تهادت متوارية شمس اليوم كئيبةً شاحبة يلفها الحزن ويغمرها الأسى… تدس وجهها الباهت وراء شجيرات الزيتون البعيدة… تجلببت القرية برداء الغروب يغمرها الحزن ويعصرها التوجع…. حين عاد الشيخ يجر وقار وطيبة نفس سنواته السبعين، كانت قرينة أيامه وأم وحيده تخرج الأرغفة الشعيرية الناضجة من صدر تنورها المنزرع في أحد أركان الدار…. عاجلته بنبرات امتزج فيها الحنان والحب… والحيرة والتوجس قائلةً بلهفةٍ: منصور لم يعد بعد… إن قلبي يعصره الخوف، وتمزقه الظنون… تمتم وهو يلوك كسرة خبز ببطء ورتابة ودونما شهية:
– يكون ابن أبيه حقاً، وزهرة من زهور الحجارة إن كان مع من فجروا مستودع اليوم.
هزها الخبر… داهمتها الهواجس الشرسة… هي معهم تقف جنبهم تمدهم بالحجارة تلو الحجارة وكم جعلت منديل رأسها صرة تحوي الحجر تزودهم ليقذفوا هؤلاء الهمج وكم خنقها غازهم وكم جرحتها شظايا قنابلهم ولكن قلبها يدق بغير دقاته الواثقة هذا المساء.. الدموع ترقرقت مضطربة خجولة بين الانحدار والتراجع إلى عمق عينيها الحائرتين.
غمغمت بنبرات دامعة:
– أين أنت يا ولدي؟
إن قلبي ينفطر لأجلك وليته بل ليتني معك.
نهرها بصوت ينفجر إصراراً:
– إن مثلك آلاف الأمهات ومثله آلاف الأبناء… إن كل حجرة يقذفونها في وجه هذا السرطان هي لبنة في صرح الوطن، زهرة في وجه الزمن… لكنها تمتمت وتمكن الحزن من قلبها الواجف:
– الوطن غالٍ حقاً لكن وحيدنا إنه….. قطع حبل حديثهما وأفرغهما وقع طرقات عنيفة تهاوى على إثرها الباب محطم الجوانب كذئاب تطارد حملاً وديعاً، برز جنديان… تزفر عيونهما كجمرات ملتهبة… طفقا يذرعان الدار بحثاً وتخريباً… احتدم صراعهما مع الوالد…. تابعتهما الوالدة بعينين مضطربتين وأفكار حائرة… تشدق أحدهما وهو يهز الشيخ الذي قاوم بكل ما أبقته له الأيام من جهد:
– أين الوغد منصور؟
لقد فجر مستودع الذخيرة… لم يكتف بالحجارة مع الشياطين أمثاله.. فجروا المستودع… تهلل جبين الشيخ فخوراً بولده… أجاب بصوت متهدج:
– إنه ليس هنا… ماذا تودوا….؟
لكن مؤخرتي بندقيتيهما قطعتا كلماته الصادقة… بدت عيونهما كعيون القطط المذعورة…. استعاد الشيخ بعض قواه… أسرع بحرارة لخطف عصا كانت قربه… كأسهم نارية توالت اللكزات على جسده الهرم… ارتمت عليه تود إنقاذه… هالها رؤية دمه… انتابها هلع أطار صوابها، ظلت تنتفض كطائر جريح… تضرب في كل الأرجاء… تحدق في كل الأشياء… تصرخ بملء حنجرتها المبحوحة… كانا يهتزان ضحكاً… يمدان أيديهما في وحشية غابية… حاولت الفرار مراراً انفلتت من براثنهما الجارحة… دوت طلقة وطلقة وطلقات هوت تئن قرب زوجها ليرويا التراب معاً… خرجا تشيعهما قهقهتهما المتقطعة… كانت أذناها تنزان دماً… اغتصب أحدهما أقراطها… غشى الليل المكان… صار كمقبرة رهيبة…
كان ثمة شاب قد فرغ لتوه من آخر جولة من هجماته الحجارية مع رفاقه، يجدّ الخطى… يتحرك تحت جناح الليل… تبرق عيناه في يقظة تامة… يلتفت بين الفينة والأخرى كمن تطارده أشباح مخيفة… خامره شكٌ أقلقه… أرهبه هذا الصمت المريب… دلف إلى مقصده لاهثاً… تصاعدت دماؤه حارة متدفقة… كان الباب محطم الضلفتين… هرع يدفعه شعور غريب… تسمر فاغراً فاه محدقاً بعينين واجمتين دامعتين… اصفر محياه صار كورقة خريفية تعصف بها الرياح العاتية ضمن شجرة وارفة تضرب جذورها في الأعماق لتقف شامخة وسط وحشة الزمن…. جسدان هامدان يلفهما الصمت المطبق… انكب يضمهما إلى صدره بحرارة وشوق ابن يحتضن أبويه لينصهر الثلاثة في جسد ينبض بحب الأرض وروح ترفرف فوق ترابها… غمغم بنبرات تخنقها العبرات:
– فعلوها أبناء الذئبة….
اختنق البيت بالعيون الحزينة…. تعالت صرخات النسوة… قصدته الأيادي المزية… انتفض صائحاً… غمرهم بنظرة إصرار…. انطلق يشق الظلام… تهادى الليل حالكاً مكفهراً… تلبد الجو بالغيوم… صارت صرخات النسوة أنات تنطق بالبؤس…
– أين منصور؟
سؤال يلوح في كل العيون الساهرة… كانت الشمس الوليدة تود تمزيق ما يحجبها من سحب داكنة… كان ثمة جنازة تسير بخطوات كسيرة.. أمام المقبرة تساءل المشيعون:
– أين منصور؟ كيف لا يحضر دفن أبويه؟
فجأة دوى انفجار بركاني… توالت الانفجارات تهز القرية…. التهمت النيران مخازن العدو… صارت عساكره كغيوم يمزقها وهج الشمس… خيم الصمت لحظة… وقف شيوخ القرية يصلون من أجل الشهداء الثلاثة… فيما الشوارع تضج بالحجارة ترشق كل الواجهات الهشة وتحدٍّ من زحف السرطان.
تعليق واحد
التقدم هو تطبيق ما قال الله تعالى وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم …….والرجعية والتخلف أياً كان الأمر كفراًأو فوسوقاً أو عصياناً هو عكس ذلك……..هل تذكرت يا صالح عباس؟!