دراسات

أشعار الهايكو: “تصفيق اليد الواحدة”

الهايكو
الهايكو

نشأ شعر الهايكو، الذي قد يكون أقصر شكل شعري مكتوب في العالم(*)، في البيئة الثقافية اليابانية، المتآلفة مع الأشكال الشعرية القصيرة، لكنه أصبح في النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة شعرية عالمية. ففي نيوزلندا وأستراليا وأمريكا وكندا وأوروبا وبقاع أخرى من العالم تكونت جماعات وصدرت مجلات مكرسة لهذا النوع من الشعر، إضافة إلى المؤتمرات، المحلية والعالمية، التي تنعقد بشأنه والكتب المخصصة له ترجمة وتأليفا ودراسة ونقدا، كما أن عدد الشعراء الذين ينتسبون إلى الهايكو في تزايد مستمر.

في الوطن العربي تكاد المعرفة بالهايكو تقتصر على أوساط الأدباء والكتاب وثمة من الشعراء العرب من كتب قصائد على نمط الهايكو، كما ظهرت ترجمات متناثرة في المجلات والصحف وعدد قليل من الكتب مترجمة، في الغالب، عن الإنجليزية أو الفرنسية.

لكن لعل هذا الكتاب المخصص لأشعار آباء الهايكو، الذي ترجمه الشاعر والروائي الليبي عاشور الطويبي هو أول كتاب في العربية بهذا الحجم.

فما هو الهايكو؟ وما هي خصائصه؟ وما السر الماثل وراء ذيوعه عالميا على هذا النحو؟

الهايكو: التاريخ والخصائص

* التاريخ

يتحدر الهايكو من أشكال شعرية يابانية أسبق، أقدمها التانكا(tanka) الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن، ثم مر هذا الشكل الشعري، المرتبط بالطبقة الأرستقراطية، بسلسلة من التطورات المتعاقبة أدت، في منتصف القرن السادس عشر، إلى ولادة شكل شعري فلاحي يتسم بالخفة والحيوية ليزاحم الأشكال الشعرية الوقورة العائدة إلى الماضي. سمي هذا الشكل هايكاي (haikai) ثم عرف في ما بعد بالرنغا(renga) وهو شكل يشترك في كتابته أكثر من شاعر (قد يصلون إلى الأربعة) بحيث يبدأ شاعر القصيدة بعدد مقرر من الأبيات ثم يتولى شاعر ثان كتابة عدد آخر مقرر من الأبيات، وهكذا، في قصيدة متصلة قد يبلغ عدد أبياتها المئات بل والآلاف.

يبدأ الرنغا بثلاثة أبيات سميت هوكُّو( hokku حرفيا: أبيات الاستهلال) وهي أبيات ذات طابع فكه غالبا واعتبرت الجزء الأهم من القصيدة. لذا أخذ الشعراء الساعون إلى أن يكونوا طرفا في هذه اللعبة يحضرونها بشكل مسبق كي يتمكنوا من إحراج خصومهم إذا ما طلب منهم البدء (عادة الضيف هو الذي يفتتح الجلسة الشعرية). كان من شروط الهوكو احتواؤه على كلمة تشير إلى أحد فصول السنة (كيغو kigo) وكلمة وقف أو تعجب(*)(كيريجي kireji) تقع عادة عند نهاية الجملة الأولى وأحيانا الثانية.

حوالي سنة 1680 شرع ماتسو باشو Matsu Basho (1644-1694) في تغذية هذا الشكل ببعد حسي ورهافة جديدين. فحول بذلك مسار الشعرية وجعل من الهوكو شكلا شعريا متميزا شبه مستقل ومن ثم أصبحت هذه الافتتاحيات تقتطع من قصائد الرنغا ليتم إصدارها في مجموعات كانت تحظى بشعبية واسعة.

في نهاية القرن التاسع عشر فصل ماسوكا شيكيMasaoka Shiki الهوكو عن الرنغا نهائيا وأطلق عليه اسم هايكو( Haiku) مشتقا الكلمة من كلمتي هايكاي ( Haika) هوكو( Hokk) ليشيع هذا النمط الشعري في العالم بهذا الاسم.

