قصة

طريق السكة

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.


“نسيتك يا لبعيد..انظاري دارن صوب جديد/ نسيتك يا لبعيد خلاص”…

تشق الدربوكة والطبل و”البندير” إيقاعا متناسقا معا ومتداخلا كشحنات كهربائية تدفع للرقص لتزداد اشتعالا حين يصاحبها تصفيق الرجال على ذات النسق، لكنه يخفت ويتباطأ عندما يعلو صوت “تونس مفتاح” واثقا أن البعيد “خلاص” وأن حبا جديدا جرفها بلا “سلام ولا تعذيب”، لتنهي جملتها في كل بيت غنائي بكلمة “خلاص”..

لكن ليلى التي تجلس في شرفتها الضيقة متعطشة لنسمة ولو عابرة كانت تردد كلمة “خلاص” بشكل مختلف، تخبط بيديها على فخذيها وهي تتخفى من عيون الجيران وتولول بصوت خفيض

“ماعاش فيها عيشة هالبلاد.. عيشونا زي الكلاب.. خلاص.. خلاص.. حسبي الله ونعم الوكيل”.

يجلس جمال على “مندار” محشورا ما بين كرسيها البلاستيكي الخفيض وجدار الشرفة، بالكاد يلتقط أنفاسه في يوم صيفي قائظ، يتشبع فيه الهواء بالرطوبة لحد التلاشي. التصقت عليه فانيلته القطنية بعد أن امتصت من عرقه الكثير، أما سرواله الفضفاض الشفاف فقد ابتل وجف.

تمتم متنهدا:

“شحن الموبايل قريب يكمل.. قريب نسكروا على ثمانية وأربعين ساعة”.

توقفت ليلى عن الاهتزاز، يدها على خدها، وباليد الأخرى تمسح العرق المنساب من وجهها حتى شق نهديها، حيث تحشر منديلا ورقيا مضغوط تسد به انفراجة زري فستانها العلويين.

“نغطسوا وننوضوا في عرقنا.. ربي ينتفم منهم.. عيينا حتى من الدعي عليهم”

مازال جمال على ذات جلسته سوى أنه أفرج عن ساقيه ضجرا والقى بهاتفه جانبا بشكل استسلامي وهو يتنهد

“مات.. “

ردت ليلى

“ربي يرفعهم كلهم ويفكنا منهم..”

من بعيد كانت تتلالأ لليلى أضواء باهتة..

“هم بس اللي عندهم.. طريق السكة، يشعل ليل ونهار”

يعبر طريق “السكة” وسط طرابلس كالثعبان سريعا وملتويا، يعلو ثم ينحدر. ينطلق من سيدي المصري، ويصل مباشرة إلى ميدان جنة العريف، ليخنقه ازدحام السيارات حيث جزيرة دوران واسعة تتوسطها حديقة غناء تحيط بها مبان وقصر مهيب بناه “ايتالوا بالبو” حاكم ليبيا زمن الفاشيست مقرا له.

بين قصر بالبو وقصر طريق السكة أمتارا..

“حتى بالبو كان ارحم علينا” تقول ليلى بحنق، بينما جمال صامت وقد سقط رأسه، يعبث بهاتفه في محاولة مستحيلة لإنعاشه…

تستدرك ليلى نفسها للحظات وهي تمسح عرقها..

“هو علاش سموه طريق السكة..”

اكتفى جمال برمي هاتفه جانبا ولم يرد..

هو يعلم، حكى له جده عن القطار الذي استقله مع أبويه أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنه لا يقوى على الحديث.. لأول مرة يكتشف جمال أن الحديث يحتاج إلى كهرباء، وأن ما يقال عن أجواء حميمة في الظلام كذب بواح، وأن وصف “مغذي” الكهرباء وصفا صحيحا.

“لعنة الله عليهم…” تابعت ليلى

تذكر والده وهو يحرض ويصيح فيهم..

“سكروا الضو وراكم..”

