصوات الفاعل البشري (Human Agency)، أي الليبيين العاديين، في مواجهة ضغوط السلطة (Power) سواء كانت استعمارية أو وطنية.

تكمن غایة الكتاب في الدفاع عن المجتمع المدني اللييبي واستعادة حيویة تاریخه الاجتماعي والثقافي بعد أن جری اختزاله لعقود في إطار شخصية معمر القذافي. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يستخدم المؤلف مدخلاً متعدد التخصصات يتضمّن الإبستمولوجيا المتعلّقة بالنظرية السياسية والتاريخ الاجتماعي لمقاربة التاریخ اللیبي ضمن سیاق کوني، ولیس باعتباره حالة استثنائية، معتمدًا على المناهج والمفاهيم النقدية المستمدة من مدارس المارکسية الجدیدة وما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة، خاصةً تلك المتأثرة بالجدالات حول الاستشراق ودراسات التابع (Subaltern studies)3.

من العثمانيين إلى الإيطاليين: بناء الدولة الليبية في القرن التاسع عشر من وجهة نظر الاقتصاد السياسي

یبدأ هذا الكتاب بدحض مزاعم عدد من المؤرخین للعھد العثمانی الثانى (1835-1911)،4 الذين قادتهم تحليلاتهم المستندة لظاهرة العائلات الحاكمة ونظرية التحديث، إلى الافتراض بوجود دولة مركزية تسيطر على الأطراف. بينما تقوم حجة احميده المغايرة على أن كل جهة من جهات ليبيا الكبرى الثلاث (طرابلس، وبرقة، وفزّان) طورت اقتصادات سياسية متمايزة بفضل تنوع تضاريسها الجغرافية وبيئاتها الطبيعية، والتي ساعدت في استدامة نمط الإنتاج الرعوي وزراعة الكفاف، ونشوء تنظيمات اجتماعية-سياسية جهوية غير خاضعة للدولة المركزية في طرابلس الغرب.

عزّزت التجارة بين أوروبا وأفريقيا عبر المتوسط، مروراً بصحراء ليبيا الكبيرة، من قدرة التنظيمات الجهوية على منافسة الدولة المركزية. إذ قامت بتوفير مصدر إضافي للدخل من خلال فرض الإتاوات على القوافل التجارية المارة بالصحراء عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة القبائل البدوية، التي عمل أفرادها أيضًا كحراس وأدلاء ومؤجري إبل. ساهم ازدهار التجارة عبر الصحراء في تشكيل تحالفات قوية بين طبقة التجار والصفوف القبلية، مما أدى إلى نشوء عدة دول محلّية قابلة للحياة اقتصادياً، مثل دولة أولاد محمد (1550-1813)، والدولة القرمانلية (1711-1835)، والسنوسية (1843-1932).

بعد عام 1835، استهدفت السياسة العثمانية في ليبيا بناء دولة مركزیة قویة في سیاق الإصلاحات المعروفة باسم التنظیمات،5 بغية مواجهة التوسّع الأوروبي الرأسمالي (الفرنسي، والبريطاني) عسكريًا وتجاريًا في غرب ووسط أفريقيا. وتطلّب ذلك إنشاء جيش قوي للقضاء على القبائل المتمتّعة بالاستقلال الذاتي والإعفاء الضريبي، وتوطين القبائل البدوية، واستحداث نظام بیروقراطي وتعلیمي لتدریب إداريین، وقضاة، ومعلّمين يُشغّلون المنظومة الإدارية الجديدة.

قادت السیاسة العثمانیة الجدیدة والتغلغل الرأسمالي إلی تراجع تجارة الصحراء في فزّان، بینما تکیّفت طرابلس مع ذلك التراجع نتيجة تكامل أسواقها الحضرية، التي استوعبت القبائل البدوية بعد تحول أفرادها إلى فلاحين وعمّال. في حين ظلت تجارة القوافل مزدهرة في برقة نظرًا لقوة البنية التحتية للحركة السنوسية، 6 التي ربطت برقة بالأسواق المصریة، وعززت التحالفات القبلية عبر أيديولوجيا الجامعة الإسلامية. وبهذا السياق، نجحت الحركة في إعاقة السيطرة العثمانية على برقة. وبعد انسحاب العثمانيين، وجد الإيطاليون أنفسهم أمام بلد مترامي الأطراف مكوّن من تقسيمات جهوية وتحالفات قبلية واجتماعية، بدلاً من بلد موحّد خاضع لسلطة مركزية.