* الخصائص

من الصعوبة بمكان وضع تعريف للهايكو يحظى بالإجماع. فـ”ـأي تعريف للهايكو يمكن أن يكون، وسيكون، محل جدال” كما يقول ماكس فرهارت Max Verhart. لذا سنضع التعريف التالي الململم من مصادر مختلفة ثم نستتبعه بوجهة نظر حديثة تعدله وتوسعه.

في اليابانية تتكون قصيدة الهايكو من سبعة عشر مقطعا صوتيا مرتبة بنظام 5،7،5 موزعة على ثلاثة جمل تكتب على سطر واحد من أعلى إلى أسفل. لكن شاعت كتابته في الغرب على هيئة ثلاثة أسطر، وهناك الآن من يكتبه على سطر واحد.

 من شروط قصيدة الهايكو تضمنها ذكرا لفصل من فصول السنة أو اسم نبات أو حيوان أو ظاهرة طبيعية إلخ. ترتبط به.

 زمن قصيدة الهايكو هو المضارع،

 ومواضيعها مأخوذة من الطبيعة،

 وعن طريق التجربة المباشرة.

 وتقدم قصيدة الهايكو النموذجية صورتين متباينتين متجاورتين، لكنهما غالبا منفصلتان، تتضمنان المكان والزمان (من خلال محتوى الصورة واللفظة الدالة على الفصل).

“أما الجملة الثالثة فتنعطف بهما نحو إدراك مختلف ومضة بشررها في البرزخ الواقع بينهما لتضيء، لبرهة، كامل القصيدة بضوء عذب.”

ذات الشاعر تكون غير ماثلة في القصيدة التي تخلو من المشاعر الصريحة،

 لذا تكون لغة الهايكو محايدة، وعادية تماما، لكأن الهايكو “يتبرأ من اللغة، بمعنى أنه لا يستخدمها لإنجاز الكلام الموشى ornamented الذي يعتبر التعريف التقليدي للشعر.” فالهايكو ينأى عن المحسنات اللفظية وأشكال المجاز الواضحة، وفي هذا السياق يقول العلم الثاني في تاريخ الهايكو الياباني يوسا بوسون Buson Yosa (1716- 1784): “لغة الهايكو المثالية هي اللغة المألوفةordinary ، التي، مع ذلك، تتجاوز، المألوفية ordinariness أن تتجاوز المألوفية ومع ذلك تستخدمها، وهو منهج تجاوز المألوف، لهو أشد الأمور صعوبة.” ذلك أن قصائد الهايكو العظيمة “تنبئنا بأشياء كنا قد رأيناها، لكننا لم نتعرف إليها.” كما يقول بلايث R. H. Blyth

والآن لننظر إلى بعض عناصر هذا التعريف من زاوية أخرى تكمله.

الهايكو وعنصر المجاز

فيما يتعلق بخلو الهايكو من عنصر المجاز ينبغي القول، مبدئيا، أنه ما دمنا نتحدث عن عمل أدبي فلا بد أن “يتسرب” المجاز إلى هذا العمل شئنا أم أبينا، ذلك أن المجاز محايث للغة. فمعظم ألفاظ اللغة حاملة لمجازات تشربتها عبر التاريخ، ولعل أبلغ دليل على ذلك وأبسطه تعدد معاني الكلمة الواحدة بما يصل العشرات أحيانا وإلى درجة التضاد أحيانا أخرى، مما يدل على أنها تعرضت إلى انزياحات متتالية تضم فيها كل مرة معنى جديدا مختلفا، وهذه الانزياحات ليست شيئا آخر غير المجاز. ودور العمل الأدبي يتمثل في أنه يتيح للألفاظ تفتيح طاقاتها المجازية خلال عملية دخولها في علاقات مع غيرها من الألفاظ. إلى جانب ذلك فإن القارئ يفترض، بمجرد شروعه في قراءة عمل أدبي ما، أنه داخل إلى دنيا المجاز، لذا يظل يبحث عنه ويحاول تخليقه من خلال العلاقة التي تقيمها ذائقته الجمالية وحسه الفني ومخزونه الثقافي مع دنيا النص. وبذا يمكن القول أنه لا مفر للعمل الأدبي من المجاز.

