عماد خالد الهصك
أحدثت مقولة الناقد الفرنسي رولان بارت (موت المؤلف) تحولًا جوهريًا في مسار النقد الأدبي الحديث، بعدما كان هذا الأخير مغرقًا في تحليل سياقات النص المختلفة: التاريخية منها والاجتماعية والنفسية، ويعدُّها مداخل أساسية للولوج إلى فضاء النص، مجاراةً لحالةٍ عامة كانت مهيمنة معرفيًا على المنتج الثقافي آنذاك، وهي -بطبيعة الحال- استجابة لواقعٍ سياسي وفلسفي هو انعكاس مرآوي لواقع معيش بحسب المنظر الاشتراكي(جورج لوكاتش) صاحب نظرية الانعكاس.
تأتي مقولة بارت هذه لتحرر النص من حمولته السياقية؛ وتجعله بنية لغوية سابحة ومستقلة بدلالاتها وجمالياتها عن سياقها الخارجي، فلا شيء خارج النص كما يقول رائد التفكيكية (جاك دريدا) وظلت هذه الفكرة مهيمنة على الممارسات النقدية عقودًا، ويُعد كلُّ خروجٍ عنها كسرًا لقواعد نقدية لا يمكن تجاوزها، أو هو قفزٌ وراء أسوار المألوف، وانتهاكٌ لقداسته، واستمر النقد على ما هو عليه سجينًا لبنية النص الجمالية دون التجرؤ على تجاوزها إلى بعدها السياقي.
إن هذا التمترس داخل جدران النص لم تكن ولادته الأولى في أكناف بنيوية بارت، ولا تفكيكية جاك دريدا، بل هو امتداد معرفي كانت بداياته الأولى مع الشكلية الروسية التي جاءت كردة فعل على هيمنة الأيديولوجية على كل شيء بما في ذلك الأدب زمن ثورة البلاشفة، غير أن الشكليين أرادوا حينها تحرير الأدب من سطوة السياسة وهيمنتها؛ فنادوا بأدبية الأدب، وأول من رفع هذا الشعار هو أعلى الشكليين صوتًا (رومان جاكسون 1928).
وثمة منزلة أخرى بين المنزلتين، بين ما هو سياقي وما هو نصي، قادها البنيوي التكويني لوسيان جولدمان، أراد من خلالها الوفاء لنهج أستاذه جورج لوكاتش من جانب، ومواكبة تيار الحداثة أو ما بعد البنيوية من جانب آخر، فمزج بين التيارين: الإشتراكي والبنيوي، لينتج لنا تيارًا هجينًا أطلق عليه البنيوية التكوينية، التي تقرأ نص بنيويًا، وفي الوقت نفسه لا تستبعد سياقاته في هذه القراءة.
وبتغير السياقات السياسية، وهيمنة الفكر الاستعماري (الكولونيالية)، والمغالبة الحضارية، وما تلاها من سقوط للمظاهر التقليدية للاستعمار، وظهور ما يمكن تسميته بالاجتياح الثقافي، وسعي الشعوب المستعمَرة في هذا الخضم إلى البحث عن هويتها الثقافية، بعدما كادت أن تتلاشى مع هيمنة الثقافات الوافدة، حينها برزت ممارسات أدبية ونقدية جديدة اصطلح على تسميتها ب(ما بعد الكولونيالية)ليرجع النقد إلى مساراته السياقية الأولى، ولكن دون التمسك بأطر نظرية مسبقة، ومن هنا تحرر النقد من صرامة المناهج النقدية إلى براح النقد الثقافي، وكان ذلك إذانًا بموت الناقد، فلم يعد النقد قراءة تستند إلى إطار معرفي لا يمكن تجاوزه، بل أصبح تحليلًا أقرب ما يكون إلى القراءة الانطباعية غير الفنية، وفق أنساق ثقافية مضمرة، وأخرى ظاهرة، أنساق كل ما يقال حولها يعد نقدًا؛ لنجد أنفسنا أمام حالة أدبية نقدية رخوة لا يمكن تأطيرها؛ وذلك بالإعلان عن موت الناقد بمفهومه المعرفي النظري، ومن قبله الإعلان عن موت المؤلف كونه ذاتًا مبدعة تتأثر بسياقات محيطها الواقعي بامتداداته المختلفة، وتؤثر فيه، وتحاول إعادة إنتاجه كذلك وفق مبدأ ( رؤية العالم).