تمنى أن يقولها لأولاده، أن ينهرهم بالضوء، أن يشرح لهم تغذية البيوت بالكهرباء، أن يريهم ورقة مستطيلة عليها علامة برق أحمر وكتابة زرقاء وأرقام، وأن يأخذهم معه لزيارة مركز “الجباية” لسداد القسيمة…أن يقرأ لهم قصة “توماس أديسون”، يتذكر أن القراءة بحاجة إلى كهرباء. يعد نفسه بأنه حال عودته سيتعامل معه بشكل مختلف، سيتولى بنفسه إغلاق الأضواء، سيحرص على تركيب الأبجورات في حجرة نومه حتى يضفي جوا رومانسيا، وسيصلح لمبة النيون في الشرفة، كما سيهتم بتنظيف ثريا حجرة الجلوس بين الحين والآخر.. سيتفقد السخان ويبدل قلبه ما إن ينزف قطرات ماء، سيكوي ملابسه بنفسه.. سيقرأ كثيرا وسيحرص على تعليم أولاده القراءة. أما ليلى فلن ينهرها كلما استخدمت مجفف الشعر سيمني نفسه بأنه شيء من النغم.

ابتسم بمرارة.. التفت لليلى واعتدل في جلسته ضاما ساقيه واضعا قدما فوق أخرى، تناول المروحة السعفية وطفق يحركها أمام وجهه.. وقال مناكفا، وهو يومئ برأسه في اتجاه الأضواء البعيدة..

” صار ما تعرفيش علاش سموه طريق السكة؟”

توقفت ليلى عن الحركة والتفتت إليه بعصبية..

“شن عرفني إنت جبتني من قرقارش  بحدا البحر ودفنتني بين عمارات اللانشا..”

ضحك جمال.. وهو يحرك المروحة أمام وجهه، يثير موجات هواء قصيرة سرعان ما تبتلعها الرطوبة..

“طريق السكة يا ستي سكة قطار”

“قطار شني بالله”

“والله كان عندنا قطار يطلع من محطة في شارع النصر، يقص شارع عمر المختار ويوصل لسيدي المصري ويستمر للفرناج ومازال”. كان يصف بيديه الطرق التي كان يسلكها قطار السكة الحديد في محاولة لإقناعها بوجوده..

أمعن في وجه ليلى فرآه لامعا من العرق.. تسري خطوط رفيعة ومتعرجة على أنفها ثم تتفرع لتلتقي مجددا عند ذقنها.. تتلقفه بيد مدربة قبل أن تسقط على صدرها..

ابتسم وقد خيل إليه إنه يشبه طريق قطار يتوقف ما بين نهديها في محطته الأخيرة.. جمحت ليلى خياله قائلة..

“زمان عندنا قطار وتوا عندنا الصبر…”

“ركبوه حوش جدي لما هجوا من طرابلس في الحرب”

“وتوا حرب وين بنهجوا؟” صاحت ليلى وهي تضرب على فخذيها مجددا..

توقف جمال عن الحديث.. وأحس بقواه تخونه فجأة.. ردد في نفسه ما جدوى كل هذا الكلام عن الماضي ونحن نعيش الظلام والموت..

أمسك من جديد بهاتفه الميت يتمعنه..

“على الأقل كان يطلّع في ضو…”

قامت ليلى فجأة من كرسيها وقد نفذ صبرها

“خلاص بنخش.. زي بره زي داخل..”

بدأ صوتها يعلو وهي تدعي على طريق السكة وشركة الكهرباء…

ظل جمال غارقا في صمته وقد سرى الليل كالخدر في جسده.. أبعد كرسي ليلى بيده، عدل من مخدته وانزلق إليها.. واستمر يحرك يده بالمروحة محاولا استدعاء النوم، فيما صوت ليلى يصله “خلاص.. خلاص”.

عزة كامل المقهور

3/ 9/ 2020

مقالات ذات علاقة

لا شيء!

خالد السحاتي

أعيد تشكيل ذاكرتي

المشرف العام

عن الفضول

علي بوخريص

اترك تعليق