طيوب عربية

قراءة في رواية “موسم النزوح إلى الغرب “للأديبة الكاتبة نارين عمر

من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
من أعمال التشكيلي محمد بن لامين

يوجد فرق بين من يأوي إلى مكتبته يجلس على كرسيه منزوياً وراء طاولته وأمامه فنجان قهوة أو كوب شاي أو كأس عصير يكتب عن آلام وأفراح ومخاوف الآخر والحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وبين من يكون شريك تلك الآلام والأفراح وتلك المخاوف وشاهد وجع على حرب كان هو فيها يهادنها، يصارعها يداً بيد مع أيديهم يصدها بصدره وكتفه إلى كتفهم.

ما أريد قوله إن الروائية والكاتبة نارين عمر وهي تقرأ الآخر وتكتبه في روايتها ” موسم النّزوح إلى الغرب ” الصادرة عن دار الخليج للطباعة والنشر عام 2018 تنتمي للثاني الذي ذكرته. هي معهم تكتب لهم عنهم، تمتطي البحر، تسكن قارب الموت كما أسمته، ويقابله البلم الحامل لمشردين مثلها، تعاين الخوف في أعينهم وهو يراقص جفنيها.

تلك المقارنات الكثيرة بين شرق الوجع وغربه، بين شرق الحياة بمتناقضاتها وغرب الحياة وازدواجيتها تبدأ من النهاية، نهاية العمر حينما يكتسي شعرها بمشيب يوغر بموعد الرحيل وتجاعيد ليست سوى دلائل على كل الخبرات المكتسبة من معركة الحياة.

تتفادى عمداً ذكر أسماء شخصياتها بل حتى اسمها وهي حاملة الشيء الوحيد الذي لا يتجزأ منها ولا يفارقها إلى نهاية الرواية دفترها توأم لسانها الذي يبادلها الأدوار للبوح قليلاً عن تفاصيلها الصغيرة والسرد كثيراً عن الخطوط العريضة لموسم العبور إلى الغرب لأنها تختصر الكل فيها، وتعمم نفسها على الكل.

لا تنسى أن تخيط من المسافة الفاصلة بين شرقها وغربها برحلة الموت والحياة وتغرس في جبينها نيسان وكانون وشباط الأحداث.

تعشق نفسها بملامحها التي تشبه أمها بانحناءة، بانحدار شغف مستخدمة لغتها اللطيفة التي تجعل فكرنا دهشاً أمام الوصف وهي تعاين بحزن صامت” ضربة الجزاء المهدورة في ملعب الوطن”

ما أرغمها مع الكثيرين للنزوح من ربيعه إلى بلاد الثلج. قصص النزوح تنساب حكايات تقضم أصابعها المتعرقة ممسكة يراعها تلوذ بدفترها لتمر بكل الزوايا التي بكي فيها إنسانها الشرقي، بل وكل من صادفتهم من أجناس وبيئات مختلفة في هذا العالم المحض بفكرة الاختلاف والتشابه، منتمية إلى زمان ومكان لا تشخّصه باسم سوى بدلالة هروب من ظلم ومعارك وشيكة، بل بآلام مخاض ما قبل الإجهاض الذي لا يبشّر بولادة وصرخة انعتاق، لذلك تحمل ذاك الرحم الذي يتلوى وجعاً إلى غرب ربما تُجرى له ولادة قيصرية ليبصر الوليد نور حياة ركل رحم أمه كثيراً ليصل إليها.

حتى الريح لم تفلت من كلماتها، هي تشبّه ضرباته” بعقاب الشيوخ للتلاميذ في الكتاتيب” مكثرة من المترادفات والعطوفات للتعبير عن شيء أو شخص ما في روايتها ” الأمل والانبعاث، خوفها وفزعها” بتعابير ملفتة فتقول:

 “وأنا أهدّ خفافيش الخوف والجبن”.