دولة أولاد محمد: اكتشاف وثائق جديدة مهمة (1555-1813)

كمدخل لتحدّي التصنیفات الكولونيالية للدراسات الأفریقیة، وتجاوز التقسیم الأكاديمي بين دراسات شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، يسلّط هذا الفصل الضوء على تجربة دولة أولاد محمد وتاریخها الاجتماعي، بهدف إثبات وجود روابط اجتماعية واقتصادية وثقافية عصية على الفهم بين ليبيا ومحيطها الأفريقي إذا ما تم التسليم بفكرة الدولة-الأمة كأمرٍ غير قابل للنقاش. ففي الوقت الذي عاملت فيه النخب الاستعمارية والوطنية الصحراء الليبية كفضاء يفصل بين ليبيا وجوارها، تأتي دولة أولاد محمد بتاريخها الاجتماعي لتتحدّى هذه الرؤية. فالدولة الفزانية التي أسست في عام 1550 على يد أحد الأشراف7 القادم من مدينة فاس، تمكّنت من البقاء والاستمرار لمدة تقرب من ثلاثة قرون، معتمدة على الإتاوات المفروضة على قوافل التجارة الصحراوية. كما ساعدها قربها من بحيرة تشاد في أن تكون عاصمتها مرزق، سوقاً حيوياً يعج بالعديد من التجار من مختلف الأصول العربية المحلية، والأفريقية من مناطق الجوار.

مكِن الاقتصاد الجهوي والروابط الاجتماعية-الاقتصادية مع الأسر الحاكمة والقبائل القوية في بحيرة تشاد، دولة أولاد محمد من تحدّي السلطة المركزية للدولة العثمانية، ومن بعدها الدولة القرمانلية. إذ اتبع حكامها نمطاً معقّداً من العلاقة مع كلتا السلطتين المركزيتين، يقوم على دفع الضرائب لهما في حالات الضعف، والقتال ضدهما في حالات القوة. ومع تراجع الدخل الريعي للدولة القرمانلية بعد إضعاف أسطولها البحري والتضييق عليها من قبل بريطانيا وفرنسا، اضطرت للتوجّه جنوباً نحو الصحراء لتعويض خسائرها الاقتصادية والقضاء على دولة أولاد محمد عام 1813.

الدكتور علي عبداللطيف احميدة (الصورة: عن أصوات مغاربية)
الدكتور علي عبداللطيف احميدة (الصورة: عن أصوات مغاربية)

من القبيلة إلى الطبقة: جذور المقاومة الليبية في مواجهة الاستعمار

شهدت ردود الأفعال المحلية ضد الاستعمار الإيطالي تنوعًا في الأشكال، إذ تدرجت من المقاومة المسلحة والتفاوض إلى التعاون والتواطؤ. واختلفت الاستجابات بحسب الجهة والتفاوت الاقتصادي-الاجتماعي، وقوة التغلغل الرأسمالي. في حين ركّزت التفسيرات السائدة على أيديولوجيا القبلية والبداوة، أو الدوافع الأخلاقية الشخصية، أتى هذا الفصل من الكتاب ليطرح تفسیڑًا جدیدا تماما يأخذ بعین الاعتبار الفوارق الطبقیة بین المقاومین والمتواطئین على حد سواء.

یجادل احمیدة بأن البناء الطبقي في جهات لیبیا الثلاث كان متمايزاً عندما احتل الإيطاليون ليبيا عام 1911. فإلى جانب طبقة الفلاحين والبدو والحرفيين، أدت الإصلاحات العثمانية في طرابلس في عهد تركيا الفتاة 8 إلى ظهور طبقة أعيان حضرية. تلك الطبقة حصلت على رواتب من الدولة العثمانية نظير دخولها في السلك الإداري وعملها كوسيطة بين الدولة العثمانية والأهالي في تحصيل الضرائب. وبالرغم من صراع أفراد هذه الطبقة على الأراضي والمناصب في الدولة العثمانية، إلا أن ارتباطها برابطة الجامعة الإسلامية العثمانية لم يلغ روابطها الدينية والقبلية تماماً، بل عبّرت عن صعود طبقة حضرية قاومت الاحتلال الإیطالي.