وبالنسبة إلى الهايكو يمكن العودة إلى كلام بوسون بخصوص (تجاوز المألوفية، عن طريق اللغة المألوفة) الذي تمثلنا به منذ قليل. إذ ينطوي هذا القول على إقرار ضمني بأن لأشعار الهايكو، الجيدة، ظاهرا وباطنا وأن الظاهر، من ثم، هو المجاز (بالمعنيين البلاغي والحسي) إلى الباطن. ويرى جورج مارش George Marsh بأنه صحيح أن تقاليد شعر الهايكو الياباني، إذا ما قورنت بالتقاليد الشعرية الإنجليزية، تتحاشى المجاز، وهي تشير ولا تصف (اتباعا لقاعدة: اعرض، لا تخبر show, don’t tell) إلا أن “أفضل [قصائد] الهايكو تحتوي على قوة مجاز، كون الصورة الحسية concrete observation، التي هي موضوع القصيدة، تنطوي على ترديد resonance أبعد.” ويقول بروس روس Bruce Ross أن فرادة الهايكو تتمثل في انبنائه على “مجاز مطلق absolute metaphor يتعلق بالطبيعة في خصوصها وعمومها”. ويقرر مارتن لوكاس Martin Lucas أن الهايكو “مجاز مفتوح open metaphor” أمام ظرفنا الإنساني وهو يتصادى بذلك الظرف. وتفترض جين رايتشهولد Jane Reichhold أن: “المجاز أحد المكونات القيمة في كتابة الهايكو. الأمر المختلف هنا هو الكيفية التي يكتب بها المجاز في الهايكو. ففي الهايكو “توضع عناصر المجاز بشكل عفوي في تعابير بسيطة صافية وتكون، عادة، متجاورة يربط بينها فعل أو صورة ثالثة”. ولعل بول أو. وليامز Paul O. Williams يوضح فكرة رايتشهولد على نحو أفضل حين يتحدث عما يسميه “المجاز المتردد unresolved metaphor” الناجم عن المقارنة التي تدفع آلية التجاور إلى إجرائها بين العناصر المكونة للقصيدة، بحيث تتيح إمكانية تفسيرها مجازيا وحرفيا، وهو ما يمنح العديد من قصائد الهايكو بعدا عميقا.

أما الياباني هارو شيرين Haruo Shirane فيؤكد على أن:

الفارق الجوهري بين المجاز في الهايكو والمجاز في غيره من أشكال الشعر الأخرى هو أنه في الهايكو يتقصد أن يكون لا مباشرا إلى أقصى حد وغير ظاهر. فالمجاز في الهايكو الجيد عادة ما يكون دفينا في القصيدة. فعلى سبيل المثال غالبا ما تنحو اللفظة الدالة على الفصل في الهايكو الياباني إلى أن تكون مجازا متأصلا، ما دامت منطوية على تعالقات associations ثقافية وأدبية محددة. إلا أن الوظيفة المبدئية والأساسية للفظة الدالة على الفصل وصفية، ويكون البعد المجازي ضمنيا.

وإجمالا يمكن القول أن الهايكو قائم، في جزء أساسي منه، على إخفاء العمق.

التجربة المباشرة

يرى شيرين بأن التشديد على صدور الهايكو عن التجربة الشخصية المباشرة للشاعر ناجم عن “رؤية حديثة للهايكو نشأت، جزئيا، عن واقعية القرن التاسع عشر الأوربية التي كان لها تأثير على الهايكو الياباني الحديث، ومن ثم أعيد تصديرها إلى الغرب على أنها شيء ياباني شديد الخصوصية”. ويضيف أن باشو، الأب المؤسس للهايكو في القرن السابع عشر، لم يكن يميز بين التجربة المعيشة وتلك المتخيلة ولم يكن يعلي من شأن الواقع على حساب الخيال. إلا أن تقاليد الهايكو تتطلب من الشاعر الانغماس في شؤون الحياة اليومية والسفر ومعايشة العالم قدر الإمكان ليستطيع بعد ذلك عكس العالم كما هو. ويعزو شيرين السبب الأساسي في التركيز على التجربة المباشرة في الهايكو الياباني الحديث إلى ماسوكا شيكي، مؤسس الهايكو الحديث في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك لتأثر شيكي العميق بالنظرية الأدبية الغربية للشعر التي ترى، من جانب، ضرورة أن يكون واقعيا وأن يكون، من جانب آخر، تعبيرا عن الذات الفردية. ويستدرك شيرين أن هذا التطور كان سيتم حتى لو لم يوجد شيكي، لأن اليابان تعرضت مع نهايات القرن التاسع عشر إلى تأثير غربي هائل.