ثم تحط الرحال في قاموس المفردات الدينية وتصبغ على الحدث بما يجعل القارئ يتعرف إلى الخلفية الدينية لعائلتها ومدى تأثرها بشخصية والدها والكتب التي تناولتها وقرأتها في صباها،

الأمر الذي جعل كلماتها تنوح بنغمة ثرّة تفوح منها رائحة القبة البيضاء وشجرة الأمنيات التي تتوسط ساحتها، الدير القديم في مدينتها ومحاولتهم إلصاق قطع الفخار الصغيرة على حائطه لتحقيق أمانيهم:

 “لأن أبي كان شيخ دين، يساقون إلى الكعبة ليتمّموا واجب الرجم، تضرعاً وخيفة، على جدار الدّير الحجري وأمانيهم ترتعش”.

 تستطيع بحنكتها ومعايشتها لكل تفاصيل الوجع أن تتحدث عن الإنسان بكل شاردة وواردة محللة نفسيته ووضعه كإنسان تسوّغ له أحياناً وتعرّيه أحايين كثيرة، فقط لتثبت طبيعته البشرية وجانبي الخير والشر فيه دون أن تنسى الاختلاف في الطبائع وحكمة التصرف أو التحامق.

البلاد التي ساوت بين الجلاد والضحية،

بين المستغِل والمستغَل، بين القاتل والقتيل، بين من يستحق ومن لا يستحق

وهي تتماهى في سرد الوقائع قبيل تجهّم البحر وأثناءه وقبيل السلام على المركب وبعده وتلك الساعة الفاصلة بين الموت وشاطئ النجاة. لا تنسى أن تذكرنا بنفسها بأنها موجودة في طوابير الانتظار مع تلك الحشود التي بلغت التراقي حيث التفت الساق بالساق وجهل الكل أين المساق في يوم حشر عظيم، وهي تدَوَّن معهم على الكمبيوترات مجرد رقم.

تؤخَذ لكل واحد منهم صورة سيئة وتدفن بين الأوراق والثبوتيات ليتم مواجهتهم بتلك الصورة بعد حين، حتى لا ينسوا أنهم كانوا لاجئين وكأنّ الحبشة ستمنّ على المهاجرين بأنها فتحت حضنها لهم دون الخوض أو النظر في الخلفيات المهاجرة ، فتبدأ معركتها من جديد في الفصل والوصل بين إنسان في الشرق لا يقاد إلا بالسوط وآخر في الغرب تمّ تلقينه أن الشرقيين هم الدون وأنهم لا يفقهون لغة التحضر حتى في كيفية استخدام فرشاة الأسنان، فهي للتنظيف وليست للأكل وكأنها تتحدث عنا جميعاً نحن الذين نحمل صفة لاجئ.

لا بد وأن كل منا كان هناك في ذلك الطابور تحت تلك الخيام في انتظار الأكل الرديء والنظرة الدونية والخلاف والاختلاف والمعارك الجانبية بين الهاربين الذين يشبهون الكنة والحماية، الكنة التي كانت تُظلم صارت تَظلم والحماية التي كانت متسلطة أصبحت تجد نفسها الآن ضعيفة، مستكينة مع تبدل الظروف والأدوار، مستغربة كيف نهرب من الظلم لنظلم، من اللصوص لنسرق، من التطرف لنتطرف.

أجادت الوصف عندما شرحت كيف أن لحظة الموت والحياة واحدة تحدث في نفس الثانية، فالبلم الذي رمى بالنفير على شاطئ النجاة رمى بنفس النفير في نفس اللحظة في بطن البحر الذي كان قد صام دهراً وأفطر على أجساد من اللحم والدم:

“المسافة بين الحياة والموت بسمة ودمعة وأمنية لم تكتمل”. الصفحة 154وهي تجعل مأساة آلان الكردي ذكرى تدق في منطق إنسانية الغرب وشاحنات الموت التي بخلت بهواء الرب ليتنفسه الواجمون في صمت مريب في رحلتهم الأخيرة نحو الموت الذي هربوا منه أخلاء الوفاض واشتروه بدولارات كثيرة.