في المقابل استفادت طبقة التجار (الكوميرادور)،9 من الإصلاحات العثمانية في التحول نحو اقتصاد أكثر رأسمالية، بهدف توسیع تجارتها بین المدن ومع الخارج. ارتبطت هذه الطبقة بمصرف روما الذي استثمر بشكل كبير في الأراضي والزراعة ومصانع الزيت والمشروبات الكحولية منذ عام 1907. من أبرز ممثليها حسونة القرمانلي، وعائلة المنتصر من مصراتة، وتجار لیبیون یهود من عائلة حلفون الذین ساعدوا الجیش الإیطالي في احتلاله لطرابلس.

أما بالنسبة للقوى الاجتماعية التي كانت في أطراف طرابلس، فقد تأرجحت مواقفها بين التعاون والمقاومة. فالقبائل التي كانت على عداء مع الإدارة العثمانية لم تر في التوسّع الإيطالي تهديداً لها، بل عدته فرصة لتحقيق التوازن مع خصومها. على النقيض من ذلك، حاربت قبائل أخرى الجيش الإيطالي إلى أن قُتلت أو هُجّرت. يرى احميدة أن تشرذم أعيان طرابلس ودواخلها بين المقاومة والتواطؤ سهّل هزيمة “الجمهورية الطرابلسية” إحدى أقوى التنظيمات السياسية والعسكرية لمقاومة الاحتلال الإیطالي في غرب ليبيا.

بقيت فزان تحت هيمنة الصفوف القبلية التي قاوم بعضها وتواطأ الآخر مع الإيطاليين، بالإضافة إلى العشائر المالكة للأراضي والخماسين.10 أما برقة فقد تواطأ أعيانها الحضريون مع الدولة الإيطالية، وخاصة في المناطق الساحلیة التي لم تربطها سوی روابط ضعيفة بالداخل البرقاوي الذي هيمنت عليه الحركة السنوسية. كان لتجذّر الحركة السنوسية كحركة دينية -اجتماعية، تمتلك هیکلیة قضائیة وقانونیة وزوایا تقدم التعلیم الدیني والتدریب العسکري إلی جانب تنظيمها للتجارة وحل النزاعات، دور رئيسي في التصدّي للاحتلال الإيطالي، ومن قبله التغلغل الرأسمالي في شمال أفريقيا ووسطها. إذ لطالما خاضت الحركة، بقيادة أحمد الشريف السنوسي، حروباً ضد الفرنسيين في تشاد والإنجليز في مصر.

أما النظام الاجتماعي للسنوسیة، فلم یکن قائمًا بأي حال من الأحوال علی المساواة، بل تمێز بوجود دولة تتلقی ریعا سنویًا من تجارة القوافل والوقف المُعفی من دفع الضرائب للعثمانیین. کان هذا الريع یذهب جلّه لطبقتین مهیمنتین داخل الحركة، وهما: طبقة الإخوان (فقهاء الأسرة السنوسية)، وطبقة تجار الصحراء. وقد جمعت بين هاتين الطبقتين علاقات مصاهرة لم تتعد إلى مجموعات أخرى. نجحت الحركة في منع الإيطاليين من التوسّع خارج المناطق الحضرية، ما اضطر الحكومة الإيطالية لعقد اتفاقیتین للسلام معها، انقسمت علی إثرهما الحرکة سیاسیًا إلی جناحین: البراغماتي، متله إدریس السنوسي، والذي قبل بسيادة إيطاليا على الساحل البرقاوي نظير السماح بحرية التجارة والإعفاء الضريبي، وضمان مرتبات لأفراد الأسرة السنوسية في مقابل نزع سلاح الصفوف القبلية المقاتلة التابعة للحركة. وهو ما قوبل بالرفض من قبل الجناح الثاني الراديكالي ممثلاً بقادته أحمد الشریف وعمر المختار الذي اختار هو واتباعه المنحدرین من القبائل الأدنی مستوى اجتماعياً مقاومة الإیطالیین إلى أن تم القضاء على المقاومة المسلحة بشكل كامل عام 1932.