اللا ذاتية

ارتبط الهايكو أيضا بالحيادية وغياب ذات الشاعر، حيث تبدو قصائد الهايكو كما لو أن “الطبيعة هي التي أملتها” على الشاعر أو أنه عثر عليها في الغابة المجاورة”!

إلا أن الذات، هذه الطاقة الغامضة فائقة الدهاء، البارعة في أساليب المداورة، تقاوم كل محاولات المحو وتثبت حضورها، مبدئيا، من خلال اختيار موضوع القصيدة ولغتها، ثم تهرب نفسها متسربة إلى قصيدة الهايكو بآليات تستعصي على المنع، لتوجد هناك في بعديها الإنساني العام والفردي الخاص. ويكفي في هذا السياق إيراد تعليق روبرت هاس حول هذه النقطة حين يذكر أنه اكتشف، بعد سنوات طويلة من تصديق ما كان يقال له من أن “الهايكو ليس ذاتيا على الإطلاق”، الجوانب الفردية المنعكسة في الهايكو من مثل “وحدة باشو العميقة وشعوره بالمعاناة، واعتدال مزاج بوسون وحبه للأدوات الفنية وأشكال الأشياء وألوانها وحس إيسا بالشفقة والفكاهة والغضب”.

سر الجاذبية!

بعد هذا الاستعراض آن لنا أن نتساءل عن سر الجاذبية التي يتمتع بها الهايكو.

 وما دمت قد استعملت لفظة “سر” في تساؤلي فإن هذا يعني ضمنا أنني أعتقد أن جزءا، على الأقل، من هذه الجاذبية ينبع من منطقة غامضة، لأن “الهايكو، رغم بساطته، شديد الغموض”. إلا أنني سأحاول تحديد الجوانب التي اجتذبتني في الهايكو.

أظن أن أول عنصر من عناصر الجذب هو قصر قصيدة الهايكو البالغ.

 العنصر الثاني يتمثل في ما أحب أن أسميه “البساطة الفادحة” التي تبادهنا بها قصيدة الهايكو على نحو يجعلنا مشدوهين، حتى إن هناك في الغرب من يسميه “شعر الانشداه، أو الاندهاش ahness”.

 العنصر الثالث هو اعتماده على تجسيد الصورة الحسية بتقتير في اللغة وحيادية بادية في ما يتعلق بالمشاعر.

 العنصر الرابع هو ما يترتب على العناصر السابقة من حفز لقابلية التأمل لدى المتلقي، بسبب ما يسميه ديفد لاندس بارنهل(22) David Lands Barnhill “الإبهام المفتوحopen ambiguity ” الذي تثيره في ذهنه.

 العنصر الخامس هو خيط الدعابة والمفارقة، الذي بالكاد يرى، الساري في عدد كبير من قصائد الهايكو. وفي هذا المجال ينبغي ألا ننسى أن “الهايكو الياباني بدأ باعتباره نوعا من الشعر المضحك في العصور الوسطى”.

العنصر السادس والأخير، يمثل تمازج العناصر السابقة كلها في ناتج يمنح قصيدة الهايكو ـ الجيدة طبعا ـ عمقا ثريا يجعل من “الهايكو شكلا شعريا ذا بساطة خادعة” حتى ليمكن القول أن الهايكو قائم على إخفاء الفن.