لم تنسى أن تذكر كيف يبني الغربي أمجاد وطنه وكيف يبني الشرقي مجده الخاص فوق جثة الوطن وأنهار الدماء:

“في هذه البلاد لم يعد الزمان يقاس على ريختر الأوقات، لم يعد يخضع لقانون التجزئة والشتات. الزمن هنا قد يعاش دفعة واحدة في اليوم الواحد كما أيام هذه البلاد التي تعيش في الواحد منها الفصول الأربعة”. الصفحة 159

نارين عمر المرأة التي تحدثت عن المرأة هنا وهناك والأمور الاشكالية بين الجهتين “الشرف والناموس، الطلاق والزواج، التربية والأطفال، الأبوة والأمومة، القوانين والحب، الذكر والأنثى، السبي والرق، الهشاشة هناك والقوة هنا، قتل النساء، ادعاء موتها انتحاراً وسقوطاً ووو.. إقحام الدين في التحليل والتحريم:

“تدرك أن شرقها لن يفلت من مخالب التخلف والانحطاط ما دامت المرأة هي الشرف والناموس، وعواطفها هي ميزان التأرجح بين الشرف واللاشرف، الناموس أو نقيضه. علة العلل عندهم أن الذكر يدرك بالفطرة أنه هو لوحده مالك الحس والشعور، سيد الحب وما يثيره من المتعة والجنون، اللهو والتعقل، وكأن الوجود من أجله فقط نفث الروح في الجسد، ألبسهما للأرض والسماء وما فيهما وعليهما”.

سبب توق النساء للغرب لنيل حقوقهن وتحجيم دور الذكر أو إعادته إلى دوره الطبيعي والوحيد في حياتها:

((المرأة في هذه البلاد كائن تستمدّ كيانها من ذاتها كالنجمة التي تستمد ضوءها لا تحمل إلا وزر وجودها، لا تحمل أوزار الآخرين من الذكور والإناث….)). الصفحة 74

فهم الكاتبة لسلوك البشر والطعن فيه، والتبرير له صنع لها من رحلة لجوئها مغامرة لتكون قوية ومتصالحة مع وضعها الجديد، وضعها المتقلقل غير المستقر حسب السياسات الدولية والذي يجب أن تتماشى معه لتستطيع العيش، وأمام كل ذلك تراودها فكرة الرجوع الى الوطن. تستذكر عمتها وهي جاثية على ركبتيها تنظر في عينيها الغارقتين في يمّ عميق، تسمع حديث الموت والولادة وقصصهم العائلية والمصير القديم الجديد وجدتها وحكاياتها عن البحر وعن الخير والشر، والذي لم يختلف حتى الآن. الاختلاف الوحيد هو أنها هي أصبحت الشخصية المحورية والبطلة في حكايات جدتها وتأثير كل ذلك على شخصيتها لأن معاناتها ليست إلا جزء من معاناة شعبها ووطنها، بل معاناة كل إنسان على وجه البسيطة لذلك لم تتطرق إلى ذاتها إلا من خلال بعض الايحاءات:

الدراجة بين تلتين وهجوم الكلاب عليهم، الكلب روتو والطفلة لولو

خيبة أملها من بعض الذين أحسنت إليهم، البحيرة وتأملاتها، قربها من الجهة اليسرى الذي ينبض بحبها:

“عندما أغدو بمحاذاة كتفك الأيسر، على بعد أنفاس من الجهة اليسرى لصدرك سوف أطلق العنان للوتين كي يغازل وتيني لتمهيد الدّرب بين قلبينا في مراسيم لا يحضرها سوانا، ووتين القلبين الشّاهدان الوحيدان علينا”.

أعود إلى التعابير:

“مبللة بخطايا المِلَل والأجناس،

مناسك الغربة” هذه الجمل التي تحكي الكثير الذي اختصرته في:

“الأخذ بالجملة والعطاء بالتقسيط أو منقطاً، التعامل بالمثل في كل الأحوال وإشعار الآخر بمحاسنك ومآثرك” الصفحة 133

يؤلمها ما آلت إليه حال شباب بشرها كما تسميهم:

“شبان وشابات، صبايا وصبيان كانوا يدغدغون وجنتي المدى، يحرثون تراب اليوم لثمار أفضل للغد. مضغهم المدى، ابتلعهم الغد غدراً من الخلف، ولأنهم لم يكونوا يحسبون حساباً لغدرهما، أي” الغد والمدى” حصل ما حصل”. الصفحة 116

هنا حبذا لو تم الاستغناء عن كلمة “أي”

عندما تحدثت عن المدى والغد.