المعتقلات الجماعية لإيطاليا الفاشية في ليبيا، وصمت المؤرخين الغربيين 11

يستبدل الكاتب هنا الدولة القومية كوحدة للتحليل بالنقد المقارن الذي يُدخل المستعمرات الأوروبية في إطار النظام الرأسمالي العالمي، وذلك لدحض الرأي السائد في الأدبیات الغربیة حول تاریخ الفاشیة الإیطالیة باعتبارها دیکتاتوریۀ ومعتدلۀ من حیث هي أقل شراً من النازية الألمانية. يستعرض الكتاب وجهة النظر المركزية-الأوروبية حول الفاشية باعتبارها ديكتاتورية تنموية ساهمت في تحدیث إیطاليا، وإلى موسوليني باعتباره رجل دولة قوي، أو مجرّد مهرج كما صوره منتقدوه. هيمنت تلك الصورة بشكل كبير على أدبيات السياسة المقارنة والنظرية السياسية، وامتدت حتى للمجال الثقافي والأعمال السينمائية، خاصة بعدما اعتُبر النظام الفاشي بالمقارنة مع نظيره النازي متسامحاً مع الأقلية اليهودية الأوروبية، ما دفع بصاحبة الكتاب الأكثر شهرة حول أصول الأنظمة الشمولية، حنة آرنت، إلى المحاججة بعدم وجود مسألة يهودية في إيطاليا وبالتالي ترسيخ اسطورة اعتدال الفاشية.

للرد علی هذه المزاعم، کان لابد من اللجوء إلی منهج بديل يُبرز أصوات من اعتُقِلوا في معسكرات الإبادة الجماعية التي انشأها الفاشيون في ليبيا لعزل المقاومة عن قواعدها الاجتماعية بين عامي 1929 و 1934. تكشف هذه الأصوات عن فظائع أدّت إلی مقتل حوالي 70000 مواطن لیبي أعزل، إلی جانب تدمیر ثروتهم الحیوانیة، وإهانة کرامتهم الإنسانیة. وفي ظل الصمت الدولي والمحلي، اتجه احميدة لدراسة التاريخ الحي من الأسفل، أي دراسة تاريخ الناجين من الإبادة معتمداً علی میراثهم الشفهي لإبقاء ذاكرتهم حية، ومحذراً من التسامح مع جرائم الفاشية باعتبارها انحرافاً أو جزءاً من عملیة تحدیث المجتمعات المُستعمَرة.

الهوية والاغتراب في الأدب الليبي بعد الاستقلال: “ثلاثية” أحمد إبراهيم الفقيه نموذجًا

يقدّم احميدة تحليلاً سوسيو-سياسيًا وثقافيًا لأهم أعمال الأديب الليبي، أحمد إبراهيم الفقيه، لمعرفة الكيفية التي عالج بها إشكاليات الهوية والجنس والجدالات الاجتماعية والثقافية في ليبيا المعاصرة. إذ تعكس أعمال الفقيه بشكل رئیسي قضایا التوتر والاختلافات بین القیم الریفیة والحضریة في مجتمع بدأت فیه عملیة تحدیث کبیرة، وتغیّر اجتماعي بعد اکتشاف النفط، الذي نجم عنه ولادة طبقة وسطى متعلّمة، وحركة طلابية، وأندية ثقافية.

وکغیره من مثقّفي جیله الحداثیین من اللیبیین والعرب، واجه الفقیه في ثلاثیته مشاكل الاغتراب عن المجتمع والاغتراب في الغرب کانعکاس لتجربته الشخصیة في دراسة الدکتوراه في بریطانیا. 12 واستعرض احميدة، بأسلوب أدبي مشوّق، نقد الفقیه المزدوج لمجتمعه الذي، رغم بدء مسيرة تحديثه المادي والتعليمي، ظلت علاقاته العشائرية-الأبوية قوية ومراكزه الحضرية ضعيفة. وكذلك وجه النقد لأنظمته السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، التي ترفع شعار المحافظة، في الوقت الذي يغرق فيە مسؤوليها في الفساد والاستهلاك.