الهايكو ومذهب الزن البوذي

من الناحية التاريخية دخل مذهب الزن البوذي إلى اليابان، قادما من الصين، في القرن الثاني عشر، وبذا يكون الهايكو قد ظهر في مناخ يهيمن فيه هذا المذهب على الثقافة اليابانية. كما أن عددا كبيرا من شعراء الهايكو البارزين كانت لهم صلات قوية بمذهب الزن. فباشو نفسه تنسك فترة من حياته ودرس مذهب الزن البوذي وحلق رأسه وارتدى زي الرهبان، إلا أنه لم ينخرط في سلك الرهبنة البوذية، وقد وصف حالته هذه بكونه مثل الخفاش الذي ينظر إليه على أنه طائر أحيانا وفأر أحيانا أخرى، كما أن كوباياشي إيسا Kobayashi Issa( 1763- 1828)، ثالث أهم شاعر في تاريخ الهايكو الياباني، عاش فترة من حياته في أديرة الزن. إضافة إلى استخدام الهايكو في جلسات التأمل التي يعقدها شيوخ الزن مع مريديهم. كما تجدر الإشارة إلى وجود تقليد بين الرهبان الزن يقضي بكتابة الواحد منهم قصيدة هايكو (قصيدته الأخيرة) عند الإحساس بدنو أجله.

 وفي الغرب شاع الاعتقاد بأن “الهايكو هو فن التأمل وفي هذا عمق صلته بالزن (التي غالبا ما يتم إنكارها)” وأن “الهايكو كان إلهاما زنيا وأنه تعبير عن مبادئ مذهب الزن البوذي.”  وأن كل قصيدة هايكو هي “إجابة، من وجهة نظر مذهب الزن، على أسئلة من مثل: ما هي الحقيقة؟” أو “كيف يكون تصفيق اليد الواحدة؟” وأن مذهب “الزن البوذي قد حدد إلى حد كبير التطور التاريخي للهايكو الياباني” وأن “الهايكو هو أكثر التعابير اكتمالا في أدب الزن”. ويتفق معهم في هذا بعض اليابانيين. فهذا شاعر الهايكو الياباني فوجيوارا Fujiwara يقول في مقابلة معه: “ما نسعى وراءه مسترشدين بالزن هو الكشف revelation . فالهايكو ذخر عظيم للحكمة الكبرى وقد كان هذا شأنه لعدة قرون”. ويقول ناغاتا كوي  Nagata Koi

“من الناحية التاريخية، وكذلك من ناحية عمق المعنى، يتصل الهايكو على نحو عميق بروح الزن. لا مجال للشك في ذلك حسب اعتقادي. الهايكو متجذر في الحياة اليومية، فهو كليل وحاد، معا، مثلما هو ساخر، فكه، موح، ورمزي، وهي كلها خصائص مشابهة لخصائص الزن”.

 وهناك، في الغرب أيضا، من يضع العلاقة في صورة أخرى. فمايكل رِهْلنغ Michael Rehling يقول:

ربط الهايكو لفترة طويلة بـ[مذهب] الزن البوذيي، ولكنه ظل دائما بمنأى عن أي ميل فلسفي أو ديني، لذا يحافظ على عالميته. لعل ربط الهايكو بالزن يجد أفضل تفسير له في واقع أن كليهما يولي قيمة عظمى‘ للحظة الحاضرة‘ والتفاعل البشري مع الطبيعة. وأيا كان الأمر، فإن المعرفة بـ[مذهب] الزن أو ممارسة طقوسه ليست شرطا لفهم الهايكو المرهف أو إبداعه.

ويرى جاكي مورى Jacqui Murray أن “الزن والهايكو يركزان على الطريق the way. على عثور المرء على طريقه التي تقوده إلى ما يعرف بروح الهايكو”.