 تحدثت عن المكان “سرخت، بن خت”،

أخوة الآخرة الأبدية، جيرانها، زهرة النرجس والريحان، الحب:

“غياب خلف لي وراءه قطرات ندى تنساب كدموعي الأخيرة فوق وجنتي النرجس والريحان التي ما تزال تحتضنها حافات شرفة دارنا لحظة فراق لم نقم له مراسيم الوداع والعاشق والمعشوق بصمت أنشدا معزوفة الهجران”.

الصفحة 148

دفترها الذي لا يزال يحتفظ بأسرار وردة مهداة إليها، ونظرة متلصصة من حبيب قديم، السماء عرفت مقصد الأفق، رحيل الأم.

حاولت عدم التطرق إلى دواخلها بإسهاب، ولكن الكلمات غاصت بنا بعيداً لنسبر أغوارها ونستنتج ما نرغب به أو على الأقل ما فهمناه وهنا مكمن التشويق:

“بركة الماء لما رأتني أرنو إليها وأنا أتراقص على صفحاتها، انتحلت صفة قائد اوركسترا، بدأت تعزفني سيمفونية حنان في نبض الحنين وقطرات الماء تلثم وجنتيهم. المارون أسكرتهم مشاعر السيمفونية فتراقصوا كما شاء لهم السكر والحنين” 178

المقارنات المتعبة بين الشرق والغرب وهي تورد على لسان بطلة الرواية:

“لاحظت أنه لا اختلاف جوهرياً بين بشر شرقها وسكان الأرض السّمراء وأهل شرق الغرب، أو الشرق الغربي من حيث الطباع والطبائع. أدهشتها تصرفاتهم وسبل تعاملهم، وفوق ذلك يرونها ومن ينتمي إلى أرض وطنها من شرق التخلف والانحطاط….”.

الندم على الوصول للأرض الموعودة،

وباء الحقيقة في الغرب، معاناة المتعبين وسعادة المتسلقين يكاد شخير الضمير يصم الآذان.

الأسئلة المثيرة التي طرحتها بطلة الرواية، حوار الحكمة والسذاجة،

قصائد الحب بمفردات حربية، وقد آلمها ما وصلت إليه أحوال شعبها حتى العشاق والمحبين منهم: 

((تفكيك لغز قلبك أشدّ صعوبة من تفكيك أرض وطني الموبوءة بالقنابل المستهترة بهم، ليتك كنتَ أحد المقاتلين المحاصرين لمدينتي كما أنت محتل محاصر لقلبي، كنت حينها تبرعت للقتال ضد قلبك، مواجهة مشاعرك، وفي لحظة انتصار كنت أسرتك، ثمّ نفيتك إلى قلبي وفرضت الإقامة الجبرية عليك فيه”.

كلمة اللعنة التي تستخدم بكثرة كلعنة الحب، لعنة الابتسامة، لعنة الحرب:

“وحدها الحرب -ألا اللعنة على الحرب- إذا حلت بأرض جعلت عاليها سافلها…” الصفحة 11 تظهر الألم الدفين لديها على نفسها وشعبها.

تحاول نارين عمر أن تشير إلى أن القدر في الكثير من الأحيان يكون من صنع البشر ليكون المتهم الأول في الكوارث التي تحل بهم:

“قدر خلقناه، نفثنا فيه من روحنا الخيّرة والشّريرة معاً، حمّلناه مهمّة اللعب معنا أو بنا..”

لتختم روايتها قائلة:

“قبل الرحيل حوم الحلم خاصرة بلاد عشنا فيها عمر الحلم

بعد الرحيل، صرنا نعيش بلادنا في حلم عمر ربما ما عاد للعمر بقية. 

مقالات ذات علاقة

التقنية الرئيسة في رواية قنابل الثقوب السوداء

المشرف العام

ما قبل المليون شجرة

هاجر الطيار (الأردن)

صباحكم أجمل/ كور والدر المنثور

زياد جيوسي (فلسطين)

اترك تعليق