الجماهيرية: الأصول التاريخية والاجتماعية للدولة الشعبوية

ینطلق الفصل الأخير من نقد الأدبیات السائدة عن الدولة في شمال أفریقیا، والتي تعاني بحسب المؤلف من خلل منهجي ناتج عن وقوعها تحت هيمنة المركزية الأوروبية المتخذة من نموذج الدولة القومية وحدة أساسية للتحليل وفقاً للمنظور الفيبري 13 عن الدولة. من أبرز تلك المدارس نظرية التحديث التي اعتبرت أن الاستعمار سيقضي على القيم القبلية والدينية ليحل محلها قيم العقلانية والديمقراطية الرأسمالية، لكنها عجزت وفقاً لحميدة، بالرغم من الاستعمار الرأسمالي وتحدیث ما بعد الاستقلال، عن تفسير صعود حركات الإسلام السياسي مؤخرا، واستمرار الحكم العائلي والعسكري السلطوي في مصر وتونس ولیبیا والجزائر والمغرب.

یُحاجج احمیدۀ بأن تجربۀ الجماهیریة 4′ (1969-2011) لم تکن انحرافاً عن المسار الطبیعي للمجتمع اللييي، کما اعتقد الباحثون الغربيون، بل كان أسلوب حكمها متجذراً بقوة داخل المجتمع الليبي بإدارته السنوسية، والجمهورية الطرابلسية.

وذلك من خلال ارتباط المجتمع بالثقافة الإسلامية-العربية الجامعة، ومؤسسات القرابة المستقلة ذاتياً، والخوف من فكرة الدولة المركزية المرتبطة في ذهن المجتمع الليبي بالاستعمار. إن أخذ هذا التاريخ بعين الاعتبار هو الذي يُفسّر نجاح معمر القذافي في ترجمة هذا المیراث إلی أیدیولوجیا ثوریة، مستخدماً في ذلك لغة شعبیة یفهمها اللیبیون العادیون.

فالجماهيرية، وبالرغم من كونها دولة سلطوية-شعبوية، إلا أنها خلال عقدها الأول حاولت الإجابة عن المشاكل البنيوية السياسية في المجتمع الليبي، مثل الإرث الكارثي للاستعمار الفاشي، وضعف الدولة الملكية، ومسألة الهويات الجهوية المترسّخة. كما مكنّتها سياساتها الإصلاحية الثورية في البداية، من توسيع قاعدتها الاجتماعية بين الطبقات الوسطى والدنيا خاصة في الأرياف. لكن التحوّلات السياسية في بداية الثمانينات، والمتعلّقة بالمواجهة مع الخارج، وقمع المعارضة الداخلية، انتهى بتحول دولة الجماهيرية إلى نظام سلطوي شخصي يقوم على تعظيم شخصية القذافي، والوحدة الأفريقية بدل العربية.

كما أدّى نزوعها باتجاه الدولة الأمنية إلى تقويض عملية البناء المؤسسي، وضعف المنظمات المدنية، وهجرة العقول. وفي الوقت الذي كثرت فيه التحليلات التي تركّز على غياب المؤسسات في تفسير أزمة الدولة الليبية، أطلق حميدة تحذیزًا سابقًا لاندلاع الانتفاضة الليبية بخمس سنوات، يقول فيه “وما لم يتم التسليم بالقصور ويُستدعى الليبيون المؤهلون للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية والمدنية والاجتماعية، فإن مؤسسات الجماهيرية قد لا يقيّض لها البقاء بعد القذافي. وفي هذه الحالة، ستواجه ليبیا القرن الواحد والعشرین دون مؤسسات قوية، الأمر الذي يضع عوائق هائلة أمام قادتها، ویضع شعبها في مشقة كبيرة”. 15

خاتمة

باستثناء عدد قليل من الدراسات النقدية منذ الاستقلال، ظلت الدراسات الغربية والعربية حول الدولة الليبية الحديثة مُختزلة في أمرين: أولاً، شخصية معمر القذافي، وثانياً، القبلية والبداوة. وقادت تلك التحليلات بدورها إلى الزعم بأن ليبيا كانت مجتمعاً بلا دولة statelessness society، بالرغم من أن ليبيا صُنفّت بحسب مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية عام 2010 الأولى إفريقياً والثالثة والخمسين على مستوى العالم، حيث بلغ معدل معرفة القراءة والكتابة فيها ما نسبته 88%، ومدی متوسط الأعمار 76 عاماً. 16