 أما آرت ديركي Art Durkee فيرى بأن “الممارسات الأدبية أدمجت في الزن[…] وهذا هو السبب الذي أوجد الأدب الزني. فما من انفصال هنا. كل شيء هو ممارسات زنية. لذا لدينا الكثير من الزن في الهايكو والهايكو في الزن”. ويتفق معه في هذا الشخصية اليابانية الدينية الكبيرة في مذهب الزن ناكامورا Nakamura الذي يقول في مقابلة معه: “لا يوجد أي بعد من الزن متأصل في أي فن، على الرغم من أن بعضها يبدو أنه يعكس مبادئ الزن. الشخص هو الذي يستجلب الزن إلى الفن الذي يمارسه.” أما بن آكيو Bin Akio  فيقول عن هذه القضية: “نحن اليابانيون نعرف أن الهايكو والزن ثقافتان مختلفتان، على الرغم من وجود نقطة تماس بينهما، وهي تتمثل، حسب رأيي، في أن كلا منهما يجد صدعا في الحياة اليومية يحاول أن ينظر من خلاله إلى الجانب الآخر من العالم.” ولكن يبدو أنهما ينظران عبر نفس الصدع الذي حدده روبرت هاس Robert Hass في أن:

مذهب الزن مكن الناس من التدرب على كيفية اتخاذ موقف محايد يتوقف فيه الأنا عن محاولة خلق المعنى موكلا ذلك، دون مقاومة، إلى آليات المعنى الخاصة، ناظرا إلى المعنى باعتباره ظاهرة موجودة في الخارج مثل تغريد طيور الغابة وسقوط الثلج، على الرغم من كونه أكثر منها حميمية بالنسبة إلينا.

مشاكل الترجمة

تواجه الترجمة، عموما، صعوبات تتعلق باختلاف المعطيات اللسانية بين لسان وآخر وكذلك في العناصر الثقافية غير المنظورة المضمرة في مفردات وتعابير كل لسان. ويبدو أن هذه الصعوبة تزداد وتأخذ بعدا خاصا فيما يتعلق بترجمة الهايكو، ربما بسبب من بساطته الخادعة. ولنأخذ على ذلك مثالا هو ترجمة أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق في العالم، لصاحبها باشو مؤسس الهايكو، وهي المعروفة بقصيدة الضفدعة أو ضفدعة باشو أو بركة الضفدعة(*).

لهذه القصيدة، في الإنجليزية، حتى 2004، أكثر من مئة وسبعين ترجمة.  سنورد فقط نصوص ست ترجمات منها مثبتين أمامها ترجمتنا الحرفية، ثم نورد خمس ترجمات عربية.

الترجمة الأولى، وأظنها أول ترجمة، تعود إلى سنة 1898 قام بها لافكاديو هِرن Lafcadio Hearn

Old pond – frogs jumping in—sound of water

بركة قديمة ــ ضفادع تقفز في ــ صوت الماء.

كما يمكن ترجمتها، حرفيا أيضا، كالتالي:

بركة قديمة ــ ضفادع تقفز فيها ــ صوت الماء.

الترجمة الثانية قام بها كنث ياسودا Kenneth Yasuda

بركة عريقة ساكنة/ Ancient pond unstirred

فيها قفزت ضفدعة، / Into which a frog has jumped,                                      

سُمع تطاير الماء / A splash was heard.                                                             .

الترجمة الثالثة قام بها نوبويوكي يواسا Nobuyuki Yuasa

كاسرة صمت / Breaking the silence 

بركة عريقة / Of an ancient pond     

ضفدعة قفزت في الماء / A frog jumped into water-

 ترجيع عميق. A deep resonance                                                                                                                                                                                                                                                                          

الترجمة الرابعة قام بها تنكو فو شيرايو Tenko Fu Shiryo 

بركة قديمة / Old pond

ضفدعة تقفز في / frog jumps in                                                                         

ماء الصوت / water of sound                                                                             

ولعل أطرف ترجمة هي تلك التي قام بها جيمس كِركب James Kirkup:

الترجمة الخامسة:

بركة / pond

ضفدعة / frog 

شلوب! / plop!

لكن الترجمات الأكثر تداولا هي تلك التي تقترب من ترجمة روبرت هاس Robert Hass:

الترجمة السادسة:

البركة القديمة / The old pond

ضفدعة تقفز في / a frog jumps in,                                                                                                                           

صوت الماء / sound of water

وهي، أيضا، يمكن أن تترجم كالتالي:

البركة القديمة

ضفدعة تقفز فيها

صوت الماء.

مبدئيا، نلاحظ الاختلاف حول ترجمة هذه القصيدة حتى فيما بين اليابانيين أنفسهم، وهم هنا ثلاثة. ومن جهة أخرى نلاحظ أن الترجمة الأولى انفردت عن كل ما اطلعنا عليه من ترجمات بإيرادها فاعل القفز، وهو الضفدعة، في صيغة الجمع. ومن جانب آخر فإن الترجمتين الأولى والسادسة، على خلاف الثانية والثالثة والخامسة، لا تقطعان ما إذا كانت الضفدعة قد قفزت في البركة أم في صوت الماء. في الترجمة الرابعة تقفز الضفدعة ليس في ماء البركة وإنما في ماء الصوت. على صعيد الصفات المنسوبة إلى البركة، لم تكتف الترجمة الثانية بوصف البركة بأنها قديمة[ عريقة] بل أضافت إليها صفة السكون. وأضافت الترجمة الثالثة صفة الصمت.

في العربية لهذه القصيدة عدة ترجمات، أورد خمسا منها، ثم أختم بترجمة مقترحة.

ترجمتها أنا منذ سنوات ضمن مختارات من أشعار الهايكو لم تنشر:

بركة قديمة

تقفز إليها ضفدعة

صوت الماء.

وترجمها عاشور الطويبي:

في البركة القديمة

يقفز ضفدع

صوت الماء

وترجمها هاشم شفيق:

بحيرة قديمة

وضفدعة صغيرة

تقفز وترشرش الماء

وترجمها عبد القادر الضللي، عن الفرنسية، كالتالي:

الغدير خامد

في الماء من يسبح؟

صوت ارتطام، إنها الضفدعة.

وترجمها محمد الدنيا عن الفرنسية:

بركة ماء قديمة

ضفدعة تغطس فيها

صوت الماء

جميع الترجمات الإنجليزية التي اطلعنا عليها تستخدم لفظة واحدة للدلالة على المسطح المائي الوارد في القصيدة وهي لفظة pond، التي يضع أمامها قاموس المورد إنجليزي-عربي مقابلا واحدا هو بركة. في حين أنه اختلف في الترجمات العربية أعلاه. فهو بركة في ترجمتي وترجمة عاشور ومحمد الدنيا وبحيرة في ترجمة شفيق وغدير في ترجمة الضللي. مع ملاحظة أن البركة والبحيرة تختلفان في الحجم وتتفقان في القدم والديمومة، بينما الغدير أصغر منهما، عادة، وهو طارئ وزائل.

تتفق ترجمتي وترجمة عاشور الطويبي وهاشم شفيق ومحمد الدنيا في وصف هذا المسطح المائي بالقدم، ووحدها ترجمة عبد القادر الضللي تصفه بأنه خامد، وهو استعمال غير دقيق لأن صفة الخمود تلحق عادة بالنيران والحرائق والبراكين.

الترجمات الأربع الأولى تورد المسطح المائي غير مضاف، أما ترجمة الدنيا فتضيفه إلى الماء: “بركة ماء…”.

 ومن ناحية أخرى تتفق الترجمات الخمس، على ما بينها من تفاوت في الصياغة، على أن الضفدعة قفزت في هذا المسطح المائي وليس في صوت الماء أو ماء الصوت.

 تأتي ترجمتي وترجمة عاشور وهاشم ومحمد في صيغة إخبارية، في حين تتساءل ترجمة الضللي عن ماهية الكائن السابح أولا لتخبرنا بعد ذلك بأنه ضفدعة، مع ملاحظة أن المترجم استخدم اسم الموصول (من) الذي يستخدم للدلالة على العاقل بدلا من(ما) الذي يستخدم للإشارة إلى غير العاقل. كما أن تعبير “صوت ارتطام” يوقع القارئ في حيرة. ذلك أنه من المفترض أن صوت الارتطام يكون تاليا لفعل القفز وليس لفعل السباحة. فترتيب المشهد وتتالي الأحداث فيه تكون على النحو التالي:

 لدينا غدير خامد.

 نسمع صوت ارتطام جسم بالماء

 نستطلع الأمر

 نجد ضفدعة تسبح.

وعليه كان الأوفق أن تأتي الترجمة على الصورة الآتية:

الغدير خامد [ خامل. جامد. ساكن]

صوت ارتطام

في الماء من [ما، أو: كائن] يسبح؟ إنها الضفدعة [ضفدعة].