تكمن الإضافة المنهجية للكتاب في كونه: أولاً، يُقدّم لنا مدخلاً لفهم تشكِّل الدولة الليبية من داخل المجتمع الليبي نفسه، بتحولاته التاریخیة والاجتماعیة والثقافیة والطبقیة المُعقّدة. وبالتالي، تصبح تجربۀ الجماهیریة أمرًا ذا معنی إذا نظرنا إلیها من خلال تلك التحولات. ثانياً، الاتساق بين النظريات النقدية الثلاث (الماركسية الجديدة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الحداثة) التي اعتمدها الكتاب وبين تطبيقها لفهم التاريخ الاجتماعي لمنطقة المغرب العربي، وأفريقيا جنوب الصحراء، وليبيا بشكل خاص. فالحدیث عن أصوات مهمّشة لیس اختراعاً جدیداً هنا، فقد سبق الکاتب إلیه میشال فوکو في دراساته لأصوات مهمشي أوروبا في السجون والمصحات العقلية، .. وفرائز فانون في تسليط الضوء على معاناة الجزائريين في المُستعمرة الفرنسية.18 كما أن تقصّي الأصول الاجتماعية لدیکتاتوریة نظام القذافي یستلهم العمل الشهیر لعالم الاجتماع الأمریکي یارنتغتون مور بعنوان “الأصول الاجتماعية للدیکتاتوریة والدیمقراطیة” 19

في ظل أزمة الدولة الليبية الحالية، يمكن الاستفادة من الكثير مما قُدم في هذا العمل المتميّز. وبالرغم من رؤية مؤلفه النقدية لمفهوم الدولة القومیة الحدیثة، إلا أن غیاب بدیل واقعي عنها کإطار مرجعي لإدارة الصراع السیاسي-الاجتماعي والطبقي، یعني بالنسبة لنا، منهجياً، إسقاط الماضي على الحاضر وهو أمر يثبت حتى كتابة هذه السطور أنه مستحيل التحقق عملياً. فالمنظمات التاريخية القائمة على الروابط التقليدية كالدين، والعشيرة، والقبيلة هي أضعف من أن تكون اليوم قادرة على مواجهة ميليشيا مسلحة واحدة في ليبيا. وبحسب وجهة نظرنا، هي نظرة رغبوية للمؤلف لاستعادة حيوية التاريخ الاجتماعي والثقافي اللیبي أکثر من کونها نظرة واقعیة. إن الدولة الحدیثة بکل تناقضاتها، وإن کان تحدید طبیعتها أمرُ شائك ومعقّد، ما زالت هي أکثر ما یفتقده، بل ويطالب به الليبيون اليوم لإدارة صراعاتهم الاجتماعية، وتحقيق أمنهم واستقرارهم وعيشهم الکریم.


نشر على منصة: الصالون.

* تعبّر وجهات النظر الواردة في هذا النص عن آراء كاتبها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر منصة “الصالون”.

الهوامش:

1- علي بن موسى باحث ليبي في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية وحاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العلیا.

2- Ali Abdullatif Ahmida, Forgotten Voices: Power and Agency in Colonial and Postcolonial Libya, Routledge, 2005.

3- تُعنی دراسات التابع بتقدیم قراءة تاریخیة تُركز على أصوات الفئات المهمشة أو التابعة في المجتمعات. للمزید أنظر: دیبیش شاكرابارتي، دراسات التابع والتأریخ ما بعد الکولونیالی، ترجمۀ: ثائر دیب، أسطور، العدد الثالث، کانون الثاني/ ینایر 2016، ص 7-23.

4- يخص المؤلف بالاسم كل من المؤرخین اللیبیین، الطاهر الزاوي، وعبد الله إبراهیم، وأستاذة العلوم السیاسیة الأمریکیة لیزا اندرسون.

5- يقصد هنا بالتنظيمات: الإصلاحات التى حاولت الدولة العثمانية إدخالها لإصلاح شؤون الحكم والإدارة. استوحت تلك الإصلاحات من التجربة الأوروبية إلى حد بعيد. وكانت تستهدف تغيير نظام الإمبراطورية على الصعيدين العسكري والإداري، وإرسائها على أسس فكرية وقانونية جديدة. كان هدف الإمبراطورية العثمانية وراء تلك الإصلاحات تحسين الأحوال السائدة في الدولة وتنظيم أمورها، بغرض إعادة اللحمة للمجتمع العثماني، على أسس اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة، وإلغاء التمييز بین جمیع طوائف السلطنة وقومیاتها. بالإضافة إلی ذلك، کان الهدف الثانى لهذه الإصلاحات استحداث نظام إداري جديد، والذي تمثل في البدء بتطبيق سياسة مركزية من شأنها ربط الولايات جميعها بالمركز والقضاء على كل أشكال الاستقلال الأسري.

6- تأسست الحركة السنوسية على يد عالم دين جزائري حضري يُدعى محمد بن علي السنوسي، الذي أنشأ زاوية في منطقة برقة شرق ليبيا عام 1842. اعتمدت الحركة في نشاطها على القطاعات المتعددة من التجارة، والتعلیم، کما اعتمدت علی أیدیولوجیا الجامعة الإسلامیة. تمگنت الحرکة من توحید القبائل وعدة جماعات إثنية وعرقية تحت رايتها عبر زواياها المنتشرة في شمال أفريقيا والصحراء الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر. قدّمت السنوسية التعليم والمأوى والتدريب العسكري، كما نافست الحركة الدولة العثمانية في تولي شؤون الأمن والإدارة القانونية في المناطق التي تواجدت فيها. تحوّلت بنيتها التحتية إلى قاعدة للمقاومة الليبية بقيادة عمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي حتى العام 1932.

7- من الأشراف أو الشریف هو لقب يُطلق علی الشخص الذي یدعي نسبه لأسرة النبي محمد، صلی الله علیه وسلم.

8- حركة تركيا الفتاة هي حركة قومية استولت على السلطة في الإمبراطورية العثمانية عام 1908.

9- أي طبقة التجار الليبيين الذين عملوا كطبقة وسيطة لصالح المصارف والشركات الأوروبية (الإيطالية، والبريطانية) العاملة في ليبيا.

10- الخماسین: هم الفلاحین الذین یعملون لدی صاحب الأرض مقابل الحصول علی خمس المحصول.

11- يعد هذا الفصل اللبنة الأولى لمشروع أكبر طُوّر لاحقاً لدراسة شاملة عن معتقلات الإبادة الجماعية الفاشية في ليبيا. للاطلاع على مراجعة كتاب علي عبد اللطيف احميدة، “الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي” أنظر العدد الرابع من نشرات “الصالون”.

12- لم یکن سفر الفقیه لبریطانیا اعتباطیا، إذا کانت بریطانیا وأمریکا تهیمنان بشكل استعماري على الدولة الليبية في مرحلة ما بعد الاستقلال وحتی سقوط المملكة السنوسية.

13 نسبة لعالم الاجتماع الألماني الشهیر ماکس فیبر.

14- في عام 1977، قام معمر القذافي بتغيير اسم ليبيا من الجمهورية العربية الليبية إلى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، ثم أضيفت إليها كلمة “العظمى” في عام 1986.

15- Ali Abdullatif Ahmida, Forgotten Voices, P. 84

16- United Nations Human Development Programme, Human Development Report 2010: 20th Anniversary Edition. New York: Palgrave Macmillan, 2010.

17 انظر کتابات میشال فوکو:

Michel Foucault, Discipline and Punish, Alan Sheridan (trans.), New York: Vintage Books, 1977; Foucault, The Birth of the Clinic an Archaeology of Medical Perception, Alan Sheridan (trans.), London/NY: Routledge, 1989, Foucault, Madness and Civilization a History of Insanity in the Age of Reason, Richard Howard (trans.), London/NY: Routledge,  1989.

18- انظر كتاب فانون:

Franz Fanon, The Wretched of the Earth, preface by Jean-Paul Sartre, Constance Farrington (trans.), Harmondsworth: Penguin, 1967.

19- انظر كتاب مور:

Barrington Moore Jr, Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern World, Harmondsworth: Penguin, 1966.

مقالات ذات علاقة

شعرية اللغة وجماليات السرد

عبدالحكيم المالكي

شعرية المكان في شعر يوسف إبراهيم

المشرف العام

مفردات سريانية في العاميّة الليبية (5/ 8)

عبدالمنعم المحجوب

اترك تعليق