 في ترجمتي الضللي وشفيق إبراز تناقض في الصورة: تناقض بين “الخمود‘ من جانب، والحركة في ‘السباحة‘ و‘صوت الارتطام‘ من جانب آخر، في ترجمة الضللي. والتناقض بين ‘كبر البحيرة‘ الضمني و‘صغر الضفدعة‘ المعلن في ترجمة شفيق.

إذا كانت الترجمات الإنجليزية تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا رغم كونها مترجمة عن الأصل الياباني، فإن اختلاف الترجمات العربية يغدو مبررا، لأنها مترجمة عن نصوص وسيطة تختلف في درجة قربها من الأصل.

وقبل أن أقدم ترجمتي الجديدة المقترحة أعود إلى الإشارة إلى ما يعنينا في هذا السياق من التعليق الذي كتبه سوزومو تاكيغوتشي Susumu Takiguchi حول خطأ ترجمات هذه القصيدة إلى الإنجليزية الناتج عن التوجه إلى التأويل. ذلك أن إضافة صفة القدم إلى البركة جعلت الأفهام تتجه نحو تأويل هذه الصفة من خلال عنصري الثبات أو السكون (بما في ذلك الصمت، باعتبار الصوت حركة) وعنصر الديمومة أو الخلود. فيرى بأن هذه القصيدة “قد تكون وضعت، على نحو ما، في مكانة أكبر مما تستحق.” ذلك أن اختيار البركة القديمة واختيار صوت الماء، بدلا من غناء الضفادع، حولها من عمل كتابي عادي إلى عمل يحظى بتبجيل خالد وفتنة ذات بعد إنساني. ويقرر أن التقدير المبالغ فيه لمزايا هذه القصيدة ناجم، في جزء كبير منه، عن التأويل الأحادي الذي أعطي لها من قبل مدرسة “السكون”.

كون صاحب التعليق يابانيا يمكن أن يكون حجة فيما يتعلق بالمعلومات والجوانب الخاصة المتصلة بالثقافة اليابانية، لكن ليس من الضروري أن يعتبر حجة حين نأتي إلى تحليل النصوص. فهذه مسألة مختلفة تماما لا يعتبر فيها حجة حتى صاحب النص نفسه. أضف إلى ذلك أن كثيرا من اليابانيين يختلفون معه.

وأنا أميل إلى أن القصيدة تحتمل الفهم الذي أعطي لها في الترجمات الإنجليزية، على الأقل. ذلك أنه كانت أمام باشو عدة خيارات ممكنة لوصف البركة. لقد كان بإمكانه وصفها بأنها: واسعة أو قصية أو قريبة أو منعزلة أو دافئة أو مشمسة أو ظليلة إلخ، لكنه آثر صفة القدم على ما عداها، وهي صفة تحيل إلى الأبعاد المشار إليها.

لذا جعلني اطلاعي على عشرات الترجمات الإنجليزية لهذه القصيدة وعدد من التحليلات التي عقدت حولها أعيد النظر في ترجمتي السابقة وأقترح ترجمة جديدة تعتمد على الترجمة الرابعة من الترجمات الإنجليزية التي أوردناها أعلاه.

بركة قابعة منذ القدم

ضفدعة تنط فيها

دفقات الصوت

وكما هو ملاحظ ترجمت مفردة old (التي تعني قديم أو قديمة) بمعنيين في نفس السطر وهما “القبوع” الذي يتضمن معنى الانزواء والجمود والصمت. و”القدم” الذي يتضمن معنى الديمومة. وترجمت شبه الجملة water of sound ماء الصوت، بدفقات الصوت، حيث يحيل الدفق إلى الماء.


مصر المحروسة | 18 يونيو 2024م.

مقالات ذات علاقة

تاريخ الغناء النقدي والفكاهي في ليبيا

المشرف العام

المشهد الآن.. قراءة في القصة الليبية بصيغة الفعل المضارع

الصديق بودوارة

أين موقع المصراتي في حياتنا الأدبية؟

أمين مازن

اترك تعليق